دعائي لربي

 

قلت المدون سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القديرالمقتدرالملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني أسألك أن تَشفني شفاءا لا يغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تيسر لي أمري وأن تحلل عُقَدْ لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك يا ربي اللهم آمين .

الثلاثاء، 13 سبتمبر 2022

ج2. العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم(2) تأليف: القاضي أبي بكر العربي (468ـ 543 هـ )

 

ج2. العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم(2)
تأليف: القاضي أبي بكر العربي (468ـ 543 هـ )

... قد ذهب مالك وجماعة إلى أن الإمام يرى في الخمس ، وينفذ فيه ما أداه إليه اجتهاده ، وان إعطاءه لواحد جائز ، وقد بينا ذلك في مواضعه ( 1 ) .
وأما قولهم إنه ضرب بالعصا ، فما سمعته ممن اطاع أو عصى ، وإنما هو باطل يحكى ، وزور ينثى ( 2 ) ، فيا لله وللنهي .
واما علوه على درجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما سمعته ممن فيه تقية . وإنما هي إشاعة منكر ، ليروى ويذكر ، فيتغير قلب من يتغير ، قال علماؤنا : ولو صح ذلك فما في هذا ما يحل دمه ولا يخلو أن يكون ذلك حقاً فلم تنكره الصحابة عليه ، إذ رأت جوازه ابتداء أو لسبب أقتضى ذلك . وإن كان لم يكن فقد أنقطع الكلام ( 3 ) .
واما أنهزامه يوم حنين ، وفراره يوم أحد ، ومغيبه عن بدر وبيعة الرضوان ، فقد بين عبد الله بن عمر وجه الحكم في شان البيعة وبدر وأحد . واما يوم حنين فلم يبق إلا نفر يسير مع
-------------------------------------

( 1 ) أي في مولفاته الأخرى عند بسطه هذه المسألة من أحكام الفقه الإسلامي قال الإمام عامر بن شراحيل الشعبي : (( إنما القطائع على وجه النقل من خمس ما أفاء الله )) قال : (( وأقطع عمر طلحة وجرير بن عبد الله والربيل بن عمرو : وأقطع ( أي عمر ) أبا مفزر دار الفيل )) . وممن أقطعهم عمر بن الخطاب نافع أخو زياد وأبي بكرة لأمهما ، أقطعه أرضاً في البصرة لخيله وإبله مساحتها عشرة أجربة ( أنظر ترجمة نافع في الإصابة ) قال القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج ( ص 61 ) وقد أقطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتألف على الإسلام أقواماً ، وأقطع الخلفاء من بعده من رأوا أن في إقطاعه صلاحاً ( وضرب أبو يوسف الأمثلة على ذلك ) . وانظر باب القطائع في ص 77 – 78 من كتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي طبع السلفية . وذكر الإمام الشعبي بعض الذين أقطعهم عثمان فقال : (( وأقطع الزبير ، وخباب ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وابن هبار أزمان عثمان ، فإن يكن عثمان أخطأ فالذين قبلوا منه الخطأ أخطأوا ، وهم الذين أخذنا عنهم ديننا )) ( الطبري 4 : 148 ) . وأقطع على بن ابي طالب كردوس بن هانئ الكردوسية ، واقطع سويداً بن غفلة أرضاً لداذويه . فكيف ينكرون على عثمان ويسكتون عن عمر وعلى . وللقاضي أبي يوسف كلام سديد في هذا الموضوع في كتاب الخراج ( ص 60 – 62 طبعة السلفية سنة 1352 ) ، وما زعمه الزاعمون من أن عثمان كان يود ذوي قرابته ويعطيهم من فضائله ، وعلى أثنى على عثمان بأنه أوصل الصحابة للرحم ، وعثمان أجاب عن موقفه هذا بقوله : (( وقالوا إني أحب أهل بيتي وأعطيهم فإني إنما أعطيهم من مالي ، ولا استحل أموال المسلمين لنفسي ، ولا لأحد من الناس ، وقد كنت اعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، وانا يومئذ شحيح حريص ، أفحين أتت على اسنان أهل بيتي وفني عمري وودعت الذي لي في أهلي قال

الملحدون ما قالوا ؟ )) . قال الطبري ( 5 : 103 ) : وكان عثمان قد قسم ماله وأرضه في بني أمية ، وجعل ولده كبعض من يعطي ، فبدأ بيني أبي العاص فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف عشرة آلاف فأخذوا مائة الف ، واعطى بني عثمان مثل ذلك ، وقسم في بني العاص وبني العيص وفي بني حرب بل تمادى شيخ الإسلام ابن تيميه مع أوسع الاحتمالات فذكر في منهاج السنة ( 3 : 187 –188 ) أن سهم ذوى القربى ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لقرابة الإمام كما قاله الحسن أبو ثور ، وان النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي اقاربه بحكم الولاية …و قيل هو لمن ولى الأمر بعده … قال : وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية أو بمال . ثم قال ( في 3 : 237 ) : (( إن ما فعله عثمان في المال له ثلاثة مآخذ : أحدها أنه عامل عليه ، والعامل يستحق مع الغنى . الثاني أن ذوى القربى هم ذوو قربى الإمام . الثالث أنهم ( أى ذوو قربى عثمان ) كانوا قبيلة كثيرة ليسوا مثل قبيلة أبي بكر وعمر ، فكان يحتاج إلى إعطائهم وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكر وعمر إلى تولية أقاربهما وإعطاؤهما . وهذا مما نقل عن عثمان الاحتجاج به )) .
( 2 ) نثى الخبر والحديث : أذاعة وأظهره . والثنا مثل الثناء . إلا أنه في الخبر والشر ، والثناء في الخير خاصة .

( 3 ) كان مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضيق المساحة في عصر النبوة وخلافة أبي بكر ، وكان من مناقب عثمان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما زاد عدد الصحابة أن اشترى من ماله مساحة من الأرض وسع بها المسجد النبوي ، ثم وسعه أمير المؤمنين عمر فأدخل فيه دار العباس بن عبد المطلب . ثم زاد عدد المصلين بازدياد عدد سكان المدينة وقاصديها فوسعه أمير المؤمنين . عثمان مرة أخرى وجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع وجدد بناءه . فاتساع المسجد وازدياد غاشيته وبعد أمكنة بعضهم عن منبر الخطابة يجوز أن يكون من ضرورات ارتفاع الخطيب ليراهم ويروه ويسمعوه .

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ولكن لم يجر في الآمر تفسير من بقى معه إلا العباس وابناه عبد الله وقثم ، فناهيك بهذا الاختلاف ، وهو أمر قد أشترك فيه الصحابة ، وقد عفا الله ورسوله ، فلا يحل ذكر ما أسقطه الله ورسوله والمؤمنون ، أخرج البخاري ( 1 ) : جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان ، فذكر عن محاسن عمله وقال : لعل ذلك يسوؤك ؟ قال : نعم . قال : فأرغم الله بأنفك ! ثم سأله عن علي ، فذكر محاسن عمله وقال : وهو ذاك بيته أوسط بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - . ثم قال : لعل ذلك يسوؤك ؟ قال : أجل . قال (( بنى الإسلام على خمس )) زيادة فيه للبخاري في علي وعثمان ( 2 ) . وقد أخرج البخاري أيضاً ( 3 ) من حديث عثمان بن عبدالله أبن موهب قال : جاء رجل من أهل مصر يريد حج البيت ، فرأى قوماً جلوساً ، فقال : من هؤلاء ؟ قالوا : هؤلاء قريش . قال : فمن الشيخ فيهم ؟ قالوا : عبد الله بن عمر . قال : يابن عمر ، إني سائلك عن شئ فحدثني عنه . هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد ؟ قال : نعم . فقال : تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد : قال ؟ نعم . قال : هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال : نعم . قال : اله أكبر ! قال ابن عمر ، تعا أبين لك . اما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له . وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت مريضة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه ( 4 ) .
... واما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان ( 5 ) وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة ( 9 ) ، فقال رسول الله
------------------------------
( 1 ) في كتاب فضائل الصحابة ( ك 62 ب 9 – ج 4 ص 208 ) من حديث سعد بن عبيدة .

( 2 ) لعل المؤلف إلى حديث ابن عمر في كتاب التفسير من صحيح البخاري ( ك 65 ب 2 تفسير البقرة الحديث 30 ج 5 ص 157 ) .
( 3 ) في كتاب فضائل الصحابة ( ك 62 ب 7 – ج 4 ص 203 – 204 ) .
( 4 ) وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ببشرى النصر في بدر مع زيد بن حارثة إلى عثمان في المدينة . قال أسامة بن زيد – فيما رواه الطبري 2 : 286 - : (( فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التى كانت عند عثمان ابن عفان ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلفني عليها مع عثمان )) ثم في ربيع الأول من السنة التالية لغزوة بدر تزوج عثمان أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخلت عليه في جمادى الآخرة .
( 5 ) وقيل أن يبعث عثمان دعا عمر بن الخطاب لبيعته إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال عمر : يارسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي وليس في مكة من نبي عدى بن كعب أحد يمنعني . ولكني أدلك على رجل هو أعز مني فيها : عثمان بن عفان . فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش . ويوم تدون الدول الإسلامية تاريخ السفارات في الإسلام ، سيكون اسم عثمان أول سفراء الإسلام في التاريخ .

( 6 ) لأن عثمان لما أدى رسالته في السفارة التى بعث لها أحتبس اياماً . فلم يعد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الموعد الذى كان يقدر له أن يعود فيه ، فوصل الخبر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن سفيره قتل ، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيعة الرضوان ، انتصاراً لعثمان ، على نية أن يذهب بالصحابة إلى مكة فيناجز المشركين لما بلغه عن قتلهم عثمان . فبيعة الرضوان كانت رمزاً من رموز الشرف لعثمان ، واي شرف أعظم من اجتماع قوى الإسلام بقيادة الرسول الأعظم للأخذ بثأر الرجل الحبيب إلى المسلمين ، والرفيع المنزلة عند سيد الأولين والآخرين ؟ ثم لما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - - في اللحظة الأخيرة التى اجتمع فيها الصحابة لعقد البيعة – أن عثمان حى ، مضى في إتمام البيعة على سنته - صلى الله عليه وسلم - في أنه إذا بدأ بخير يمضى في إكماله ولو زال سببه . وحينئذ كان لعثمان الشرف المضاعف بأن يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نابت عن يده في عقد البيعة عنه . فبيعة الرضوان كانت انتصاراً لعثمان ، وجميع الصحابة بايعوا بايدى أنفسهم إلا عثمان فإن أشرف يد في الوجود نابت عن يده في إعطاء بيعته ولو لم يكن لعثمان من الشرف في حياته كلها إلا هذا لكفاه .
- صلى الله عليه وسلم - بيده اليمنى : (( هذه يد عثمان )) فضرب بها على يده فقال : (( هذه لعثمان )) . ثم قال له ابن عمر : اذهب بها الآن معك ( 1 ) .

... واما امتناعه عن قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان فإن ذلك باطل ( 2 ) . فإن كان لم يفعل فالصحابة متوافرون ، والأمر في أوله ، وقد قيل : إن الهرمزان سعى في قتل عمر ، وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه ( 3 ) ، وكان قتل عبيد الله له عثمان لم يل بعد ، ولعل عثمان كان لا يرى على عبيد الله حقاً ، لما ثبت عنده من حال الهرمزان وفعله ( 4 ) ، وأيضاً فإن أحداً لم يقم بطلبه . وكيف يصح مع هذه الاحتمالات كلها أن ينظر في أمر لم يصح ؟ .
-------------------------------
( 1 ) لو أن أمير المؤمنين عثمان كان من حواريى المسيح عليه السلام ، وكانت له من سيدنا عيسى بن مريم مثل هذه المنقبة التى كرمه بها من نبي الرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لعبدته النصارى لأجلها . فالعجب لأمة يكون فيها جهلة يعيبون على عثمان – في زمانه – غيبته عن بيعة الرضوان ، ويكون فيهم من يستشعر الشجاعة في نفسه عند الإقدام على سفك دم هذا الخليفة الرحيم لأمور هذا منها ، ثم يحمل مثل هذا الجهل في دماغه رجل جاء يعبد الله باداء فريضة الحج فيواجه به جماعة الصحابة من قريش ورئيسهم عبد الله ابن عمر . ثم تمس الحاجة إلى التعرض لبيان هذه الحقائق في عصر القاضي أبي بكر بن العربي ، ثم يشعر أمثالنا في عصرنا بأن عثمان لا يزال من بعض أمته في موقف يحتاج فيه إلى إنصافه ودفع قاله السوء عنه . حقاً إننا أمة مسكينة …. ولأمر ما بلغ بنا الحال بين الأمم إلى ما كنا فيه ، وإلى ما لا تزال غارقين فيه { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم } .

( 2 ) بشهادة ابنه القماذبان . روى الطبري ( 5 : 43 – 44 مصر و 1 : 2801 طبعة أوروبا ) عن سيف بن عمر بسنده إلى أبي منصور قال : سمعت القماذبان يحدث عن قتل أبيه …. قال : (( فلما ولى عثمان دعاني فأمكنني منه )) ( أي من عبيد الله بن عمر بن الخطاب ) ثم قال : (( يا بني هذا قاتل أبيك ، وانت أولى به منا ، فاذهب ، فاقتله )) . فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي ، إلا أنهم يطلبون إلى فيه . فقلت لهم : آلى قتله ؟ قالوا نعم . وسبوا عبيد الله . فقلت : أفلكم أن تمنعوه ؟ قالوا : لا . وسبوه . فتركه لله ولهم . فاحتملوني . فواللهما بلغت المنزل إلا على رءوس الرجال وأكفهم )) . هذا كلام ابن عمر في عنق الهرمزان ، وأن أبا لؤلؤة لم يكن إلا آلة في يد هذا السياسي الفارسي وإن موقف عثمان وإخوانه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الحادث لا نظير له في تاريخ العدالة الإنسانية .
( 3 ) وقد تصرف عثمان في هذا الآمر بعد أن ذاكر الصحابة فيه . قال الطبري ( 5 : 41 ) جلس عثمان في جانب المسجد ودعا عبيد الله وكان محبوساً في دار سعد بن ابي وقاص ، وهو الذي نزع السيف من يده ، فقال عثمان لجماعة من المهاجرين والأنصار : أشيروا علي في هذا فتق في الإسلام ما فتق . فقال علي : أرى أن تقتله . فقال بعض المهاجرين : قتل عمر أمس ، ويقتل ابنه اليوم ؟ فقال عمرو بن العاص : يا أمير المؤمنين ، إن الله أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان ، إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك ، قال عثمان : أنا وليهم ، وقد جعلتها دية ، واحتملتها في مالي .

( 3 ) وفي تاريخ الطبري : ( 5 : 42 ) حديث سعيد بن المسيب أن عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق قال غداة طعن عمر : (( مررت على ابي لؤلوة عشى أمس ، ومعه جنيفة ( وكان نصرانياً من أهل الحيرة ظئراً لسعد بن أبي وقاص ) والهرمزان ، وهم نجى ، فلما رهقهم ثاروا ، وسقط منهم خنجر له راسان نصابه في وسطه . فأنظروا بأي شئ قتل ؟ وخرج في طلبه رجل من بني تميم ، فرجع إليهم التميمي وقد كان ألظ بأبي لؤلؤة منصرفه عن عمر حتى أخذه . وجاء بالخنجر الذي وصف عبد الرحمن بن أبي بكر . فسمع بذلك عبيد الله بن عمر ، فأمسك حتى مات عمر ، ثم اشتمل على السيف فأتى الهرمزان فقتله .

( 4 ) وكذلك حبر الأمة عبد الله بن عباس رأى جواز قتل علوج الفرس الذين في المدينة بلا استثناء . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 3 : 200 ) : وقد قال عبد الله ابن عباس لما طعن عمر – وقال له عمر : كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة – فقال ( أي ابن عباس ) : (( إن شئت أن نقتلهم )) فقال عمر : (( كذبت ، أفبعد أن تكلموا بلسانكم ، وصلوا إلى قبلتكم ؟ )) . قال ابن تيمية : فهذا ابن عباس – وهو أفقه من عبيد الله ابن عمر وأدين وأفضل بكثير – يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقاً الذين كانوا بالمدينة ، لما اتهموهم بالفساد ، اعتقد جواز مثل هذا …. وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان من المسدين في الأرض المحاربين فيجب قتله لذلك . ولو قدر أن المقتول معصوم الدم يحرم قتله ، لكن كان القاتل متأولاً ويعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة ، صار ذلك شبهة تدرأ عن القاتل ( يعني عن عبيد الله بن عمر ) قلت : وإلى هذا ذهب عثمان في أكتفائه بالدية واحتملها من ماله الخاص . ولو أن حادث مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – بجميع ظروفه – وقع في أي بلد آخر مهما بلغ في ذروة الحضارة لما كان منهم مثل الذي كان من الصحابة في تسامحهم إلى حد المطالبة حتى بقتل ابن أمير المؤمنين المقتول بيد الغدر والنذالة والبغي الذميم .
وأما تعلقهم بان الكتاب وجد مع راكب ، أو مع غلامه – ولم يقل أحد قط إنه كان غلامه ( 1 ) – إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح يأمره بقتل حامليه ( 2 ) ، فقد قال لهم عثمان : إما أن تقيموا شاهدين على ذلك ، وإلا فيميني أنى ما كتبت ولا أمرت ( 3 ) . وقد يكتب على لسان الرجل ، ويضرب على خطه ، وينقش على خاتمه ( 4 ) .

... فقالوا لتسلم لنا مروان . فقال : لا أفعل . ولو سلمه لكان ظالماً ( 5 ) وإنما عليهم أن يطلبوا حقهم عنده على مروان وسواه ، فما ثبت كان هو منفذه وآخذه والممكن لمن يأخذه بالحق . ومع سابقته وفضيلته ومكانته لم يثبت عليه ما يوجب فضلاً عن قتله .
... وامثل ما روى في قصته أنه – بالقضاء السابق – تالب عليه قوم لأحقاد اعتقدوها : ممن طلب أمراً فلم يصل إليه ، وحسد حسادة أظهر داءها ، وحمله على ذلك قلة دين وضعف يقين ،
---------------------------------

( 1 ) وإنما قالوا إنه غلام الصدقة ، أى أحد رعاة إبل الصدفة ؟ وإبل الصدقة ألوف كثيرة لها مئات من الرعاة . وإن صح أنه من رعاة إبل الصدقة فهؤلاء لكثرتهم وتبدلهم دائماً بغيرهم لا يكاد يعرفهم رؤسائهم عن أن يعرفهم أمير المؤمنين وكبار عماله وأعوانه . ومع افتراض أنه من رعاة إبل الصدقة فما أيسر أن يستأجره هؤلاء البغاة لغرض من أغراضهم ، وقد ثبت أن الأشتر وحكيم بن جبلة تخلفا في المدينة عن رحيل الثوار عنها مقتنعين بأجوبة عثمان وحججه ، وفي مدة تخلف الأشتر وحكيم بن جبلة تم تدبير الكتاب وحامله للتذرع بهما في تجديد الفتنة ورد الثوار ، ولم يكن لأحد غير الأشتر وأصحابة مصلحة في تجديد الفتنة ؟ وكم لهم من حيل أكثر التواء من استئجار راع يرعى إبل الصدقة . بل لقد ذكروا عن محمد بن ابي حذيفة ربيب عثمان الآبق من نعمته أنه كان في نفس الوقت موجوداً في مصر يؤلب الناس على أمير المؤمنين ويزور الكتب على لسان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ويأخذ الرواحل فيضرمها ويجعل رجالاً على ظهور البيوت في الفسطاط ووجوههم إلى وجه الشمس لتلوح وجوههم تلوح المسافر ثم يأمرهم أن يخرجوا إلى طريق الحجاز بمصر ثم يرسلوا رسلاً يخبرون عنهم الناس ليستقبلونهم …. فإذا لقوهم قالوا إنهم يحملون كتباً من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشكوى من حكم عثمان ، وتتلى هذه الكتب في جامع عمرو بالفسطاط على ملإ الناس وهي مكذوبة مزورة وحملتها كانوا في مصر ولم يذهبوا إلى الحجاز ( أنظر كتاب الأستاذ المحقق الشيخ صادق عرجون عن (( عثمان بن عفان )) ص 122 – 133 ) فتزوير الكتب في مأساة البغي على أمير المؤمنين عثمان كان من أسلحة البغاة أستعملوه من كل وجه وفي كل الأحوال وقد تقدم المثال على ذلك في صفحة 59 ، وسيأتي طرف منه فيما بعد .

( 2 ) وكيف يكتب إلى عبد الله بن سعد بن ابي سرح وقد أذن له بالمجئ إلى المدينة ويعلم أنه خرج من مصر ( الطبري 5 : 122 ) وكان المتسلط على الحكم في الفسطاط محمد ابن ابي حذيفة رئيس البغاة وعميدهم في هذه الجهة : ومضمون الكتاب المزور قد أضطرب رواة أخباره في تعيين مضمونه . وسيأتي الكلام على ذلك كله فيما بعد .
( 3 ) قال شيخ الإسلام ابن تيميه في منهاج السنة ( 3 : 188 ) : كل ذي علم بحال عثمان يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر ولا أمثاله ، ولا عرف منه قط أنه قتل أحداً من هذا الضرب . وقد سعوا في قتله ( أي في قتل أمير المؤمنين عثمان ) ودخل عليه محمد فيمن دخل ، وهو لا يامر بقتالهم دفعاً عن نفسه ، فكيف يبتدئ بقتل معصوم الدم .
( 4 ) وقد حدث مثل ذلك في زمن عمر ، كما رواه البلاذري في فتوح البلدان ( ص 448 – طبع سنة 1350 ) والحافظ ابن حجر في الإصابة ( 3 : 528 طبع سنة 1328 ) .
( 5 ) قال شيخ الإسلام ابن تيميه في منهاج السنة ( 3 : 189 ) بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن أبي بكر هو اولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان . لن عثمان إمام هدى وخليفة راشد يجب عليه سياسة رعيته وقتل من لا يدفع شره إلا بقتله . وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض ليس لهم أحد ولا إقامة حد . وليس مروان أولى بالفتنة والشر من محمد بن ابي بكر ، ولا هو ( أي ابن أبي بكر ) أشهر بالعلم والدين منه ( أي من مروان ) : بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان ، وله قول مع أهل الفتيا ، وأختلف في صحبته . ومحمد بن أبي بكر ليس بهذه المنزلة عند الناس …. ومروان من أقران ابن الزبير ….. إلخ .
وإيثار العاجلة على الآجلة ( 1 ) . وإذا نظرت إليهم دللت صريح ذكرهم على دناءة قلوبهم وبطلان أمرهم ( 2 ) .
كان الغافقي المصري أمير القوم ( 3 ) ، وكنانة بن بشر التجيبي ( 4 ) وسودان بن حمران ( 5 )

-------------------------------------
( 1 ) بمثل هذه الأوصاف وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في الخطبة التى خطبها على الغرائر في معسكره بالكوفة عندما كان الصحابي الفارس المجاهد القعقاع بن عمرو التميمي بإتمام المهمة التى جاءت عائشة وطلحة والزبير لإتمامها ، فروى الطبري ( 5 : 194 ) أن علياً ذكر إنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم الذي يليه ، ثم الذي يليه . وقال على مسمع من قتلة عثمان - : (( ثم حدث هذا الحادث الذي جره على الأمة طلبوا هذه الدنيا ، حسدوا من أفاء الله عليه على الفضيلة ، وأرادوا رد الأشياء على ادبارها )) ثم ذكر أنه راحل غداً إلى البصرة ليجتمع بام المؤمنين وأخويه طلحة والزبير وقال : (( ألا ولا يرتحلن غداً أحد أعان على عثمان - رضي الله عنه - بشئ في شئ من أمور الناس ، وليغن السفهاء عني أنفسهم )) .
( 2 ) أجملنا في هامش ص 58 أوصاف البارزين ممن خرج على عثمان . أول من أكتشف سريرتهم ، ونظر إلى وجوههم بنور الله فتشاءم منهم ، رجل الإسلام المحدث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الفراسة التى لا تخطئ . روى الطبري ( 4 : 86 ) أن عمر لما أستعرض الجيوش للجهاد سنة 14 مرت أمامه قبائل السكوت اليمينية مع أول كندة يتقدمهم حصين بن نمير السكوني ومعاوية بن حديج أحد الصحابة الذين فتحوا مصر ثم كان أحد ولاتها ، فاعترضهم عمر ، فإذا فيهم فتية دلم سباط ، فأعرض عنهم ثم أعرض ثم أعرض ، حتى قيل له : مالك ولهؤلاء ؟ فقال : إني عنهم لمتردد ، وما مر بي قوم من العرب أكره إلى منهم ، فمان منهم سودان بن حمران وخالد بن ملحم ، وكلاهما من البغاة على عثمان .

( 3 ) هو الغافقي بن حرب العكي من أبناء وجوه القبائل اليمينية التى نزلت مصر عند الفتح . فلما نظاهر ابن سبأ بالتشيع لعلى . ولم يجد مرتعاً لفساده في الحجاز ولا في الشام أكتفى باصطناع بعض الأعوان في البصرة والكوفة ، واختار الإقامة في الفسطاط ، فكان الغافقي هذا من قنائصه ، وقد استمالوه من ناحية تهافته على الرئاسة والجاه . وكان محمد ابن أبي حذيفة بن عتبة الأموي ربيب عثمان الآبق من نعمته هو اليد اليمنى لتنفيذ خطط السبإيين في مصر ، الغافقي للتصدر والظهور . وفي شوال سنة 35 أعدوا عدتهم للزحف من مصر على المدينة بأربع فرق مجموع رجالها نحو ستمائة ، وعلى كل فرقة رئيس ورئيسهم العام الغافقي هذا . وتظاهروا بأنهم يقصدون الحج ، وفي المدينة تطورت حركاتهم إلى أن أستفحل الأ/ر ومنعوا عثمان من الصلاة بالناس في المسجد النبوي فصار الغافقي هو الذي يصلي بالناس ( الطبري 5 : 107 ) ، ثم لما أقنعهم الشيطان بالجرأة على الجناية الكبرى كان الغافقي أحد المحبرئين عليه وضربه بحديدة معه وضرب المصحف برجله فاستدار ( الطبري 5 : 130 ) وبعد قتل عثمان بقيت المدينة خمسة أيام وأميرها الغافقي ابن حرب الطبري ( 5 : 155 )

( 4 ) وهذا أيضاً كان من قنائص ابن سبا في مصر . ولما أرسل عثمان عماراً إلى مصر ليكتشف له أمر الإشاعات وحقيقة الحال ، واستماله السبإيون ، وكنا كنانة بن بشر هذا واحداً منهم ( الطبري 9905 ) . وعندما جمعوا أو شاب للقبائل للزحف على المدينة بحيلة الحج في شوال سنة 35 أنقسموا في مصر إلى أربع فرق على كل فرقة أمير ، وكان كنانة بن بشر أميراً على إحدى هذه الفرق ( الطبري 5 : 103 ) ثم كان في طليعة من أقتحم الدار على عثمان وبيده شعلة من نار تنضح بالنفط ، فدخل من دار عمرو بن حزم ودخلت الشعل على اثره ( الطبري 5 : 123 ) . ووصل كنانة التجيبي إلى عثمان فأشعره مشقصاً ( أي نصلاً طويلاً عريضاً ) فانتضح الدم على آية ( فسيكفيكهم الله ) ، ( الطبري 5 : 126 ) وقطع يد نائلة زوجة عثمان ، وأتكأ بالسيف على صدر عثمان وقتله ( الطبري 5 : 131 ) ، قال محمد بن الحارث بن هشام المخزومي المدني المتوفي سنة 43 قال : الذي قتل أمير المؤمنين عثمان هو كنانة بن بشر بن عتاب التجيبى ( الطبري 5 : 132 ) . وفيه يقول الوليد بن عقبة بن ابي معيط :
... ألا إن خير الخلق بعد ثلاثة قتيل التجيبى الذي جاء من مصر
وكانت عاقبة كنانة هذا وقوعه قتيلاً في الحرب التى نشبت سنة 38 في مصر بين محمد بن ابي بكر الديق نائب على وبين عمر بن العاص ومن معه من جيوش معاوية ابن حديج السكوني ( الطبري 6 : 58 – 59 و 60 ) .

( 5 ) السكوني ، من قبائل مراد اليمينية النازلة في مصر ، وقد تقدم في هامش ص 122 أنه كان – في سنة 14 – أحد الذين قدموا في خلافة عمر للجهاد مع جيوش اليمن بقيادة حصين بن نمير ومعاوية بن حديج ، فلما استعرضهم أمير المؤمنين عمر وقع نظره على سودان بن حمران هذا ولعى زميله خالد بن ملجم فتشاءم منهما وكرههما . ولما أرسل أمير المؤمنين عثمان عماراً إلى مصر ليكتشف له مصدر الإشاعات الكاذبة التف السبإيون بعمار وكان سودان بن حمران منهم ( الطبري 5 : 99 ) , ولما سير السبإيون متطوعة الفتنة من أوشاب القبائل اليمنية التى ظهرت في مصر في شوال سنة 35 نحو المدينة وجعلوهم أربع فرق كان سودان قائد إحدى هذه الفرق ( الطبري 5 : 103 ) ، ولما وصل متطوعة الفتنة إلى المدينة وخرج لهم محمد بن مسلمة ليعظهم لهم حق عثمان وما في رقابهم من البيعة له رآهم ينقادون لأربعة هذا واحد منهم ( الطبري 5 : 118 ) . وفي 5 : 131 من تاريخ الطبري وصف تسور سودان ومعه آخرون من دار عمرو بن حزم إلى دار عثمان . وفي 5 : 130 بعض تفاصيل ما وقع من سودان عند ارتكابهم الجناية العظمى . ولما أنتهوا من قتل أمير المؤمنين خرج سودان من الدار وهو ينادي : قد قتلنا عثمان بن عفان ( الطبري 5 : 123 ) .
وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ( 1 ) . وحكيم بن جبلة من أهل البصرة ( 2 ) .
... ومالك بن الحارث الأشتر ( 3 ) في طائفة هؤلاء رؤوسهم ، فناهيك بغيرهم …….
وقد كانوا أثاروا فتنة ، فأخرجهم عثمان بالاجتهاد ، وصاروا في جماعتهم
------------------------------

( 1 ) كان أبوه رجلاً مسناً من مسلمة الفتح . وورد ذكر عبد الله بن بديل في الفتنة العظمى على امير المؤمنين عثمان ، فذكر الطبري ( 5 : 124 – 125 ) أن المغيرة بن الأخنس ابن شريق الثقفي حليف بني زهرة خرج هو وعبد الله بن الزبير ومروان وغيرهم يدافعون عن أمير المؤمنين على باب الدار ، فحمل عبد الله بن بديل على الأخنس بن شريق وقتله ونقل الحافظ ابن حجر في ترجمته في الإصابة ( 2 : 280 ) عن ابن الكلبي أن عبد الله ابن بديل وأخاه عبد الرحمن شهدا صفين مع علي وقتلا بها . والظاهر أن أخاه قتل قبله فقد نقل ابن حجر ( في الإصابة 2 : 281 ) عن ابن إسحاق في كتاب الفردوس أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب لما قدم الكوفة 0 أي مع جيش أهل الشام – لقى عبد الله بن بديل ، فنصح له ابن بديل بأن لا يهرق دمه في هذه الفتنة ، فاعتذر عبيد الله بن عمر بأنه يطلب قتل ظلماً , وكيف يكون أخوه قتل ظلماً وقد قتل في فتنة تطوع للمساهمة فيها مختاراً ، بينما عثمان وهو أمير المؤمنين الذي له حق الولاية عليهم كان مبغياً عليه من ابن بديل وامثاله ومن هم اقل منه شأناً ، ومع ذلك لم يقاتل أحداً ، ولم يدافع عن نفسه ، ونهى الناس عن أن يدافعوا عنه أو باشاً قدموا إلى مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مختلف البلاد ليرتكبوا الشر والإثم . وأين عثمان الذي ملآت حسناته الأرض وتعطرت بأريحها السماء ، من عبد الرحمن بن بديل الذي لا يكاد يعرف له التاريخ عملاً .

( 2 ) حكيم بن جبلة العبدي من قبائل عبد القيس ، وأصلهم من عمان وسواحل الخليج الفارسي ، وتوطن بالبصرة بعد تمصيرها . وكان حكيم هذا شاباً جريئاً ، وكانت الجيوش الإسلامية التى تزحف نحو الشرق لنشر الدعوة والفتوح تصدر عن البصرة والكوفة ، فكان حكيم بن جبلة يرافق هذه الجيوش ، ويجازف في بعض حملات الخطر ، كما تفعل كتائب ( الكوماندوس ) في هذا العصر . وقد استعملته جيوش امير المؤمنين عثمان في إحدى هذه المهمات عند محاولتها استكشاف الهند كما نوهت بذلك في مقالة ( طلائع الإسلام في الهند ) . ويؤكد شيوخ سيف بن عمر التميمي ( وهو أعرف المؤرخين بتاريخ العراق ) على ما نقله عنه الطبري ( 5 : 90 ) أن حكيم بن جبلة كان إذا قفلت الجيوش خنس عنهم فسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة ويتنكر لهم ويفسد في الأرض ويصيب ما شاء ثم يرجع . فشكاه أهل الذمة واهل القبلة إلى عثمان ، فكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر أن أحبسه ومن كان مثله فلا يخرجن من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً ، فحبسه ( أي منعه من مبارحة البصرة ) . فلما قدم عبد الله بن سبأ البصرة نزل على حكيم بن جبلة ، واجتمع إليه نفر ، فنفث فيهم سمومه ، فأخرج ابن عامر عبد الله بن سبأ من البصرة ، فأتى الكوفة فأخرج منها ، ومن هناك رحل ابن سبأ إلى الفسطاط ولبث فيه وجعل يكاتبهم ويكاتبونه ويختلف الرجال بينهم . وذكر الطبري ( 5 : 104 ) أن السبإرية لما قرروا الزحف من الأمصار على مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان عدد من خرج منهم من البصرة كعاد من خرج من مصر ، وهم مقسمون كذلك إلى أربع فرق ، والأمير على إحدى هذه الفرق حكيم بن جبلة ، ونزلوا في المدينة في مكان يسمى ذا خشب ، ولما حصبوا أمير المؤمنين عثمان وهو يخطب على المنبر النبوي كان حكيم بن جبلة واحداً منهم ( الطبري 5 : 106 ) ولما رحل الثوار عن المدينة في المرة الأولى بعد مناقشتهم لعثمان وسماعهم دفاعه شبهة قوية بان لهما

دخلاً في أفتعال الكتاب المزور على أمير المؤمنين . ولما جاءت عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة وأوشكو أن يتفاهموا مع أمير المؤمنين علي على رد الأمور إلى نصابها كان حكيم بن جبلة هو الذي أنشب القتال لئلا يتم التفاهم والاتفاق ( الطبري 5 : 176 وما بعدها ) . وارتكب دناءة قتل امرأة من قومه سمعته يشتم أم المؤمنين عائشة فقالت له : يا ابن الخبيثة أنت أولى بذلك . فطعنها فقتلها ( الطبري 5 : 176 ) ، وحينئذ تخلى قومه عن نصرته إلا الأعمار منهم ، وما زال يقاتل حتى قطعت رجله ، ثم قتل وقتل معه كل من كان في الواقعة من البغاة على عثمان ، ونادى منادى الزبير وطلحة بالبصرة : (( ألا من كان في الواقعة من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم )) فجئ بهم كما يجئ بالطلاب فقتلوا : فما أفلت إلا حرقوص بن زهير السعدي من بني تميم ( الطبري 5 : 180 ) . روى عامر بن حفص عن أشياخه قال : ضرب عنق حكيم رجل من الحد أن يقال له ضخيم فمال رأسه فتعلق بجلده فصار وجهه في قفاه ، الطبري ( 5 : 182 ) .

( 3 ) من النخع، وهي قبيلة من قبائل مذحج ، بطل شجاع من أبطال العرب ، كان أول مشاهدة الحربية في اليرموك ، وفيها فقد إحدى عينيه ، ثم شاء الله أن يكون سيفه مسلولاً على إخوانه المسلمين في مواقف الفتنة . ولو أنه لم يكن ممن ألب على أمير المؤمنين عثمان ، وكتب الله أن تكون وقائعه الحربية في نشر دعوة الإسلام وتوسيع الفتوح ، لكان له في التاريخ شأن آخر . والذي دفعه في هذا الطريق غلوه في الدين وحبه للرئاسة والجاه ، ولست أدرى كيف اجتمعا فيه . والأشتر أحد اللذين اتخذوا الكوفة دار إقامة لهم ، فلما كانت إمارة الوليد بن عقبة على الكوفة كان الأشتر يشعر في نفسه بانه أهل للولاية والرئاسة ، فأنزلق مع العائبين على الدولة ورجالها ، من الخليفة الأعلى في المدينة إلى عامله على الكوفة الوليد بن عقبة . ولما سرق أبو زينب وابو مروع خاتم الوليد من منزله وذهبا به إلى المدينة فشهدا على الوليد بشرب الخمر كما تقدم في ص 96 أسرع الأشتر وآخرون معه بالذهاب إلى المدينة لتوسيع دائرة الفتنة ، حتى إذا عزل عثمان الوليد بسعيد بن العاص عاد الأشتر مع سعيد إلى الكوفة ( الطبري 5 : 63 ) . وكان عثمان قد سن نظام مبادلة الأراضي ، فمن كانت له أرض من ألفئ في مكان بعيد عنه يبادل عليها بأرض قريبة منه بالتراضي بين المتبادلين . بهذه الطريقة تخلى طلحة بن عبيد الله عن أسهمه في خيبر وأشترى بها من في أهل المدينة بالعراق أرضاً يقال لها التشاستج اثني رجل على طلحة بن عبيد الله بالجود والناس عنده النشاستج لأعاشكم الله عيشاً رغداً . فقال له عبد الرحمن بن خنيس الأسدي : وددت لو كان هذا الملطاط لك ، والملطاط أرض على جانب الفرات كانت لآل كسرى . فغضب الأشتر واصحابه ==

عند معاوية ( 1 ) ، فذكرهم بالله وبالتقوى لفساد الحال وهتك حرمة الأمة ( 2 ) ، حتى قال له زيد صوحان – فيما يروى ( 3 ) : (( كما تكثر علينا بالإمرة وبقريش ، فما زالت العرب تأكل من قوائم سيوفها وقريش تجار ( 4 ) )) . فقال له معاوية : (( لا أم لك . أذكر بالإسلام وتذكرني بالجاهلية ! قبح الله من كثر على أمير المؤمنين بكم ، فما أنتم ممن ينفع أو يضر . أخرجوا عني ( 5 ) )) .
-----------------------------------

== وقالوا للأسدى : تتمنى له من سوادنا ؟ ! فقال والده : ويتمنى لكم أضعافه . فثار الأشتر وصحبه على الأسدي وأبيه وضربوهما في مجلس الإمارة حتى غشى عليهما . وسمعت بذلك بنو أسد فجاءوا وأحاطوا بالقصر ليدافعوا عن رجليهما ، فتلافى سعيد بن العاص هذه الفتنة بحكمته ، ورد بني أسد عن الأشتر وجماعته : وكتب أشراف الكوفة وصلحاؤها إلى عثمان في إخراج هؤلاء المشاغبين من بلدهم ، فأرسلهم إلى معاوية في الشام ( الطبري 5 : 85 – 86 ) ثم أخرجهم معاوية فنزلوا جزيرة ابن عمر تحت حكم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، إلى أن تظاهروا بالتوبة ، فذهب الأشتر إلى المدينة ليرفع إلى عثمان توبتهم ، فرضي عنه عثمان وأباح له بالذهاب حيث شاء ، فاختار العودة إلى زملائه الذين عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في الجزيرة ( الطبري 5 : 87 –88 ) . وفي الوقت الذي كان فيه الأشتر يعرض على عثمان توبته وتوبة زملائه وذلك في سنة 34 كان السبإيون في مصر يكاتبون أشياعهم في الكوفة والبصرة بان يثوروا على أمرائهم واتعدوا يوماً ، فلم يستقم ذلك إلا لجماعة الكوفة ، فثار بهم يزيد بن قيس الأرحبي ( الطبري 5 : 101 ) . ولما وصل الأشتر من المدينة إلى إخوانه الذين عند عبد الرحمن ابن خالد بن الوليد وجد بين أيديهم كتاباً من يزيد بن قيس الأرحبي يقول لهم فيه : لا تضعوا كتابي من أيديكم حتى تجيئوا . فتشاءموا من هذه الدعوة وآثروا البقاء ، وخالفهم الأشتر فرجع عاصياً بعد توبته ، والتحق بثوار الكوفة وقد نزلوا في الجرعة مكان مشرف على القادسية ، وهناك تلقوا سعيد بن العاص أمير الكوفة وهو عائد من المدينة قردوه ، ولقى الأشتر مولى لسعيد بن العاص فضرب الأشتر عنقه . وبلغ عثمان أنهم يريدون لإقالة سعيد بابي موسى الأشعري فاجابهم إلى ما طلبوا ( الطبري 5 : 93 – 94 ) . ولما فشل موعد سنة 34 وأقتصرت الفتنة على ما كان في الجرعة ، واتعد السبإيون للسنة التى بعدها ( سنة 35 )

ورتبوا أمرهم على التوجه إلى المدينة مع الحجاج كالحجاج ، وكان الشتر مع خوارج الكوفة رئيساً على فرقة الأربع ( الطبري 5 : 104 ) : وبعد وصولهم إلى المدينة ناقشهم أمير المؤمنين عثمان وبين لهم حجته في كل ما كانوا يظنونه فيه ، فاقتنع جمهورهم بذلك وحملوا رؤساء الفتنة على الرضا بأجوبة عثمان وارتحلوا من المدينة للمرة الأولى . إلا أن الأشتر وحكيم بن جبلة تخلفا في المدينة ولم يرتحلا معهم ( الطبري 5 : 120 ) . ولما وصل المصريون إلى مكان يسمى البويب اعترضهم راكب مثل لهم دور حامل الكتاب المزعوم ، وسيأتي الحديث عن ذلك في ص 126 . ونقل الطبري ( 5 : 194 ) أن الأشتر كان في مؤتمر السبإيين الذي عقدوه قبيل ارتحال على من الكوفة إلى البصرة للتفاهم مه طلحة والزبير وعائشة . فقرر السبإييون في مؤتمرهم هذا أن ينشبوا الحرب بين الفريقين قبل أن يصطلحا عليهم . وفي وقعة الجمل اطصرع عبد الله بن الزبير والأشتر واختلفا ضربتين وقال عبد الله بن الزبير كلمته المشهورة : (( اقتلوني ومالكاً )) فأفلت منه مالك الأشتر ، روى الطبري ( 5 : 217 ) عن الشعبي أن الناس كانوا لا يعرفون الأشتر باسم مالك ، ولو قال ابن الزبير (( اقتلوني والأشتر )) وكانت للأشتر ألف ألف نفس ما نجا منها شئ ، وما زال يضطرب في يدى ابن الزبير حتى افلت ابن عباس على البصرة بلغ الأشتر الخبر باستعمال علي بن عباس فغضب وقال : (( على م قتلنا الشيخ إذن ؟ ! اليمن لعبيد الله ، والحجاز لقم ، والبصرة لعبد الله ، والكوفة لعلى ! )) ثم دعا بدابته فركب راجعاً . وبلغ ذلك علياً فنادى : الرحيل ! ثم أجد السير فلحق به فلم يره أنه بلغه عنه وقال : (( ما هذا السير ؟ سبقتنا ! )) . وخشى إن ترك والخروج أن يوقع في نفس الناس شراً . ثم اشترك الأشتر في حرب صفين . وولاه على إمارة مصر بعد صرف قيس بن سعد بن عبادة عنها . فلما وصل القلزم ( السويس ) شرب شربة عسل فمات ، فقيل إنها كانت مسمومة

، وكان ذلك سنة 38 ( الإصابة 3 : 482 ) .
( 1 ) أثاروا الفتنة يوم ضربوا عبد الرحمن بن خنيس الأسدي وأباه وهم في دار الإمارة بالكوفة ، فكتب أشراف الكوفة وصلحاؤها إلى عثمان بإخراجهم إلى بلد آخر ، فسيرهم إلى معاوية في الشام . والذين سيروا إلى معاوية : هم الأشتر النخعي ، وابن الكواء اليشكري ، وصعصعة بن صوحان العبدي ، وأخوة زيد ، وكميل بن زياد النخعي ، وجندب بن زهير الغامدي ، وجندب بن كعب الأزدي ، وثابت بن قيس ابن منقع ، وعروة بن الجعد البارقي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي .
( 2 ) نص كلام معاوية كما رواه الطبري ( 5 : 86 ) : (( إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة ، وقد أدركتم بالإسلام شرفاً وغلبتم الأمم ، وحويتم مراتبهم ومواريثهم . وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً ، وإن قريشاً لو لم تكن عدتم أذلة كما كنتم . إن أئمتكم لكم إلى اليوم جنة ، فلا تسدوا عن جنتكم . وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور ، ويحتملون منكم المؤؤونة . والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسمونكم ثم لا يحمدكم على الصبر ، ثم تكونون شركاؤهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد موتكم )) .
( 3 ) بل القائل أخوة صعصعة .
( 4 ) وقال أيضاً لمعاوية : (( وأما ماذكرت من الجنة ، فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا )) أي قتلنا ولاتنا صارت الولاية إلينا . ولو ان هذه الكلمة قالها ثائر وهو في قبضة حاكمه – منذ بدأت الحكومات إلى أن تقوم الساعة – ما وجد من حاكمه حلماً وسعة صدر كالذي وجده صعصعة من معاوية مع قدرته عليه .
( 5 ) وجواب معاوية على كلام صعصعة في وصف قريش ومكانتها طويل ونفيس وقد أورده الطبري ( 5 : 86 ) .

وأخبره ابن الكواء بأهل الفتنة في كل بلد ومؤامرتهم ( 1 ) ، فكتب إلى عثمان يخبره بذلك ، فأرسل إليه بإشخاصهم إليه . فأخرجهم معاوية ( 2 ) ، فمروا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ( 3 ) ، فحسبهم ، ووبخهم ، وقال لهم : (( اذكروا ما كنتم تذكرون لمعاوية ( 4 ) )) . وحصرهم ،وأمشاهم بين يديه أذلاء حتى تابوا بعد حول ( 5 ) .
وكتب إلى عثمان بخبرهم ، فكتب إليه أن سرحهم إلى . فلما مثلوا بين يديه جددوا التوبة ، وحلفوا على صدقهم ، وتبرأوا مما نسب إليهم ( 6 ) وخيرهم حيث يسيرون ، فاختار كل واحد ما أراد من البلاد : كوفة وبصرة ، ومصر ، فأخرجهم . فما أستقورا في حيث ما ساروا حتى ثاروا وألبوا ، حتى انضاف إليهم جمع ( 7 ) .
وساروا إليه ( 8 ) : على أهل مصر عبد الرحمن بن عديس البلوي ( 9 ) .
-----------------------------
( 1 ) قال ابن الكواء فيما نقله الحافظ ابن عساكر في ترجمته من تاريخ دمشق ( 7 : 299 ) وابو جعفر الطبري في تاريخه ( 5 : 92 ) يصف لمعاوية أهل الأحداث من أهل الأمصار : (( أما أهل الأحداث من اهل المدينة فهم أحرص الأمة على الشر ، وأعجزهم عنه . وأما أهل الأحداث من اهل الكوفة فإنهم أنظر الناس في صغير ، وأركبه لكبير . وأما أهل الأحداث من اهل البصرة فإنهم بردون جميعاً ويصدرون شتى . واما أهل الأحداث من أهل مصرفهم أو في الناس بشر ، واسرعه ندامة . وأما أهل الأحداث من أهل الشام فأطوع الناس لمرشدهم ، وأعصاه لمغويهم )) .
( 2 ) وكتب فيهم إلى عثمان : (( إنه قدم على أقوام ليست لهم عقول ولا أديان أثقلهم الإسلام ، وأضجرهم العدل . لا يريدون الله بشئ ، ولا يتكلمون بحجة . إنما همهم الفتنة ، وأموال أهل الذمة . والله مبتليهم ومختبرهم ، ثم فاضحهم ومخربهم وليسوا بالذين ينكون أحداً إلا مع غيرهم . فإنه سعيداً ومن قبله عنهم ، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب أو نكير )) ( الطبري 5 : 87 ) .

( 3 ) وكان يلي حمصاً لمعاوية . ويتبعه منطقة الجزيرة حران والرقة .
( 4 ) وذلك بعد قوله لهم : (( يا ألة الشيطان ، لا مرحباً بكم ولا أهل . وقد رجع الشيطان محسوراً وانتم بعد نشاط . خسر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم حتى يحسركم . يا معشر من لا أدري أعرب أم عجم ، لكي لا تقولوا لي ما يبلغني أنكم تقولون لمعاوية . انا ابن خالد بن الوليد ، انا ابن من عجمته العاجمات ، انا ابن فاقئ الردة . والله لئن بلغني يا صعصعة بن ذل أن أحداً ممن معي دق أنفك ثم امصك لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى )) ( الطبري 5 : 87 ) .
( 5 ) كان كلما ركب أمشاهم ، فإذا مر به ( صعصعة ) قال : يا ابن الحطيئة ، أعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر ؟ مالك لا تقول كما كان بلغني أنك تقول لسعيد ومعاوية ؟ فيقول ، ويقولون : نتوب إلى الله ، أقلنا أقالك الله ( الطبري 5 : 87 – 88 ) .
( 6 ) الذي قدم إلى امير المؤمنين عثمان في المدينة هو الأشتر النخعي محده ، وهو الذي ناب عن ابني صوحان وابن الكواء والأخرين في تجديد التوبة التى أعلنوها من قبل لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد : غير أن الفتنة لم تكن مقتصرة على هؤلاء ، بل كانت جرثومتها في يد ابن سبأ الذي اختار الإقامة في الفسطاط ، وكان لها جناح في البصرة ، وللأشتر وإخوانه بقية في الكوفة . بينما كان الأشتر يجدد توبته وتوبة إخوانه في المدينة كان اعوان ابن سبا يكاتبون البصرة والكوفة في موعد يثبون فيه على ولاتهم ، فما رجع الأشتر بتوبته إلى إخوانه الذين كانوا عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد حتى وجد عندهم كتاباص من إخوانهم في الكوفة يدعونهم للأشتراك فيما اتعدوا له، فلم يبتهج بهذه الدعوة إلى الفتنة والشر إلا الأشتر الذي لم يكن قد نسى توبته بعد ، فأسرع إلى الكوفة وانضم إلى الفتنة التى تسمى في التاريخ ( يوم الجرعة ) وكان ذلك في سنة 34 .

( 7 ) لما خفق السبإيون في الوثوب على ولاتهم سنة 34 في الموعد الذي وقعت فيه فتنة يوم الجرعة ، اتعدوا لفتنة أخرى بمقياس أوسع يقوسون بها في العام التالي ( سنة 35 ) عند استعداد حجاج بيت الله لقصد الحرمين الشريفين من مصر والبصرة والكوفة ، فيذهب الحجاج للقيام بطاعة الله ، ويذهب داعة الفتنة للمجاهرة بمعصية الله . وقد نظموا أنفسهم في أثنتى عشرة فرقة : أربع فرق من مصر ، وأربع من البصرة ، وأربع من الكوفة . وفي كل فرقة نحو مائة وخمسين مفتوناً ، أي من كل بلد نحو ستمائة رجل .
( 8 ) أي إلى أمير المؤمنين عثمان في مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
( 9 ) فارس شاعر ، نزل مصر مع جيش الفتح ، ولم يعرف له في سيرته شئ أنفرد بالامتياز به غير اشتراكه في هذه الفتنة ، مع دعواه أنه كان من الدين بايعوا تحت الشجرة . وأظنه لم يكن من الرءوس المدبرين للفتنة ، ولكن مدبريها استغلوا ميلة إلى الرئاسة ، واستفادوا من سنة ووجاهته بين فرسان القبائل العربية بمصر ، وولوه القيادة على إحدى الفرق الأربع التي خرجت من مصر إلى المدينة ( وقادة الفرق الثلاث الأخرى : كنانة بن بشر التجيبى ، وسدودان بن حمان السكوني ، وقتيرة السكوني . ورئيسهم الأعلى الغافقي بن حرب العكي ) . وكان عبد الرحمن بن عديس في مدة الحصار شديد الوطأة ==
وعلى أهل البصرة حكيم بن جبلة ( 1 ) ، وعلى أهل الكوفة الأشتر مالك ابن الحارث النخعي ( 2 ) . فدخلوا المدينة هلال ذي القعدة سنة خمس وثلاثين ( 3 ) .

فاستقبلهم عثمان . فقالوا : ادع بالمصحف . فدعا به ، فقالوا : افتح التاسعة ( 4 ) – يعني يونس – فقالوا : اقرأ . فقرأ حتى انتهى إلى قوله { آلله أذن لكم أم على الله تفترون } قالوا له : قف . قالوا له : أرأيت ما حميت من الحمى ، أذن الله لك أم على الله أفتريت ؟ قال : أمضه ، إنما نزلت في كذا . وقد حمى عمر ، وزادت الإبل فزدت ( 5 ) . فجعلوا تيبعونه هكذا ، وهو ظاهر عليهم . حتى قال لهم : ماذا تريدون ؟
فاخذوا ميثاقه ، وكتبوا عليه ستاً أو خمساً ( 6 ) : أن المنفي يعاد والمحروم يعطي ، ويوفر الفئ ، ويعدل في القسم ، ويستعمل ذو الأمانة والقوة . فكتبوا ذلك في كتاب . وأخذ عليهم ان لا يشقوا عصاً ولا يفرقوا جماعة . ثم رجعوا راضين ( 7 ) . وقيل أرسل إليهم علياً فاتفقوا على الخمس المذكورة ، ورجعوا راضين . فبينما هم كذلك ( 8 ) ، إذا ركب يتعرض لهم ( 9 ) .
-----------------------------------
== أمير المؤمنين عثمان وأهل بيته . ثم كانت عاقبته القتل في جبل الجليل بالقرب من حمص ، لقبه أحد الأعراب ، فلما أعرتف له بأن من قتله عثمان بادر بقتله على ( معجم البلدان لياقوت : الجليل ) : والخطأ من نسب ابن عديس إلى تجيب ، فإنه بلوي من قضاعة . اما تجيب بنت ثوبان المذحجية فلا ينسب إليها إلا بنو والديها سعد وعدي ابنى اشرس بن شبيب بن السكون من كندة ، واين كندة من قضاعة ! .
( 1 ) تقدم التعريف به . وهو أمير إحدى الفرق الأربع البصرية ( والثلاثة الآخرون : ذريح بن عباد العبدي ، وبشر بن شريح (( الحطم )) وابن المحرش الحنفي . ورئيسهم الأعلى حرقوص بن زهير السعدي .
( 2 ) تقدم التعريف به . وهو أمير إدى الفرق الأربع الكوفية ( والثلاثة الآخرون : زيد بن صوحان العبدي ، وزياد بن النضير الحارثي وعبد الله بن الأصم . ورئيسهم الأعلى عمرو بن الأصم .

( 3 ) نزلوا خارج المدينة على ثلاث مراحل منها ، ثم تقدم ثوار البصرة فنزلوا في ذي خشب ، ونزل ثوار الكوفة الأعوص ، ونزل عامتهم بذي المروة .
( 4 ) كذا في المطبوعة الجزائرية ( 2 : 117 ) ولعله خطأ صوابه (( السابعة )) كما في تاريخ الطبري ( 5 : 107 ) ، ويقال إن ذلك ترتيب سورة يونس في مصحف ابن مسعود على ما في الفهرست لابن النديم ص 39 طبع مصر .
( 5 ) تقدم الكلام على الحمى في ص 72 – 73 بقدر ما يحتمل هذا المختصر .
( 6 ) أي اشترطوا عليه شروط أو خمسة في المعاني الآتية .
( 7 ) كان الزاحفون من أمصارهم على مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فريقين : رؤساء خادعين على درجات متفارقة ، مرءوسين مخدوعين ، وهم الكثرة التى بثت فيها دعايات مغرضة حتى ظنت أن هنالك منفيين مظلوميين ومحرومين سلبوا حقهم … الخ . وقد رأيت في ص 54 – 55 شهادة أصدق شاهدين في العراق حينئذ وهما الحسن البصري وصنوه ابن سيرين عن وفرة الأعطيات والأرزاق وأنواع الخيرات ، حتى كان منادي عثمان ينادي بدعوة الناس لها فلا يمنع عنها أحد . ورأيت في ص 100 شهادة الإمام الشعبي عن تعميم الرزق والخير حتى إلى الإماء والعبيد . ولما أصغى عامة الثائرين إلى أجوبة عثمان وعرفوا الحقيقة اقتنعوا ورجعوا ، وكان رجوعهم من طريقين مختلفين باختلاف اتجاه أمصارهم ، فالمصريون اتجهوا شمالاً لغرب ليسايروا ساحل البحر الأحمر إلى السويس ومصر ، والعراقيون من بصريين وكوفيين اتجهوا شمالاً لشرق منجدين ليبلغوا البصرة والكوفة من أرض العراق .
( 8 ) أي فينا العراقيون من بصريين وكوفيين في طريقهم نحو الشرق إلى الشمال والمصريون في طريقهم نحو الغرب إلى الشمال ، وبين الفريقين مراحل بعيدة لأنهما تقدما في السير والمسافة تزداد بعداً بينهما .
( 9 ) أي المصريين وحدهم .

ثم يفرقهم ، مراراً ( 1 ) قالوا : مالك ؟ قال : أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر ( 2 ) . ففتشوه ، فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان عليه خاتمه إلى عامل مصر أن يصلبهم ويقطع أيديهم و أرجلهم ( 3 ) .
... فأقبلوا حتى قدموا المدينة ( 4 ) ، فأتوا علياً فقالوا له : ألم تر إلى عدو الله .
... كتب فينا بكذا ؟ وقد أحل الله دمه ، قالوا له : فقم معنا إليه ، قال : والله لا أقوم معكم ، قالوا : فلم كتبت إلينا ؟ قال : والله ما كتبت إليكم ، فنظر بعضهم إلى بعض ( 5 ) ، وخرج علي من المدينة .
----------------------------------
( 1 ) ولا يتعرض لهم ثم يفرقهم ويكرر ذلك إلا ليفلت أنظارهم إليه ، ويثير شكوكهم فيه . وهذا ما أراده مستأجرو هذا الرجل لتمثيل هذا الدور ، ومدبرو هذه المكيدة لتجديد الفتنة بعد أن صرفها الله وأراح المسلمين من شرورها . ولا يعقل أن يكون تدبير هذا الدور التمثيلي صادراً عن عثمان أو مروان أو أي إنسان يتصل بهما ، لأنه لا مصلحة لهما في تجديد الفتنة بعد ان صرفها الله ، وإنما المصلحة في ذلك للدعاة الأولين إلى إحداث هذا الشغب ، ومنهم الأشتر وحكيم بن جبلة اللذان لم يسافرا مع جماعتهما إلى بلديهما ، بل تخلفا في المدينة ( الطبري 5 : 112 ) ولم يكن لهما أي عمل يتخلفان في المدينة لأجله إلا مثل هذه الخطط والتدابير التى لا يفكران أن يؤمئذ في غيرها .

( 2 ) وقد صرحوا بأنه عبد الله بن سعد بن ابي سرح ( الطبري 5 : 120 ) ولا يعقل أن يكتب إليه عثمان أو مروان ، لأنه كان عقب حركة الثوار من مصر متوجهين إلى المدينة كتب إلى عثمان يستأذنه بالقدوم عليه ( الطبري 5 : 122 ) ، وخرج بالفعل من مصر نحو العريش وفلسطين وايلة ( العقبة ) وتغلب محمد بن ابي حذيفة على الحكم في مصر ، وهو عدو لله ورسوله ، وخارج على خليفة المسلمين . فكيف يكتب عثمان أو مروان إلى عبد الله بن سعد وعندهما كتابه الذي يستأذن به في القدوم إلى المدينة ؟ .
( 3 ) الأخبار التى جاء فيها أن الراكب غلام عثمان ، وان الجمل جمل الصدقة وان عثمان اعترف بذلك ، كلها أحبار مرسلة لا يعرف قائلها . او مكذوبة اذاعها رواة مطعون في صدقهم وامانتهم . ومضمون الكتاب اضطربت الروايات فيه ، ففي بعض الروايات (( إذا قدم عليك عبد الرحمن بن عديس فاجلده مائة واحلق رأسه ولحيته واطل حبسه حتى ياتيك أمري . وعمرو بن الحمق فافعل به مثل ذلك . وسودان بن حمان مثل ذلك . وعروة بن التباع الليثي مثل ذلك )) . وفي رواية (( إذا أتاك محمد بن ابي بكر الصديق – وفلان وفلان – فاقتلهم وأبطل كتابهم وقر على عملك حتى ياتيك رايي )) : وفي رواية ثالثة أن مضمون الكتاب امر عامله بالقتل والقطع والصلب على هؤلاء الثوار . وهذا الاختلاف في مضمون كتاب واحد مما يزيد الريبة في امره .

( 4 ) وأعجب العجب أن قوافل الثوار العراقيين التى كانت متباعدة في الشرق عن قوافل الثوار المصريين في الغرب عادتاً معاً إلى المدينة في آن واحد ، أي أن قوافل العراقيين التى كانت بعيدة مراحل متعددة عن قوافل المصريين ولا علم لها بالرواية المسرحية التى مثلت في البويب رجعت إلى المدينة من الشرق وقت رجوع المصريين من الغرب ووصلتا إلى المدينة معاً كأنما كانوا على ميعاد ! ومعنى هذا أن اللذين استأجروا الراكب ليمثل دور حامل الكتاب أمام قوافل المصريين استأجروا راكباً آخر خرج من المدينة معه قاصداً قوافل العراقيين ليخبرهم بأن المصريين اكتشفوا كتاباً بعث به عثمان إلى عبد الله ابن سعد في مصر بقتل محمد بن أبي بكر . قال الطبري ( 5 : 105 ) . فقال لهم على : (( كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقى أهل مصر ، وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا ؟ هذا والله أمر أبرم بالمدينة ! )) ( يشير كرم الله وجهه إلى تخلف الأشتر وحكيم في المدينة ، وأنهما هما اللذان دبرا هذه المسرحية . قال الثوار العراقيون بلسان رؤسائهم : (( فضعوه على ما شئتم . لا حاجة لنا إلى هذا الرجل . ليعتز لنا )) وهذا تسليم منهم بان قصة الكتاب مفتعلة ، وان الغرض الأول والأخير هو خلع أمير المؤمنين عثمان وسفك دمه الذي عصمه الله بشريعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .

( 5 ) الطبري ( 5 : 108 ) . وهذا الحوار بين على والثوار مجمع عليه في كل الروايات وهو نص قاطع على أن اليد التى زورت الكتاب على عثمان وبعث إلى العراقيين تخبرهم بذلك وتطلب منهم أن يعودوا إلى المدينة ، هي اليد التى زورت على علي كتاباً إلى الثوار العراقيين بان يعودوا . وقد قلنا في ص 125 أن الثوار فريقان – خادع ومخدوع – فالذين نظر بعضهم إلى بعض عندما حلف علي بانه لم يكتب إليهم هم من الفريق المخدوع يتعجب كيف لم يكتب علي إليهم وقد جاءهم كتابة . ومن ذا الذي يكون قد كتب الكتاب على لسانه إذا لم يكن هو الذي كتبه ؟ وسيأتى في ص 136 أن مسروق بن الأجدع الهمداني – وهو من الأئمة الأعلام المقتدى بهم – عاتب أم المؤمنين عائشة بانها كتبت إلى الناس تأمرهم بالخروج على عثمان ، فأقسمت له بالذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون أنها ما كتبت إليهم سواداً في بياض . قال سليمان بن مهران الأعمش – أحد الأئمة الأعلام الحفاظ - : (( فكانوا يرون أنه كتب على لسانها )) . أيها المسلمون في هذا العصر وفي كل عصر ، إن الأيدى المجرمة التى زورت الرسائل الكاذبة على لسان عائشة وعلي وطلحة والزبير هي التى رتبت هذا الفساد كله ، وهي التى طبخت الفتنة من أولها إلى آخرها ، وهي التى زورت الرسالة المزعومة على لسان أمير المؤمنين عثمان إلى عامله في مصر في الوقت الذي كان يعلم فيه أنه لم يكن له عامل في مصر ، وقد زورت هذه الرسالة عل لسان عثمان بالقلم الذ زورت به رسالة أخرى على لسان ==
فأنطلقوا إلى عثمان فقالوا له : كتبت فينا كذا . قال لهم إما أن تقيموا أثنين من المسلمين ، أو يمينى – كما تقدم ذكره – فلم يقبلوا ذلك منه ( 1 ) . ونقضوا عهده ( 2 ) وحصروه .

وقد روى أن عثمان جئ إليه بالأشتر ، فقال له : يريد القوم منك إما أن تخلع نفسك ، أو تقص منها ، أو يقتلوك ! فقال : أما خلعى فلا أترك أمة محمد بعضها على بعض . وأما القصاص ، فصاحباي قبلى لم يقصا من أنفسهما ، ولا يحتمل ذلك بدني ( 3 ) .
وروى أن رجلاً قال له : نذرت دمك . قال : خذ جبتى . فشرط فيها شرطة بالسيف أراق منه دمه ، ثم خرج الرجل وركب راحلته وانصرف في الحين ( 4 ) .
ولقد دخل عليه ابن عمر ، فقال [ له عثمان ] : أنظر ما يقول هؤلاء ، يقولون : اخلع نفسك أو نقتلك ، قال له [ ابن عمر ] : أمخلد أنت في الدنيا ؟ قال : لا : هل يزيدون على أن يقتلوك ؟ قال : لا . قال : هل يملكون لك جنة أو ناراً ؟ قال : لا . قال : فلا تخلع قميص الله عنك ، فتكون سنة ، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه ( 5 ) .
وقد أشرف عليهم عثمان ، واحتج عليهم بالحديث الصحيح في بنيان المسجد وحفر بئر رومة ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رجف بهم أحد . واقروا له به في اشياء ذكرها ( 6 ) .
--------------------------------
== على ، كل ذلك ليرتد الثوار إلى المدينة بعد ان اقتنعوا بسلامة موقف خليفتهم ، وان ما كان قد اشيع عنه كذب كله ، وانه كان يتصرف في كل أمر بما كان يراه حقاً وخيراً .
ولم يكن صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبشر منه بالشهادة والجنة هو المجني عليه وحده بهذه المؤامرة السبإية الفاجرة ، بل الإسلام نفسه كان مجنياً عليه قبل ذلك . والأجيال الإسلامية التى تلقت تاريخ ماضيها الطاهر الناصع مشوهاً ومحرفاً هي كذلك ممن جني عليهم ذلك اليهودي الخبيث ، والمنقادون له بخطام الأهواء والشهوات .
( 1 ) لأنهم ما جاءوا ليقبلوا حقاً أو يرجعوا إلى شرع ، وإنما جاءوا ليخلعوه أو يسفكوه دمه .
( 2 ) الذي تقدم في ص 125 أنهم قطعوه على أنفسهم بان لا يشقوا عصاً ولا يفرقوا جماعة .

( 3 ) هذا الخبر في تاريخ الطبري ( 5 : 117 – 118 ) ، وفي البداية والنهاية ( 7 : 184 ) ، وفي أنساب الأشراف للبلاذرى ( 5 : 92 ) .
( 4 ) هذا الخبر في كتاب ( التمهيد ) للإمام ابي بكر الباقلاني ص 216 . وأعجب من ذلك ما رواه الطبري ( 5 : 137 – 138 ) أي عمير بن ضابئ البرجمي وكميل ابن زياد النخعي حضرا إلى المدينة ليغتالا عثمان تنفيذا لقرار اتخذوه في الكوفة مع بقية عصابتهم ، فلما وصلا إلى المدينة نكل عمير ، وترصد كميل للخليفة حتى مر به ، فلما التقيا ارتاب منه عثمان ، ووجأ وجهه فوقع على إسته ، فقال لعثمان : أوجعتنى يا أمير المؤمنين ، قال عثمان : أو لست بفاتك ؟ ! قال : لا والله لا إله إلا هو . فاجتمع الناس وقالوا : نفتشه يا أمير المؤمنين فقال : لا . قد رزق الله العافية ، ولا أشتهى أن أطلع منه على غير ما قال . ثم قال لكميل : (( إن كان كما قلت فاقتد مني ( وجثاً ) فوالله ما حسبتك إلا تريدني )) وقال : (( إن كنت صادقاً فأجزل الله ، وغن كنت كاذباً فأذل الله )) وتعد له على قدميه وقال (( دونك ! )) فقال كميل : (( تركت )) . أيها القارئ الكريم ، إن هذا الموقف ليس موقف خليفة فضلاً عمن دونه ، بل هو موقف المتخلقين بأخلاق الأنبياء . على أن الله يمهل ولا يهمل . فقد جاء الحجاج بعد أربعين سنة فقتل ضائباً وقتل كميلا بما أراداه في هذا الحادث من الفتك برجل خلق قلبه من رحمة الله ، و (( إن الله ليملى للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته )) .

( 5 ) أورد البلاذرى هذا الخبر في انساب الأشراف ( 5 : 76 ) من حديث نافع عن ابن عمر . وقبل أن يفتى ابن عمر لخليفته بذلك ويدعوه إلى هذه التضحية النبيلة كان عثمان على بينة من ذلك ونور من الله ، فقد أخرج بن ماجة في مقدمة سننه ( رقم 112 الباب 11 ج ص 41 ) من حديث النعمان بن بشير عن أم المؤمنين عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعثمان : (( يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يوماً فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه )) يقول ذلك ثلاث مرات . وفي مسند الإمام أحمد ( ج 6 الطبعة الأولى : ص 75 و 86 و 114 و 149 ) حديث عائشة هذا بالفاظ مختلفة يرويه عنها ابن أختها عروة بن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهما .
( 6 ) أنظر في مسند الإمام أحمد ( 1 : 59 الطبعة الولى رقم 420 الطبعة الثانية ) حديث ابي سلمة بن عبد الرحمن . وسنن النسائي ==
... وقد ثبت أن عثمان اشرف عليهم وقال : أفيكم ابناً محدوج ؟ أنشدكما الله الستما تعلمان أن عمر قال : إن ربيعة فاجر أو غادر وإني واله لاأجعل فرائضهم وفرائض قوم جاءوا من مسيرة شهر ، وغنما مهر أحدهم عند طبيبة . وإني زدتهم في غزاة واحد خمسمائة ، حتى ألحتهم بهم ؟ قالوا : بلى .
... قال : أذكركما الله ألستما تعلمان أنكما أتيتماني فقلتما ، إن كندة أكلة راس ، وغن ربيعة هي الرأس ، وغن الأشعث بن قيس قد أكلهم فنزعه واستعملتكما ؟ قالا : بلى .
... قال ، اللهم إنهم كفروا معروفي ، وبدلوا نعمتى ، فلا ترضهم عن إمامهم ولا ترض إماماً عنهم .
وقد روى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : كنت مع عثمان في الدار فقال : أعزم على كل من رأى أن عليه سمعاً وطاعة إلا كف يده وسلاحه ( 1 ) . ثم قال : قم يا ابن عمر – وعلى ابن عمر سيفه متقلداً – فأخبر به الناس ( 2 ) . فخرج ابن عمر و [ الحسن بن ] علي . ودخلوا فقتلوه ( 3 )

... وجاء زيد بن ثابت فقال له : إن هؤلاء الأنصار بالباب يقولون : إن شئت كنا أنصار الله
[ مرتين ] . قال [ عثمان ] لا حاجة لى في ذلك كفوا ( 4 ) .
-----------------------------
== ( 2 : 124 – 125 ) وجامع الترمذي ( 4 : 319 – 320 ) * وفي مسند أحمد ( 1 : 70 الطبعة الأولى رقم 511 الطبعة الثانية من حديث الأحنف بن قيس التميمى . وسنن النسائي مطولاً ومختصراً ( 2 : 65 – 66 و 123 – 124 ) * وفي تاريخ الطبري ( 5 : 225 ) من حديث أبي سعيد مولى أبي سيد الأنصاري .
( 1 ) الذي ديل عليه مجموع الأخبار عن موقف عثمان من امر الدفاع عنه أو الاستسلام للأقدار ، هو أنه كان يكره الفتنة ، ويتقى الله في دماء المسلمين . إلا أنه صار في آخر الأمر يود لو كانت لديه قوة راجحة يابها البغاة ، فيرتدعون عن بغيهم ، بلا حاجة إلى أستعمال السلاح للوصول إلى هذه النتيجة . وقبل أن تبلغ الأمور مبلغها عرض عليه معاوية أن يرسل إليه قوة من جند الشام تكون رهن إشارته ، فأبى أن يضيق على اهل دار الهجرة بجند يساكنهم ( الطبري 5 : 101 ) . وكان لا يظن أن الجرأة تبلغ بفريق من إخوانه المسلمين إلى أن يتكالبوا على دم اول مهاجر إلى الله في سبيل دينه . فلما تذاءب عليه البغاة واعتقد أن الدفاع عنه تسفك فيه الدماء جزافاً ، عزم على كل من له عليهم سمع وطاعة أن يكفوا أيديهم وأسلحتهم عن مزالق العنف . والأخبار بذلك مستفيضة في مصدر أولياته وشانئيه . على أنه لو ظهرت في الميدان قوة منظمة ذات هيب تقف في وجوه البغاة ، وتضع حداً لغطرستهم ، لارتاح عثمان لذلك وسر به ، مع ما هو مطمئن إليه من انه لن يموت إلا شهيداً .
( 2 ) في البداية والنهاية ( 7 : 182 ) عن ( مغازي ابن عقبة ) أن ابن عمر لم يلبس سلاحه إلا يوم الدار في خلافة عثمان ، ويوم أراد نجده الحرورى أن يدخل المدينة مع الخوارج أيام عبد الله بن الزبير .

( 3 ) في تاريخ الطبري ( 5 : 129 ) : كان آخر من خرج عبد الله بن الزبير أمره عثمان أن يصير إلى أبيه بوصيته التى كتبها استعداداً للموت ، أمره ان يأتى أهل الدار ( أى المدافعين عنه في ساحة القصر ) فيأمرهم بالانصراف إلى منازلهم . فخرج عبد الله بن الزبير آخرهم ، فما زال يدعى بها ويحدث الناس عن عثمان بآخر مامات عليه ، وإنما أوصى عثمان إلى الزبير لأن الزبير كان محل الثقة من كبار الصحابة . روى الحافظ ابن عساكر ( 5 : 362 ) أن سبعة من الصحابة أوصوا به : عثمان وعبد الرحمن ابن عوف ، وابن مسعود ، والمقداد ، ومطيع بن الأسود ، وأبو العاص بن الربيع ، فكان ينفق على ايتامهم من ماله ، ويحفظ لهم اموالهم .
( 4 ) أورده البلاذري في انساب الأشراف ( 5 : 73 ) من حديث ابن سبرين أخرج الحافظ ابن عساكر عن مؤرخ الصدر الأول موسى بن عقبة الأسدى ( الذي قال فيه الإمام مالك : عليكم بمغازي ابن عقبة ، فإنه ثقة ، وهي أصح المغازي ) أن أبا حبيبة الطائي ( وهو ممن بروى عنهم أبو داود والنسائي والترمذي ) قال : لما حضر عثمان جاء بنو عمرو بن عوف إلى الزبير فقالوا يا أبا عبد الله نحن نأتيك ثم نصير إلى ما تامرنا به ( أى من الدفاع عن أمير المؤمنين ) قال أبو حبيبة : فارسلنى الزبير إلى عثمان فقال : أقرئه السلام وقل (( يقول لك أخوك : إن بنى عمرو بن عوف فأكون رجلاً من اهل الدار يصيبني ما يصيب أحدهم ، فعلت . وغن شئت انتظرت ميعاد بنى عمرو فأدفع بهم عنك فعلت )) قال أبو حبيبة : فدخلت عليه – أي على عثمان ==
... وقال له أبو هريرة : اليوم طاب الضرب . قال : عزمته عليك لتخرجن ( 1 ) .
وكان الحسن بن علي آخر من خرج من عنده ، فإنه جاء الحسن والحسين وابن عمر وابن الزبير ومروان ، فعزم عليهم في وضع سلاحهم وخروجهم ، ولزوم بيوتهم .

فقال له ابن الزبير ومروان : نحن نعزم على أنفسنا لا نبرح . ففتح عثمان الباب ودخلوا عليه في أصح الأقوال ( 2 ) .
فقتله المرء الأسود ( 3 ) .
وقيل : :أخذ ابن أبي بكر بلحيته ، وذبحه كنانة ( 4 ) ، وقيل : رجل من اهل مصر يقال له حمار ( 5 ) ، فسقطت قطرة من دمه على المصحف على قوله { فسيكفيكم } فإنها كا حكمت إلى الآن .
وروى أن عائشة - رضي الله عنه - قالت : (( غضبت لكم السوط ولا أغضب لعثمان من السيف ! ؟ استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالقند المصفى ، ومصتموه موص الإناء ، وتركتموه كالثوب المنقى من الدنس ثم قتلتموه ( 6 ) .

--------------------------------------
== فوجدته على كرسي ذي ظهر ووجدت رياطاً مطروحة ومراكن مغلوة ، ووجدت في الدار الحسن بن علي ، وابن عمر وأبا هريرة ، وسعيد بن العاص ، ومروان بن الحكم ، وعبد الله بن الزبير ، فأبلغت عثمان رسالة الزبير ، فقال : (( الله أكبر ، الحمد لله الذي عصم أخي . قل له : إنك إن تأت الدار تكن رجلاً من المهاجرين ، حرمتك حرمة رجل ، وغناؤك غناء رجل . ولكن انتظر ميعاد بنى عمرو بن عوف فعسى الله أن يدفع بك )) . قال : فقام أبو هريرة فقال : أيها الناس ، لقد سمعت أذناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (( تكون بعدي فتن واحداث )) فقلت : وأين النجاء منها يا رسول الله ؟ قال : (( الأمير وحزبه )) واشار إلى عثان . فقال القوم : أئذن لنا فلنقاتل ، فقد أمكنتنا البصائر . فقال [ عثمان ] : (( عزمت على أحد كانت لى عليه طاعة ألا يقاتل )) . فبادر – أي سبق – الذين قتلوا عثمان ميعاد بنى عمرو بن عوف فقتلوه ( وأنظر الخبر مختصراً في كتاب (( نسب قريش للزبيرى ص 103 )) .
... وبنو عمرو بن عوف قبيل كبير من الخزرج ، احد فرعي الأنصار ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - عند وصوله إلى المدينة مهاجراً من مكة نزل ضيفاً عليهم ثلاثة أيام ثم أنتقل إلى نبي النجار .

( 1 ) هذا الخبر في تاريخ الطبري ( 5 : 129 ) .
( 2 ) أصل هذا الخبر في تاريخ الطبري ( 5 : 128 ) عن سيف بن عمر التميمى عن أشياخه .
( 3 ) كذا في مطبوعه الجزائر . والذي في تاريخ الطبري ( 5 : 135 ) (( الموت الأسود ، والأصول التى طبع عليها تاريخ الطبري أصح من الأصول التى طبع عليها كتابنا في الجزائر ، ومن الثابت أن أبن سبا كان من ثوار مصر عند مجيئهم من الفسطاط إلى المدينة ( الطبري 5 : 103 – 104 ) وهو في كل الأدوار التى مثلها كان شديد الحرص على ان يعمل من وراء ستار ، فلعل (( الموت الأسود )) اسم مستعار له اراد أن يرمز به ليتمكن من مواصلة دسائسه لهدم الإسلام .
( 4 ) هو كنانة بن بشر بن عتاب التجيبى قائد إحدى الفرق المصرية الأربع وكان قبل ذلك أحد الذين التفوا بعمار بن ياسر في الفسطاط ليجعلوه سبإياً ، وهو أول داخل إلى دار عثمان بالشعلة من النفط ليحرق باب الدار ، وهو الذي أخترط السيف ليضعه في بطن امير المؤمنين ، فوقته زوجته نائلة فقطع يدها واتكأ بالسيف عليه في صدره ، وكانت عاقبة التجيبى القتل مخذولاً في المعركة التى نشبت في مصر بين محمد بن أبي بكر وعمرو بن العاص سنة 38 .
... وقد تحرف (( كنانة )) في مصبوعة الجزائر برسم (( رومان )) ومطبوعة الجزائر كثيرة التحريف .
( 5 ) لم أر هذا الاسم فيمن اجترأوا على ارتكاب الجريمة العظمى ، ولعل النساخ حرفوا اسم سودان بن (( حمران )) ، او اسم عمرو بن (( الحمق )) .
( 6 ) قالت ذلك أول مرة عند وصولها إلى المدينة عائدة من الحج ، فاجتمع إليها الناس وخطبت فيهم خطبة بليغة وردت هذه الجملة في آخرها ( الطبري 5 : 165 –166 ) . والمرص : الغسل بالأصابع . والقند : عسل قصب السكر إذا جمد .

... قال مسروق ( 1 ) : فقلت لها : (( عملك ، كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج عليه )) . فقالت عائشة : (( والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم سواداً في بياض )) . قال الأعمش : فكانوا يرون أنه كتب على لسانها ( 2 ) .
وقد روى أنه ما قتله أحد إلا أعلاج من أهل مصر .
... قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : فهذا أشبه ما روى في الباب وبه يتبين – وأصل المسالة سلوك سبيل الحق – أن أحداً من الصحابة لم يسع عليه ، ولا قعد عنه . ولو أستنصر ما غلب الف أو أربعة آلاف غرباء عشرين ألفاً أو أكثر من ذلك ألقى بيده إلى المصيبة ( 3 ) .
... وقد اختلف العلماء فيمن نزل به مثلها : هل يلقى بيده ، او يستنصر ( 4 ) ؟ وأجاز بعضهم أن يستسلم ويلقى بيده أقتداء بفعل عثمان وبتوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في الفتنة ( 5 ) .
... قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : ولقد حكمت بين الناس فألزمتهم الصلاة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يك يرى في الأرض منكر ، وأشتد الخطب على أهل الغضب ، وعظم على الفسقة الكرب ، فتألبوا وألبوا ، وثاروا إلى ، فاستسلمت لأمر الله ، وأمرت كل من حولى ألا يدفعوا عن داري ، وخرجت على السطوح بنفسي فعاثوا على ، وأمسيت سليب الدار ، ولولا ما سبق من حسن المقدار لكنت قتيل الدار ( 6 ) .
...
------------------------------------
( 1 ) هو من أئمة التابعين المقتدي بهم ، توفى سنة 63 . وهو الذى قال لعمار بالكوفة قبل يوم الجمل : يا أبا اليقظان علام قتلتم عثمان ؟ قال : على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا فقال مسروق : والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لكان خيراً للصابرين ( الطبري 5 : 187 ) .
( 2 ) كما كتب على لسان لعى ولسان عثمان .

( 3 ) لأنه أختار بذلك أهون الشرين فآثر التضحية بنفسه على توسيع دائرة الفتنة وسفك دماء المسلمين ، وعثمان أفتدى أمته بدمه مختاراً فما أحسن الكثيرون منا جزاءه ، وإن أوربا وأمريكا تعبدان بشراً بزعم الفداء ولم يكن فيه مختاراً .
( 4 ) من سياسة الإسلام أن يختار المرء في كل حالة أقلها شراً وأخفها ضرراً ، فإذا كانت للخير قوة غالبة تقمع الشر وتضيق دائرته فالإسلام يهدي إلى قمع الشر بقوة الخير بلا تردد .
وإن لم يكن للخير قوة غالبة تقمع الشر وتضيق دائرته – كما كانت الحال في موقف أمير المؤمنين عثمان من البغاة عليه – فمصلحة الإسلام في مثل ما جنح إليه عثمان أعلى الله مقامه في دار الخلود .
( 5 ) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - على ما رواه الإمام البخاري في كتاب المناقب ( ك 61 ب 25 – ج 4 ص 177 ) وفي كتاب الفتن ( ك 92 ب 9 – ج 8 ص 92 ) من صحيحة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعى . ومن يشرف لها تستشرفه ، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به )) . وأعلن أبو موسى الأشعري في الكوفة قبل وقعة الجمل أنه سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( الطبري 5 : 188 ) .
( 6 ) أشرنا إلى ظروف هذا الحادث في ترجمة المؤلف أول هذا الكتاب ( ص 26 ) .
وكان الذي حملنى على ذلك ثلاثة أمور : أحدها وصاية النبي - صلى الله عليه وسلم - المتقدمة ( 1 ) ، والثاني الاقتداء بعثمان ، الثالث سوء الأحدوثة التى فر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤيد بالوحي ( 2 ) . فإن من غاب عنى ، بل من حضر من الحسدة معى ، خفت أن يقول : إن الناس مشوا إليه مستغيثين به فأراق دماءهم .
وامر عثمان كله سنة ماضية ، وسيرة راضية . فإنه تحقق أنه مقتول بخبر الصادق له بذلك ، وانه بشره بالجنة على بلوى تصيبه ، وانه شهيد ( 3 ) .

وروى أنه قال له في المنام : إن شئت نصرتك ، أو تفطر عندنا الليلة ( 4 ) .
وقد اتنبت المردة والجهلة إلى أن يقولوا : إن كل فاضل من الصحابة كان عليه مشاغباً مؤلباً ، وبما جرى عليه راضياً . واخترعوا كتاباً فيه فصاحة وامثال كتب عثمان به مستصرخاً إلى علي . وذلك كله مصنوع ليوغروا قلوب المسلمين على السلف الماضين والخلفاء الراشدين
( 5 ) قال القاضي أبو بكر : فالذي ينخل من ذلك أن عثمان مظلوم ، محجوج بغير حجة ( 6 ) . وان الصحابة براء من دمه باجمعهم ، لأنهم أتوا إرادته وسلموا له راية في إسلام نفسه .
----------------------------------
( 1 ) وقد نقلناها آنفاً من حديث أبي هريرة في صحيح البخاري ، ومن حديث أبي موسى في الكوفة قبل وقعة الجمل .
... ( 2 ) وذلك لما قال ابن سلول في غزوة بني المصطلق (( إذا رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فأراد عمر أن يقتله فمنعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : (( لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه )) .
... ( 3 ) تقدم بيان ذلك في ص 55 و 56 .

... ( 4 ) هذه الرواية لابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن سلام في البداية والنهاية ( 7 : 182 – 183 ) ، ومن طريق آخر عنه في أنساب الأشراف للبلاذري ( 5 : 82 ) وفي مسند أحمد ( 1 : 72 الطبعة الأولى ، رقم 526 الثانية ) من حديث مسلم ابي سعيد مولى عثمان قال . إن عثمان أعتق عشرين مملوكاً ، ودعا بسراويل فشدها عليه ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام ، وقال . إنى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البارحة في المنام ورايت ابا بكر وعمر ، إنهم قالوا لي : (( اصبر ، فإنك عندنا القابلة . ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه ، فقتل وهو بين يديه . وروى الإمام أحمد هذا الحديث عن نائلة زوجة عثمان ( 1 : 73 رقم 536 ) بقريب من هذا . وفي البداية والنهاية ( 7 : 182 ) من حديث أيوب السخيتاني عن نافع عن عبد اله بن عمر بن الخطاب ، ومن طرق اخرى متعددة . وأنظر تاريخ الطبري ( 5 : 125 ) .
... ( 5 ) هذه الكتب المصنوعة والأخبار المبالغ فيها أو المكذوبة شحنت بها اسفار الأخبار وكتب الأدب . ولتمييز الحق فيها من الباطل طريقان : احدهما طريق أهل الحديث في أن لا يقبلوا إلا الأخبار المسندة إلى أشخاص بأسمائهم ثم يستعرضون أحوال هؤلاء الأشخاص فيقبلون من صادقهم ، ويضربون وجه الكذاب بكذبه .
والطريق الثاني طريق علماء التاريخ وهو أن يعرضوا كل خبر على سجايا من يخبر عنه ، ويقارنوه بسيرته ، وهل هو مما ينتظر وقوعه ممن نسب إليه ويلائم المعروف من سابقته وأخلاقه أم لا ، وتمحيص تاريخنا يحتاج إلى هاتين الطريقتين معاً يقوم بهما علماء راسخون فيهما .
( 6 ) كما تبين في هذا الكتاب باسانيده القاطعة وأنظر كتاب ( التمهيد ) للإمام أبي بكر الباقلاني ( ص 220 – 227 ) .

ولقد ثبت – زائداً إلى ما تقدم عنهم – ان عبد الله بن الزبير قال لعثمان : إنا معك في الدار عصابة مستبصرة ينصر الله بأقل منهم . فائذن لنا . فقال : أذكر الله رجلاً أراق لى دمه ( أو قال دماً ( 1 ) ) .
وقال سليط بن أبى سليط : نهانا عثمان عن قتالهم ، فلو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم عن أقطارها ( 2 ) .
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة : كنت مع عثمان في الدار فقال : أعزم على كل من رأى أن لى عليه سمعاً وطاعة إلا كف يده وسلاحه ، فإن أفضلكم غناءً من كف يده وسلاحه ( 3 ) .
وثبت أن الحسن والحسين وابن الزبير وابن عمر ومروان كلهم شاك في السلاح حتى دخلوا الدار ، فقال عثمان : أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم ( 4 ) .
فلما قضى الله من أمره ما قضى ، ومضى في قدره ما مضى ، علم أن الحق لا يترك الناس سدى ، وان الخلق بعده مفتقرون إلى خليفة مفروض عليهم النظر فيه . ولم يكن بعد الثلاثة كالرابع قدراً وعلماً وتقى وديناً ، فانعقدت له البيعة . ولولا الإسراع بعقد البيعة لعلى لجرى على من بها من الأوباش مالا يرقع خرقه . ولكن عزم عليه المهاجرين والأنصار ، ورأى
--------------------------------
( 1 ) ولما بدأ حجاج بيت الله يعودون إلى المدينة كان أول المسرعين منهم المغيرة ابن الأخنس بن شريق الثقفي الصحابي ، فأدرك عثمان قبل أن يقتل ، وشهد المناوشة على باب دار عثمان ، فجلس على الباب من داخل وقال : ما عذرنا عند الله إن تركناك ونحن نستطيع الا ندعهم حتى نموت . وكان أول من برز للبغاة المهاجمين وقاتل حتى قتل . وخرج معه لقتالهم الحسن بن علي بن ابي طالب وهو يقول في تسفيه عمل البغاة .
لا دينهم ديني ولا أنا منهم حتى أسير إلى طمار شمام

أي إلى جبل أشم لا ينجو من سقط منه . وخرج معهما محمد بن طلحة بن عبيد الله - وكان يعرف بالسجاد لكثرة عبادته - وهو يقول :
أنا ابن من حامى عليه بأحد ورد أحزاباً على رغم معد
أنظر تاريخ الطبري ( 5 : 128 – 129 ) .
( 2 ) رواه الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب ( 2 : 118 – 119 هامش الإصابة ) من حديث ابن سبرين عن سليط . وأورده الحافظ ابن حجر مختصراً في الإصابة ( 2 : 72 ) .
( 3 ) وفي تاريخ الطبري ( 5 : 127 ) أن عثمان دعا عبد الله بن عباس فقال له : أذهب فأنت على الموسم ( أى على إمارة الحج ) فقال ابن عباس : (( والله يا أمير المؤمنين لجهاد هؤلاء أحب إلى من الحج )) . فأقسم عليه لينطلقن ابن عباس على الموسم تلك السنة .

( 4 ) وفي البداية والنهاية ( 7 : 181 ) : كان الحصار مستمراً من أواخر ذي القعدة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة . فلما كان قبل ذلك بيوم ، قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين والأنصار – وكانوا قريباً من سبعمائة ، فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله ابن الزبير والحسن والحسين ومروان وأبو هريرة وخلق من مواليه ولو تركهم لمنعوه - : (( أقسم على من ولى عليه حق ان يكف يده وان ينطلق إلى منزله )) قال لرفيقه (( من أغمد سيفه فهو حر )) ، فبرد القتال من داخل ، وحمى من خارج . حتى كانت الساعة التى تم فيها للشيطان ما سعى له وتمناه فانتدب للخليفة رجل من البغاة فدخل عليه البيت فقال : أخلعها وندعك ، فقال : (( ويحك )) والله ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام ، ولا تغنيت ، ولا تمنيت ، ولا وضغت يميني على عورتي مذ بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولست خالعاً قميصاً كسانيه الله عز وجل . وأنا على مكاني حتى يكرم الله اهل السعادة ويهين أهل السقاء ( الطبري 5 : 130 ) . ويكفى لبيان ما كان لهذه الفاجعة الكبرى من الأثر في النفوس ما نقله البلاذري في أنساب الأشراف ( 5 : 103 ) عن المدائني عن سلمة ابن عثمان عن على بن زيد عن الحسن قال : دخل علي يوماً على بناته وهن يمسحن عيونهن فقال : ما لكن تبكين ؟ قلن : نبكى على عثمان . فبكى وقال : ابكين …..
ذلك فرضاً عليه ، فأنقاد إليه ( 1 ) .
... وعقد له البيعة طلحة ، فقال الناس : بايع علياً يد شلاء ، والله لا يتم هذا الأمر ( 2 ) .
... فإن قيل : بايعاً مكرهين ( 3 ) . قلنا : حاشا لله أن يكرها ، لهما ولمن بايعها . ولو كانا مكرهين ما أثر ذلك ، لأن واحداً أو أثنين تنعقد البيعة بهما وتتم ، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له ، وهو مكره على ذلك شرعاً . ولو لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما ، ولا في بيعة الإمام ( 4 ) .

... واما من قال يد شلاء وأمر لا يتم ، فذلك ظن من القائل أن طلحة أول من بايع ، ولم يكن كذلك ( 5 ) .
... فإن قيل : فقد قال طلحة : (( بايعت واللج على قفى ( 6 ) )) . قلنا : اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في (( القفا )) لغة (( قفى )) كما يجعل في (( الهوى )) : (( هوى )) وتلك لغة هذيل لا قريش ( 7 ) فكانت كذبة لم تدبر .
...
-----------------------------------
... ( 1 ) في تاريخ الطبري ( 5 : 155 ) عن سيف بن عمر التميمى عن أشياخه قالوا : بقيت المدينة بعد قتل عثمان خمسة أيام وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه : يأتى المصريون علياً فيختبئ منهم ويلوذ بحيطان المدينة ( أي يختبئ في بساتينها ) فإذا لقوه باعدهم وتبرأ من مقالهم … فبعثوا إلى سعد بن أبي وقاص وقالوا : إنك من اهل الشورى فرأينا فيك مجتمع . فأقدم نبايعك . فبعث إليهم : وإنى وابن عمر خرجنا منها ، فلا حاجة لى فيها . ثم إنهم أتوا ابن عمر عبد الله فقالوا : انت ابن عمر فقم بهذا الآمر . فقال : إن لهذا الأمر انتقاماً ، والله لا أتعرض له فألتمسوا غيري . وأخرج الطبري ( 5 : 156 ) عن الشعبي قال : أتى الناس علياً وهو في سوق المدينة وقالوا له : ابسط يدك نبايعك . قال : لا تعجلوا ، فإن عمر كان رجلاً مباركاً ، وقد أوصى بها شورى ، فأمهلوا يجتمع الناس ويتناشرون . فارتد الناس عن على . ثم قال بعضهم : إن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعده قائم بهذا الآمر لم نامن اختلاف الناس وفساد الأمة . فعادوا إلى على ، فأخذ الأشتر بيده ، فقبضها علي . فقال أبعد ثلاثة ؟ أما والله لئن تركتها لتعصرن عينيك عليها حيناً . فبايعته العامة . وأهل الكوفة يقولون : أول من بايعه الأشتر . وروى سيف عن ابي حارثة محرز العبشمى وعن ابي عثمان يزيد بن أسيد الغساني قالا : لما كان يوم الخميس 0 على راس خمسة أيام من مقتل عثمان جمعوا

أهل المدينة ، فوجدوا سعداص والزبير خارجين ووجدوا طلحة في حائط له … فلما أجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر : انتم أه الشورى وانتم تعقدون الإمامة وأمركم عابر على الأمة ، فأنظروا رجلاً تنصبونه ونحن لكم تبع . فقال الجمهور : على بن أبي طالب نحن به راضون …. فقال على : دعوني والتمسوا غبرى …. فقالوا : ننشدك الله ، ألا ترى الفتنة ، ألا تخالف الله ؟ فقال : إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني ، فإنما أنا كأحدكم ، إلا أنى أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ، ثم أفترقوا على ذلك واتعدوا الغد ( أي يوم الجمعة ) : فلما أصبحوا من يوم الجمعة حضر الناس المسجد ، جاء على حتى صعد المنبر فقال : (( يا أيها الناس عن ملأ واذن . إن هذا أمركم ، ليس لأحد على أحد )) فقالوا (( نحن على ما فارقناك عليه بالأمس )) . وهذه الوقائع على بساطتها تدل على ان بيعة على كانت كبيعة إخوانه من قبل جاءت على قدرها وفي إبانها ، وانها مستمدة من رضا الأمة في حينها ، لا من وصية سابقة مزعومة ، أو رموز خيالية موهومة .
... ( 2 ) قائل هذه الكلمة حبيب بن ذؤيب . رواه الطبري ( 5 : 153 ) عن أبي المليح الهذلي .
... ( 3 ) يعني طلحة والزبير .
... ( 4 ) القاضي ابن العربي يقرر هنا الحكم الشرعي في عقد البيعة ، لا على أنه رأى له وللإمام ابي بكر الباقلاني كلام سديد في ( التمهيد ) ص 231 . وانظر ص 167 – 169 من كتاب ( الإمامة والمفاضلة ) لابن حزم المدرج في الجزء الرابع من كتابه ( الفصل ) .
... ( 5 ) وقد علمت أن أهل الكوفة يقولون إن الأشتر كان أول من بايع . ولو كانت يد طلحة هى الأولى في البيعة لكانت أعظم بركة ، لأنها يد دافعت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويد الأشتر لا تزال رطبة من دم إمامة الشهيد المبشر بالجنة .
... ( 6 ) أى : والسيف على قفاى ، لحالة الإرهاب التى كانت سائدة على المدينة بعد مقتل أمير المؤمنين عثمان .

... ( 7 ) بل هي أبعد عن لغة قريش من لهجة هذيل ، فقد قال ابن الأثير في النهاية ( مادة لجج ) انها لغة طائية ، يشددون ياء المتكلم .
وأما قولهم (( يد شلاء )) لو صح فلا متعلق لهم فيه ، فإن يدا شلت في وقاية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتم لها كل أمر ، ويتوفى بها من كل مكروه ( 1 ) . وقد تم الأمر على وجهه ، ونفذ القدر بعد ذلك على حكمه وجهل المبتدع ذلك فاخترع ما هو حجة عليه .
فإن قيل : بايعوه على ان يقتل عثمان . قلنا : هذا لا يصح في شرط البيعة ، وإنما يبايعونه على الحكم بالحق ، وهو ان يحضر الطالب للدم ، ويحضر المطلوب ، وتقع الدعوى ، ويكون الجواب ، وتقوم البينة ، ويقع الحكم . فأما على الهجم عليه بما كان من قول مطلق ، او فعل غير محقق ، أو سماع كلام ، فليس ذلك في دين الإسلام ( 2 ) قالت العثمانية : تخلف عنه من الصحابة ، منهم سعد بن ابي وقاص ، ومحمد بن مسلمة ، وابن عمر ، وأسامة بن زيد وسواهم من نظراتهم .
قلنا : أما بيعته فلم يتخلف عنها . وأما نصرته فتخلف عنها قوم منهم من ذكرتم ، لأنها كانت مسالة اجتهادية ، فاجتهد كل واحد وأعمل نظرة و أصاب قدره ( 3 ) .
روى قوم أن البيعة لما تمت لعلى أستأذن طلحة والزبير علياً في الخروج إلى مكة ( 4 ) .
---------------------------------

... ( 1 ) كان طلحة من العصابة الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت يوم أحد حين انهزم المسلمون ، فصبروا ولزموا . ورمى مالك بن زهير الجشمي بسهم يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وكان لا يخطئ رميه – فاتقاه طلحة بيده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان ذلك سبب الشل في يده من الخنصر . وأقبل رجل من بني عامر يجر رمحاً على فرس كميت أغر مدججاً من الحديد يصبح : أنا أبو ذات الودع دلوني على محمد . فضرب طلحة عرقوب فرسه ، فاكتسعت . ثم تناول رمحه فلم يخطئ به عن حدقته ، فخار كما يخور الثور ، فما برح طلحة واضعاً رجله على خده حتى مات . قالت بنتاه – عائشة وأم إسحاق - : جرح أبونا يوم أحد أربعاً وعشرين جراحة في جميع جسده ، وقد غلبه الغشى ، وهو مع ذلك محتمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كسرت رباعيتاه يرجع به القهقري ، كلما أدركه أحد من المشركين قاتل دونه حتى أسنده إلى الشعب . فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا رأى طلحة : (( من احب أن أن ينظر إلى شهيد يمشى على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله )) رواه أبو نعيم الأصبهاني . وكان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال : ذاك يوم كان يوم طلحة . وسمع علي بن ابي طالب رجلاً يقول بعد يوم الجمل . ومن طلحة ؟ فزبره علي وقال : إنك لم تشهد يوم أحد ، لقد رايته وإنه ليحترس بنفسه دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن السيوف لتغشاه وإن هو إلا جنة بنفسه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - . أخرج الحافظ ابن عساكر ( 7 : 78 ) من طريق ابن مندة عن طلحة قال : سماني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ( طلحة الخير ) ، وفي غزوة العسرة ( طلحة الفياض ) ويوم حنين ( طلحة الجود ) .

... ( 2 ) وانظر ( التمهيد ) للباقلاني ص 231 و 235 و 236 : وحقيقة موقف على من قتلة عثمان عند البيعة له كانوا هم المسئولين على زمام الأمر في المدينة وفي حالة الإرهاب التى كانت سائدة يومئذ لم يكن في استطاعة على ولا غيره أن يقف منهم مثل موقف الصحابة من عبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان . مع الفارق العظيم بين دم أمير المؤمنين الخليفة الراشد ، والأسير الحربي المجوسى الذى قال إنه أسلم بعد وقوعه في الأسر . ولما أنتقل علي من المدينة إلى العراق ليكون على مقربة من الشام أنتقل معه قتلة عثمان ولا سيما أهل البصرة والكوفة منهم ، فلما صاروا في بصرتهم وكوفتهم في معقل قوتهم وعنجهية قبائلهم ، ولا شك أن علياً أعلن البراءة منهم وأراد أن يتفق مع أصحاب الجمل على ما يمكن الاتفاق عليه في هذا الشأن ، فأنشب قتلة عثمان القتال بين معسكر علي ومعسكر اصحاب الجمل ، وتمكن أصحاب الجمل من قتل البصريين من قتلة عثمان إلا واحداص من بني سعد ابن زيد مناة بم تميم حمته قبيلته فلما أتسعت الأمور وسفكت الدماء كانت على في موقف يحتاج فيه إلى بأس هؤلاء المعروفين بانهم من قتلة عثمان وفي مقدمتهم الأشتر وامثاله ، وان كثيرين منهم أنقلبوا على علي بعد ذلك وخرجوا عليه كفره . ويقول علماء السنة والمؤرخون : إن الله كان بالمرصاد لقتلة عثمان ، فانتقم منهم والنكال واحداً بعد واحد ، حتى الذين طال بهم العمر إلى زمن الحجاج كانت عاقبتهم سفك دمائهم جزاء بما قدمت أيديهم والله أعدل الحاكمين .
... ( 3 ) وأنظر ( التمهيد ) للباقلاني ص 233 – 134 .

... ( 4 ) وممن استاذنه في الخروج إلى مكة عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وسبب ذلك أن علياً لما تمت له البيعة عزم على قتال أهل الشام . وندب أهل المدينة إلى الخروج معه فابوا عليه ، فطلب عبد الله بن عمر وحرضه على الخروج معه فقال : إنما أنا رجل من اهل المدينة إن خرجوا خرجت على السمع والطاعة ، لكن لا أخرج للقتال في هذا العام ، ثم تجهز ابن عمر وخرج إلى مكة ( ابن كثير 7 : 230 ) وكان الحسن بن علي مخالفاً لأبيه في أمر الخروج لمقاتلة أهل الشام ومفارقته المدينة كما ترى فيما بعد .
... فقال لهما على : لعلكما تريدان البصرة والشام فأقسما ألا يفعلا ( 1 ) .
... وكانت عائشة بمكة ( 2 ) .
... وهرب عبد الله بن عامر عثمان على البصرة إلى مكة ، ويعلى ابن أمية عامل عثمان على اليمن .
... فاجتمعوا بمكة كلهم ، ومعهم مروان بن الحكم . واجتمعت بنو أمية . وحرضوا على دم عثمان . وأعطى يعلى لطلحة والزبير وعائشة أربعمائة الف درهم . وأعطى لعائشة (( عسكراً )) جملاً أشتراه باليمن بمائتي دينار . فأرادوا الشام ، فصدهم ابن عامر وقال : لا ميعاد لكم بمعاوية ، ولى بالبصرة صنائع ، ولكن إليها .
... فجاءوا إلى ماء الحوأب ( 3 ) ، ونبحت كلابه ، فسألت عائشة فقيل لها : هذا ماء الحوأب . فردت خطامها عنه ، وذلك لما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (( أيتكن صاحبة الجمل الأدبب ( 4 ) ، التى تنبحها حلاب الحوأب ؟ )) فشهد طلحة والزبير أنه ليس هذا ماء الحوأب ، وخمسون رجلاً إليهم
( 5 ) ، وكانت أول شهادة زور دارت في الإسلام ( 6 ) .
... وخرج على إلى الكوفة ( 7 ) ، وتعسكر الفريقان والتقوا ( 8 ) ، وقال عمار – وقد دنا من هودج عائشة - : ما تطلبون ؟ قالوا : نطلب دم عثمان .
-----------------------------------
... ( 1 ) قول على لهما وقسمهما له من زيادات مرتكبي ( القاصمة ) ورواتها .

... ( 2 ) ذهبت إليها وامهات المؤمنين لما قطع البغاة الماء عن أمير المؤمنين عثمان وأخذ يستسقى الناس ، فجاءته أم حبيبة بالماء فأهانوها ، وضربوا وجه بغلتها ، وقطعوا حبل البغلة بالسيف ( الطبري 5 : 127 ) ، فتجهز أمهات المؤمنين إلى الحج فراراً من الفتنة ( ابن كثير 7 : 229 ) .
... ( 3 ) الحوأب من مياه العرب على طريق البصرة . قاله أبو الفتوح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري فيما نقله عنه ياقوت في معجم البلدان . وقال أبو عبيد البكري في معجم ما أستعجم : ماء قريب من البصرة ، على طريق مكة إليها . سمى بالحوأب بنت كلب ابن وبرة القضاعية .
... ( 4 ) الأديب : الأدب ( أظهر الإدغام لأجل السجعة ) ، والأدب : كثير وبر الوجه . قاله ابن الأثير في النهاية .
... ( 5 ) لم يشهدوا ، ولم تقل عائشة ، ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - . وسنين ذلك في موضعه من ( العاصمة ) ص 161 – 162 .
... ( 6 ) شهادة الزور تصدر عن رعاع لا يخافون الله كأبي زبيب وابي المورع كما تقدم في ص 96 – 97 ، تصدر عمن يزعم لنفسه أنه قادر على خلق شخصية لم يخلقها الله كالذي أخترع اسم ثابت مولى أم سلمه كما تقدم في ص 91 ، وأما طلحة والزبير – المشهور لهما بالجنة من نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى – فكأنا أسمى أخلاقاً وأكرم على أنفسهما وعلى الله من ان يشهدا الزور . وهذه الفرية عليهما من مبغضى اصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليست أول فرية لهم في الإسلام ، ولا آخرها ما يفترونه من الكذب عليه وعلى اهله .

... ( 7 ) خرج من المدينة في آخر شهر ربيع الآخر سنة 36 ، ليكون على مقربة من الشام . وكان ابن هالحسن يود لو بقى بالمدينة قيتخذها دار خلافته على مقربة من قبله فلا يبرحها ( الطبري 5 : 171 وأنظر 5 : 163 ) وقد سلك علي من المدينة إلى العراق طريق الربذة وفيد والثعلبية والأساود وذي قار . ومن الربذة أرسل إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فرجعا إليه وهو في ذي قار بأن أبا موسى وأهل الحجى من الكوفيين يرون القعود ، فأرسل الأشتر وابن عباس ، ثم أرسل بنه الحسن وعماراً لأستمالة القوم إليه . وبينما هو في الطريق انشب عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة القتال مع أصحاب الجمل . وفي الأساود جاءه خبر مصرع حكيم بن جبلة وقتلة عثمان . ثم جاء عثمان بن حنيف إلى علي وهو في الثعلبية منتوف اللحية ومغلوباً على امره . وفي ذي قار أقام على معسكره ، ثم سار بمن معه إلى البصرة وفيها أصحاب الجمل .
... ( 8 ) بعد وصول علي إلى ذي قار وقيام القعقاع بن عمرو بمساعي التفاهم تقدم علي بمن معه إلى البصرة فأسرع قتلة عثمان إلى إحباط مساعي افصلاح بإنشاب القتال .
... قال : قتل الله في هذا اليوم الباغى والطالب بغير الحق ( 1 ) .
... والتقى علي والزبير ، فقال له علي : أتذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنك تقاتلني ؟ فتركه ورجع . وراجعه ولده ، فلم يقبل . وأتبعه الأحنف من قتله ( 2 ) .
... ونادى علي طلحة من بعد : ما تطلب ؟ قال : دم عثمان . قال : قاتل الله أولانا بدم عثمان . ألم تسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ، (( اللهم وال من ولاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله )) وانت أول من بايعنى ونكث ( 3 ) .
عاصمة
... اما خروجهم إلى البصرة لا إشكال فيه .

... ولكن لأي شئ خرجوا ؟ لم يصح فيه نقل ، ولا يوثق فيه بأحد لأن الثقة لم ينقله ، وكلام المتعصب لا يسمع . وقد دخل على المتعصب من يريد الطعن في الإسلام واستفاض الصحابة .
... فيحتمل أنهم خرجوا خلعاً لعلى لأمر ظهر لهم ( 4 ) ، وهو أنهم بايعوا لتسكين الثائرة ، وقاموا يطلبون الحق .
... ويحتمل أنهم خرجوا ليتمكنوا من قتلة عثمان ( 5 ) .
... ويمكن أنهم خرجوا في جمع طوائف المسلمين ، وضم نشرهم ، وردهم إلى قانون واحد حتى لا يضطربوا فيقتتلوا . وهذا هو الصحيح ، لا شئ سواه ، وبذلك وردت صحاح الأخبار .
... فأما الأقسام الأولى فكلها باطلة وضعيفة :
... اما بيعتهم كرهاً فباطل قد بيناه ( 6 ) .
... واما خلعهم فباطل ، لأن الخلع لا يكون إلا بنظر من الجميع ، فيمكن أن يولى واحد أو إثنان ، ولا يكون الخلع إلا بعد الإثبات والبيان ( 7 ) .

-------------------------------
( 1 ) كان الفريقان يطلبان التفاهم وجمع الكلمة ، أما الباغي فهم قتلة عثمان ، وقد قتلهم الله جميعا إلا واحد منهم ، وسيأتي بيانه .
( 2 ) الذي قتل الزبير عمير بن جرموز وفضاله بن حايس ونفيع التميمي . والأحنف أتقي الله من أن يأمرهم بقتله ، بل سمعوه يتذمر من قتال المسلمين بعضهم مع بعض فلحقوا بالزبير فقتلوه ( الطبري 5 : 198 ) .
( 3 ) كان طلحة أصدق إيمانا وأسمي أخلاقا من أن يبايع وينكث . وإنما كان يريد جمع الكلمة للنظر في أمر قتلة عثمان ،استجاب علي لهذه الدعوة كما سيأتي ص 156 ، ولكن الذين جنوا علي الإسلام أول مرة بالبغي علي عثمان كانوا أعداء الله مرة أخري بإنشاب القتال بين هذين الفريقين من المسلمين .

( 4 ) وهذا الاحتمال بعيد عن هؤلاء الأفاضل الصالحين ، ولم يقع منهم ما يدل عليه ، بل الحوادث كلها دلت علي نزاهتهم عنه . وإلي هذا ذهب الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 13 – 41 : 42 ) فنقل عن كتاب ( أخبار البصرة ) لعمر بن شبة قول المهلب : " لإن أحدا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة ، ولا دعوا إلي أحد منهم ليولوه الخلافة " .
( 5 ) وهذا ما كانوا يذكرونه ، إلا أنهم يريدون أن يتفقوا مع علي علي الطريقة التي يتوصلون بها إلي ذلك . وهذا ما كان يسعي به الصحابي المجاهد القعقاع بن عمرو ، ورضي به الطرفان كما سيأتي .
( 6) في ص 143 – 144 .
( 7 ) انظر ( التمهيد ) للباقلاني ص 211 – 212 وص 232 في موضوع الخلع .
... وأما خروجهم في أمر قتلة عثمان ، لأن الأصل قبله تأليف الكلمة ، ويمكن أن يجتمع الأمران ( 1 ) .
... ويروي أن في تغيبهم ( 2 ) قطع الشغب بين الناس . فخرج طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين - رضي الله عنهم - رجاء أن يرجع الناس . إلي أمهم فيرعوا حرمة نبيهم . واحتجوا عليها ( 3 ) بقوله تعالي : { لاخير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } ،
( النساء : 114 ) . وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلح وأرسل فيه . فرجت المثوبة ، واغتنمت القصة، وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها .

... وأحس بهم أهل البصرة ، فحرض من كان بها من المتألبين علي عثمان الناس ، وقالوا : اخرجوا إليهم حتى تروا ما جاءوا إليه . فبعث عثمان بن حنيف حكيم بن حبلة ( 4 ) فلق طلحة والزبير بالزابوقة ، فقتل حكيم ( 5 ) ولو خرج مسلما مستسلما لا مدافعا ( 6 ) لما أصابه شيء . وأي خير كان له في المدافعة ، وعن أي شيء كان يدافع ؟ وهم ما جاءوا مقاتلين ولا ولاة ، وإنما جاءوا ساعين في الصلح ، راغبين في تأليف الكلمة ، فمن خرج إليهم ودافعهم وقاتلهم دافعوا عن مقصدهم ، كما يفعل في سائر الأسفار والمقاصد .
...
-------------------------------------
... ( 1 ) واجتماع الأمرين هو الذي كاد يقع ، لولا أن السبإبين أحبطوه . فأصحاب الجمل جاءوه في قتل عثمان ، ولم يجيئوا إلا لذلك . إلا أنهم أرادوا أن يتفاهموا عليه مع علي لأن التفاهم معه أول الوسائل للوصول إلي ما جاءوا له .
... ( 2 ) أي تغيب طلحة والزبير وعائشة عن المدينة .
... ( 3 ) لما أقنعوها بالخروج إلي البصرة .

... ( 4 ) عثمان بن حنيف أنصاري من الأوس ، كان عند هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي المدينة أحد الشبان الأوسيين الخمسة عشر الذين انضموا إلي عبد عمرو يسمي في الجاهلية الراهب فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - الفاسق ( الطبري 3 : 16 ) . والظاهر أن عثمان ابن حنيف عاد من مكة وأسلم قبل وقعة أحد لأنها أول مشاهدة ( الإصابة 2 : 459 ) وتزعم الشيعة أنه شاغب علي خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر الصديق في أول خلافته ( تنقيح المقال للمامقاني 1 : 198 ) وأعتقد أن هذا من كذبهم عليه ، وقد تولي لعمر مساحة أرض العراق وضرب الجزية والخراج علي أهلها ، فلو صح ما زعموه من شغبه علي أبي بكر لتنافي هذا مع استعمال عمر له ، إلا أن يكون تاب . ولما بويع لعلي آخر سنة 35 واختار ولاته في بداية سنة 36 ولي عثمان بن حنيف علي البصرة ( الطبري 5 : 161 ). ولما وصل أصحاب الجمل إلي الخفير علي أربعة أميال من البصرة أرسل إليهم علي خزا عه يوم الفتح ليعلم له علمهم ، فلما عاد إليه وذكر له حديثه مع أصحاب الجمل قال له عثمان بن حنيف : أشر علي يا عمران . وأشار عليه هشام بن عامر الأنصاري – أحد الصحابة المجاهدين الفاتحين – بأن يسالمهم حتى يأتي أمر علي ، فأبي عثمان بن حنيف ونادي في الناس ، فلبسوا السلاح ، وأقبل عثمان علي الكيد ( الطبري 5 : 174 – 175 ) ، وكانت العاقبة فشله وخروج الأمر من يده إلي أيدي أصحاب الجمل . ووقع ابن حنيف في أسر الجماهير فنتفت لحيته ، ثم أنقذه أصحاب الجمل منهم فانسحب إلي معسكر علي في الثعلبية ثم في ذي قار . هذا هو عثمان بن حنيف وموقفه من أصحاب الجمل . أما حكيم بن جبلة فالقارئ يعلم أنه من قتله أمير المؤمنين عثمان ، وقد تقدم التعريف به في ( ص 115 – 116 ) .

... ( 5 ) الزابوقة : موضع قريب من البصرة كانت فيه وقعة الجمل في دورها الأول بعد أن خطب طلحة والزبير وعائشة في المربد . أما مصرع حكيم بن جبله فكان بعد المعارك الأولي التي انتهت بغلبة أصحاب الجمل واستيلائهم علي الحكم في البصرة ، فتمرد حكيم بن جبله علي هذه الحاله الجديدة وقاتل مع ثلاثمائة من أعوانه حتى قتل .
... ( 6 ) أي مقاتلا .
فلما واصلوا إلي البصرة تلقاهم الناس بأعلي المربد مجتمعين ( 1 ) ، حتى لو رمى حجر ما وقع إلا علي رأس إنسان . فتكلم طلحة ( وتكلم الزبير ) وتكلمت عائشة - رضي الله عنه - ( 2 ) .
وكثر اللغط ( 3 ) وطلحة يقول (( أنصتوا ! )) فجعلوا يركبونه ولا ينصتون ، فقال (( أُف ، أُف . فراش نار ، وذباب طمع )) . وأنقلبوا على غير بيان ( 4 ) .
وانحدروا إلى بني نهد ، فرماهم الناس بالحجارة حتى نزلوا الجبل ( 5 ) .
والتقى طلحة والزبير وعثمان بن حنيف – عامل علي على البصرة – وكتبوا بينهم أن يكفوا عن القتال ، ولعثمان دار الإمارة والمسجد وبيت المال ، وأن ينزل طلحة والزبير من البصرة حيث شاءا ، ولا يعرض بعضهم لبعض حتى يقدم على ( 6 ) .
وروى أن حكيم بن جبلة عارضهم حينئذ . فقتل بعد الصلح ( 7 ) وقدم على البصرة ( 8 ) ، وتدانوا ليتراءوا ( 9 ) ، فلم يتركهم أصحاب الأهواء وبادروا بإراقة الدماء . واشتجر الحرب .
----------------------------------

( 1 ) مربد البصرة : موضع كانت تقام فيه سوق الإبل خارج البلد ، ثم صارت تكون فيه مفاخرات الشعراء ومجالس الخطباء . ثم أتسع عمران البصرة فدخل المربد في العمران فكان من أجل شوارعها ، وسوقة من أجل أسواقها ، وصار محله عظيمة سكنها الناس . ولما انحطت منزلة البصرة وهرم عمرانها تضاءلت فأمسى المربد بائناً عنها حتى كان بينه وبين البصرة في زمن ياقوت ثلاثة أميال ، والمربد خراب . كالبلدة المفردة في وسط البرية . وكان موضع البصرة يؤمئذ قريباً من موضع ضاحيتها الزبير في أيامنا هذه .
( 2 ) كان أصحاب الجمل في ميمنة المربد ، وعثمان بن حنيف ومن معه في ميسرته ، وقد لخص الطبري ( 5 : 175 ) خطب طلحة والزبير وعائشة راوياً ذلك عن سيف ابن عمر التميمى عن شيوخه ، وهم أعرف الإخباريين بحوادث العراق .
( 3 ) لأن الذين في الميسر كانوا يقولون تعليقاً على خطبتي طلحة والزبير : فجراً وغدراً ، وقالا الباطل ، وأمر به . قد بايعا ثم جاءا يقولان ما يقولان . والذين كانوا في الميمنة : صدقا ، وبرا ، وقالا الحق ، وأمرا بالحق ، وتحادثى الناس وتخاصبوا وأرهجوا . إلا أنه لما أنتهت عائشة من خطبتها ثبت الذين مع أصحاب الجمل على موالاتهم لهم ، وافترق أصحاب عثمان بن حنيف فرقتين فقالت فرقة : صدقت والله وبرت وجاءت بالمعروف ، وقال الآخرون : كذبتم ما نعرف ما تقولون . فتحادثوا وتحاصبوا وأرهجوا .
( 4 ) لما رأت عائشة ما يفعل أنصار عثمان بن حنيف أنحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقتين لابن حنيف حتى وقفوا في موضع آخر . ومال بعض الذين كانوا مع ابن حنيف إلى عائشة وبقى بعضهم مع عثمان بن حنيف ( الطبري 5 : 175 ) .

( 5 ) حفظ لنا الطبري ( 5 : 176 – 177 ) وصفاً دقيقاً نقله سيف بن عمر التميمى عن شيخيه محمد بن عبد الله بن سواد بن نويرة وطلحة بن الأعلم الحنفي عن الموقف السلمى لأصحاب الجمل في هذه الوقعة ، وإسراف حكيم بن جبلة في إنشاب القتال . قالا : وامرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بنى مازن ثم حجز الليل بين الفريقين . وفي اليوم التالى أنتقل أصحاب الجمل إلى جهة دار الرزق ، وأصبح عثمان بن حنيف وحكيم ابن جبلة فجددا القتال ، وكان حكيم يطيل لسانه بسبب أم المؤمنين ، ويقتل من يلومه على ذلك من نساء ورجال ، ومنادى عائشة يدعو الناس إلى الكف عن القتال فيأبون ، حتى إذا مسهم الشر وعضهم نادوا أصحاب عائشة إلى الصلح .
( 6 ) ونص كتاب الصلح في تاريخ الطبري ( 5 : 177 ) ولما بلغ علياً ما وقع كتب إلى عثمان بن حنيف بصفة بالعجز . وجمع طلحة والزبير الناس وقصدوا المسجد وانتظروا عثمان بن حنيف فأبطأ ولم يحضر ، ووقعت فتنة في المسجد من رعاع البصرة أتباع حكيم بن جبلة ، وكان لها رد فعل من اناس ذهبوا إلى عثمان بن حنيف ليحضروه فتوطأ ه الناس وانتفوا شعر وجهه ، أمرهم بذلك مجاشع بن مسعود السلمى زعيم هوازن وبنى سليم والأعجاز من قبائل البصرة ( الطبري 5 : 178 ) .
( 7 ) وبيان ذلك في تاريخ الطبري ( 5 : 179 – 182 ) وأنظر كتابنا هذا ص 116 .
( 8 ) فنزل مكاناً منها يسمى الزاوية . وكان أصحاب الجمل نازلين مكاناً منها يسمى الفرضة .

( 9 ) عند موضع قصر عبيد الله بن زياد ، وكان ذلك يوم الخميس في النصف من جمادى الآخرة سنة 36 ( الطبري 5 : 199 ) . وكان الصحابي الجليل القعقاع بن عمرو التميمى قد قام بين الفريقين بالوساطة الحكيمة المعقولة ، فاستجاب له اصحاب الجمل وأذعن على لذلك ، وبعث على إلى طلحة والزبير يقول : (( إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فنظر في هذا الأمر )) ، فأرسلا إليه : (( إنا على ما فارق عليه القععقاع بن عمرو من الصلح بين الناس )) . قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ( 7 : 239 ) : فأطمانت النفوس وسكنت واجتمع كل فريق باصحابه من الجيشين ==
وكثرت الغوغاء على البوغاء . كل ذلك حتى لا يقع برهان ، ولا يقف الحال على بيان ، ويخفى قتلة عثمان . وإن واحداً في الجيش يفسد تدبيره ، فكيف بالف ! .
وقد روى أن مروان لما وقعت عينه في الاصطناف على طلحة قال : لا نطلب أثراً بعد عين ، ورماه بسهم فقتله ( 1 ) . ومن يعلم هذا إلا علام الغيوب ، ولم ينقله ثبت .
وقد روى [ أنه ] اصابه سهم بامر مروان ، لا أنه رماه ( 2 ) .
وقد خرج كعب بن سور بمصحف منشور بيده يناشد الناس أن يريقوا دماءهم ( 3 ) فأصابه سهم غربٍ فقتله ( 4 ) ، ولعل طلحة مثله ، ومعلوم أنه عند الفتنة وفي ملحمة القتال يتمكن أولو الإحن والحقود ، من حل العرى ونقض العهود . وكانت آجالا حضرت ، ومواعيد انتجزت ( 5 ) فإن قيل : لم خرجت عائشة - رضي الله عنه - وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لهن في حجة الوداع
----------------------------------

== فلما امسوا بعث على عبد الله بن عباس إليهم ، وبعثوا محمد بن طلحة السجاد إلى على وعولوا جميعاً على الصلح ، وباتوا بخير ليلة لم يبيتوا للعافية . وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوها قط ، قد اشرفوا على الهلكة . وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها ، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السر ، واستسروا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر . فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم جيرانهم ، وانسلوا إلى ذلك الأمر انسلالاً ( وأنظر مع ذلك الموضع من تاريخ ابن كثير تاريخ الطبري 5 : 202 – 203 ومنهاج السنة 2 : 185 و 3 : 225 و 341 والمنتقى منه للذهبي 223 و 404 ) . وهكذا أنشبوا الحرب بين على وأخويه الزبير وطلحة ، فظن أصحاب الجمل أن علياً غدر بهم وظن على ان إخوانه غدروا به ، وكل منهم أتقى لله من أن يفعل ذلك في االجاهلية ، فكيف بعد ان بلغوا أعلى المنازل من أخلاق القرآن .
( 1 ) آفة الأخبار رواتها . وفي العلوم الإسلامية علاج آفة الكذب الخبيثة ، فإن كل راوى خبر يطالبه الإسلام بأن يعين مصدره على قاعدة (( من أين لك هذا ؟ )) . ولا نعرف أمة مثل هذه الدقة في المطالبة بمصادر الأخبار كما عرفه المسلمون ، ولا سيما أهل السنة منهم . وقد أشاد بهذه المزية لعلماء السنة الدكتور أسد رستم في كتابه ( مصطلح التاريخ ) ، وهذا الخبر عن طلحة ومروان (( لقيط )) لا يعرف أبوه ولا صاحبه ، وما دام لم ينقله ثبت بسند معروف عن رجال ثقات فإن للقاضي ابن العربي أن يقول بملء فيه ، ومن يعلم هذا إلا علام الغيوب ؟ ! .
( 2 ) وهذا الزعم كالزعم اسابق في ص 150 عن الزبير أن الأحنف هو الآمر بقتله .
( 3 ) كعب بن سور الأزدي أول قضاة المسلمين على البصرة ، ولاه أمير المؤمنين عمر . قال الحافظ ابن عبد البر : كان مسلماً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه لم يره .

( 4 ) قال الحافظ ابن عساكر ( 7 : 85 ) في ترجمة طلحة : وقالت عائشة لكعب ابن سور الأزدي : (( خل يا كعب عن البعير ، وتقدم بكتاب الله فادعهم إليه ، ودفعت إليه مصحفاً واقبل القوم وأمامهم السبإية يخافون أن يجرى الصلح ، فاستقبلهم كعب بالمصحف ، وعلى من خلفهم يزعم ويأبون إلا إقداماً . فما دعاهم كعب رشقوه رشقاً واحداً فقتلوه ثم راموا أم المؤمنين …. فكان أول شئ أحدثته حين أبوا قالت : (( يا أيها الناس ، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم )) وأقبلت تدعو ، وضج أهل البصرة بالدعاء وسمع علي الدعاء فقال : ما هذه الضجة ؟ فقالوا : عائشة تدعو ويدعو الناس معها على قتلة عثمان واشياعهم : فأقبل علي يدعو وهو يقول : (( اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم )) . قلت : وهكذا اشترك صالحو الفريقين في لعن قتلة أمير المؤمنين الشهيد المظلوم في الساعة التى كان فيها قتلة عثمان ينشبون القتال بين صالحي المسلمين .

( 5 ) نقل الحافظ ابن عساكر ( 7 : 86 – 87 ) قول الشعبي : رأى على ابن أبي طالب طلحة ملقى في بعض الأودية ، فنزل فمسح التراب عن وجهه ثم قال : (( عزيز على ابا محمد أن أراك مجدلا في الأودية وتحت نجوم السماء . إلى الله أشكو عجزي وبجرى )) ( قال الأصمعي : أي سرائري وأحزاني التى تجول في جوفي ) . وقال : (( ليتنى مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة )) . وقال أبو حبيبة مولى طلحة : دخلت أنا وعمران بن طلحة على علي بعد الجمل ، فرجت بعمران وأدناه وقال : (( إنى لأرجو أن يجعلني الله وإياك من الذين قال فيهم { ونزعنا ما في قلوبهم من غل إخواناً على سرر متقابلين } وكان الحارث الأعور ( * ) جالساً في ناحية فقال (( الله أعدل من أن نقتلهم ويكونوا إخواننا في الجنة )) ، فقال له على : (( قم إلى أبعد أرض الله واسحقها ، فمن هو ذا إن لم أكن أنا وطلحة في الجنة ؟ )) وذكر محمد بن عبد الله أن علياً تناول دواة فحذف بها الأعور يريده بها فأخطأه . وقال له ابن الكواء ( ** ) (( الله أعدل من ذلك )) فقام إليه على بدرة فضربه وقال له (( انت – لا أم لك – واصحابي تنكرون هذا ؟ ! )) .
-----------------------------------
( * ) هو الحارث بن عبد الله الهمداني الحوثي أبو زهير الكوفي الأعمور أحد كبار الشيعة . قال عنه الشعبي وابن المديني : كذاب . قلت وإنما كان يدفعه إلى الكذب تجزبه وتشيعه ، فالحزبية والتشيع والتعصب المذهبي من مدارج الباطل ، والإسلام دين الاعتدال ، والإنصاف والصدق وان تقول بالحق ولو على نفسك .
( ** ) ابن الكواء : عبد الله بن أبي أونى اليشكري أحد القائمين بالفتنة على عثمان وبعد صفين والتحكيم كان على راس الخوارج على علي . فلما حاجهم على وابن عباس رجع إلى علي قبل وقعة النهروان .

(( هذه ثم ظهور الحصر ( 1 ) )) . قلنا : حدث حدثين امرأة ، فإن أبت فأربعة . يا عقول النسوان ألم أعهد إليكم ألا ترون أحاديث البهتان ، وقدمنا لكم على صحة خروج عائشة البرهان ( 2 ) ، فلم تقولون مالا تعلمون ؟ وتكررون ما وقع الانفصال عنه كأنكم لا تفهمون ؟ { إن شر الدواب عن الله الصم البكم الذين لا يعقلون } .
... وأما الذي ذكرتم من الشهادة على ماء الحوأب ، فقد بؤتم في ذكرها بأعظم حوب ( 3 ) . ما كان قط شئ كما ذكرتم ، ولا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الحديث ، ولا جرى ذلك الكلام ، ولا شهد أحد بشهادتهم ، وقد كتب شهاداتكم بهذا الباطل وسوف تسألون ( 4 ) . ودارت الحرب بين أهل الشام وأهل العراق ( 5 ) : هؤلاء يدعون إلى علي بالبيعة وتأليف الكلمة على الإمام ، وهؤلاء يدعون إلى التمكين عن قتلة عثمان ويقولون : لا نبايع من يؤوى القتلة ( 6 ) .
-------------------------------

( 1 ) في مسند أحمد ( 2 : 446 الطبعة الأولى ) من حديث صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة أن رسول اله - صلى الله عليه وسلم - لما حج بنسائه قال (( إنما هي هذه الحجة ثم الزمن ظهور الحصر )) . وفيه ( 5 : 218 الطبعة الأولى ) من حديث واقد بن ابي واقد الليثى عن أبيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لنسائه في حجته (( هذه ثم ظهور الحصر )) ، وحديث أبي واقد في باب فرض الحج من كتاب المناسك بسنن ابي داود ( ك 11 ب 1 ) . والحصر جمع حصير ، اى لزوم المنزل . ونقله الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ( 5 : 215 ) على أنه إشارة نبوية إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - بنعى لهن نفسه ، وان هذه آخر حجة له - صلى الله عليه وسلم - ، وليس فيه امر منه بأن لا يزيلن الحصر إلى حج أو مصلحة أو إصلاح بين انلاس . فاستشهاد أعداء الصحابة بهذا الحديث على المنع مطلقاً عدة القاضي ابن العربي من البهتان ، لأنه استشهاده به لغير ما أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - .
( 2 ) روى الإمام ابن حزم في بحث (( وجوه الفضل والمفاضلة )) من كتاب ( الإمامة والمفاضلة ) المدرج في الجزء الرابع من ( الفصل ) ص 134 عن شيخه أحمد بن محمد الخوزي عن أحمد بن الفضل الدينورة عن محمد بن جرير الطبري أن على بن أبي طالب بعث عمار بن ياسر والحسن بن علي إلى الكوفة إذ خرجت أم المؤمنين إلى البصرة ، فلما أتياها اجتمع إليهما الناس في المسجد ، فخطبهم عمار ، وذكر لهم خروج عائشة أم المؤمنين إلى البصرة ثم قال لهم : (( إنى أقول لكم ، ووالله إنى لأعلم أنها زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما هي زوجته في الدنيا ، ولكن الله ابتلاكم بها لتطعيوها أو لتطيعوه )) فقال له مسروق ( ابن الأجدع الهمداني ) أو أبو الأسود ( الدؤلى ) : (( يا ابا اليقظان فنحن مع من شهدت له بالجنة دون من لم تشهد له )) فسكت عمار ! .
( 3 ) الحوب : الإثم .

( 4 ) تقدم في ص 148 بيان موضع الحواب . وأن الكلام الذي نسبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وزعموا أن عائشة ذكرته عند وصولهم إلى ذلك الماء ليس له موضع في دواوين السنة المعتبرة . وقد راينا خبره عند الطبري ( 5 : 170 ) فرأيناه يرويه عن إسماعيل بن موسى الفزارى ( وهو رجل قال فيه ابن عدي : أنكروا منه الغلو في التشيع ) ، ويرويه هذا الشيعي عن على بن عابس الأزرق ( قال عند النسائي : ضعيف ) وهو يرويه عن أبي الخطاب الهجري ( قال الحافظ ابن حجر في تقرب التهذيب : مجهول ) وهذا الهجري المجهول يرويه عن صفوان بن قميصة الأحمسى ( قال عنه الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال : مجهول ) . وهذ هو خبر الحوأب . وقد بنى على اعرابي زعموا أنهم لقوه في طريق الصحراء ومعه جمل اعجبهم فارادوا أن يكون هو جمل عائشة فاشتروه منه وسار الرجل معهم حتى وصلوا إلى الحوأب فسمع هذا الكلام ورواه ، مع أنه هو نفسه – أي الأعرابي صاحب الجمل – مجهول الاسم ولا نعرف عنه إن كان من الكذابين أو الصادقين . ويظهر لي أنه ليس من الكذابين ولا من الصادقين ، لأنه من أصله – الثاني عشر – مرهوم لم يخلق ، ولأن جمل عائشة واسمه (( عسكر )) جاء به يعلى بن أمية من اليمن وركبته عائشة من مكة إلى العراق ، لم تكن ماشية على رجليها حتى اشتروا لها جملاً من هذا الأعرابي الذي زعموا أنهم قابلوه في الصحراء ، وركبوا على لسانه هذه الحكاية السخيفة ليقولوا إن طلحة والزبير – المشهود لهما بالجنة ممن لا ينطق عن الهوى – قد شهدا الزور . ولو كنا نستجيز نقل الأخبار الواهية لنقلنا في معارضة هذا الخبر خبراً آخر نقله ياقوت في معجم البلدان ( مادة الحوأب ) عن سيف بن عمر التميمي أن المنبوحة من كلاب الحوأب هي أو زمل سلمى بنت مالك الفزارية التى قادت المرتدين ما بين ظفر والحوأب فسباها المسلمون ووهبت لعائشة فأعتقتها ، فقيلت فيها هذه الكلمة . وهذا الخبر ضعيف والخبر الذي أورده عن

عائشة أضعف منه . وما برح الكذب بضاعة يتجر بها الذين لا يخافون الله .
( 5 ) في موضع يسمى ( صفين ) بقرب الرقة على شاطئ الفرات آخر تخوم العراق وأول أرض الشام . سار إليها على بجيوشه في أواخر ذي القعدة سنة 36 .
( 6 ) لما انتهى على من حرب الجمل وسار من البصرة إلى الكوفة فدخلها يوم الثنين 12 من رجب ، أرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية في دمشق يدعوه إلى طاعته فجمع معاوية رءوس الصحابة وقادة الجيوش وأعيان أهل الشام واستشارهم فيما يطلب على ، فقالوا : لا نبايعه حتى يقتل قتلة ==
... وعلي يقول لا أمكن طالباً من مطلوب ينفذ فيه مراده بغير حكم ولا حاكم . ومعاوية يقول : لا نبايع متهماً أو قاتلاً له ، وهو أحد من يطلب فكيف نحكمه أو نبايعه ، وهو خليفة عدا وتسور .
... وذكروا في تفاصيل ذلك كلمات آلت إلى أستفعال رسائل ( 1 ) واستخراج أقوال ، وإنشاء أشعار ، وضرب أمثال تخرج عن سيرة السلف ، يقرها الخلف وينبذها الخلف ( 2 ) .
عاصمة
... اما وجود الحرب بينهم فمعلوم قطعاً ، وأما كونه بهذا السبب فمعلوم كذلك قطعاً ، وأما الصواب فيه فمع علي ، لأن الطالب للدم لا يصح أن يحكم ، وتهمة الطالب للقاضي لا توجب عليه أن يخرج عليه ، بل يطلب [ الحق ] عنده ، فإن ظهر له قضاء وإلا سكت وصبر ، فكم من حق يحكم الله فيه . وإن لم يكن له دين فحينئذ يخرج عليه ، فيقوم له عذر في الدنيا ( 3 ) .

---------------------------------

== عثمان ، أو يسلمهم إلينا . فرجع جريدر إلى على بدلك ، فاستخلف على على الكوفة أبا مسعود عقبة بن عامر ، وخرج منها فعسكر بالنخيلة اول طريق الشام من العراق ، وقد أشار عليه ناس بأن يبقى في الكوفة ويبعث عيره إلى الشام فأبى . وبلغ معاوية أن علياً تجهز وخرج بنفسه لقتاله فاشار عليه رجاله أن يخرج هو ايضاً بنفسه ، فخرج الشاميون نحو الفرات من ناحية صفين ، وتقدم على بجيوشه إلى تلك الجهة . وكان جيش على في مائة وعشرين ألفاً وجيش معاوية في تسعين ألفاً ، وبدأ القتال في ذي الحجة سنة 36 بمناوشات ومبارزات ، ثم تهادنوا في المحرم سنة 37 وأستؤنف القتال بعده ، وقتل في هذه الحرب سبعون ألفاً، وكانت الوقائع والاتصال عند التهادن والراحة . ثم كتب التحكيم يوم 13 صفر سنة 37 على أن يعلن الحكمان حكمهما في رمضان بدومة الجندل بمكان منها يسمى أذرح .
( 1 ) أي أنتحالها زوراً ولا اصل لها . وأكثر ما تجد ذلك فيما يرويه أخباريو الشيعة عن رواة مجهولين أو كذابين . وأخفهم وطأة أبو مخنف لوط بن يحيى ، قال عنه الحافظ الذهبي : (( أبو مخنف أخباري تالف ، لا يوثق به ، تركه أبو حاتم وغيره )) . وقال فيه ابن عدى : (( شيعى محترق صاحب أخبارهم )) ثم جاء بعده آخرون منهم كانوا شراً على على تاريخ افسلام من لوط . فأفسدوا على الأمة معرفتها بماضيها .
( 2 ) الخلف ( بفتح الخاء وسكون اللام ) : الصالح . وفي التنزيل { فخلف من بعهدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى } . والخلف ( بفتح الخاء واللام ) : الصالح . ومنه الحديث (( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، يفنون عن تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين )) .

( 3 ) وجود قتلة عثمان في معسكر على حقيقة لا يمارى أحد فيها ، بل إن الأشتر وهو من رءوس البغاة على عثمان كان أكبر مسعر للحرب بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معسكر علي والذين في معسكر معاوية . ولما طالب على معاوية ومن معه من الصحابة والتابعين أن يبايعوه أحتكموا إليه في قتلة عثمان وطلبوا منه أن يقيم حد الله عليهم أو ان يسلمهم إليهم فيقيموا عليهم حد الله . وقد اعتذرنا عن أمير المؤمنين على في هامش ص 146 بان قتلة عثمان لما صاروا مع على في العراق صاروا في معقل قوتهم وعنجهية قبائلهم ، فكان على يرى – بينه وبين نفسه – أن قتلهم يفتح عليه باباً لا يستطيع سده بعد ذلك . وقد أنتبه لهذه الحقيقة الصحابي الجليل القعقاع بن عمرو التميمى وتحدث بها مع أم المؤمنين عائشة وصاحبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلحة والزبير فاذعنوا لها وعذروا علياً ووافقوا على التفاهم معه على ما يوصلهم إلى الخروج من هذه الفتنة ، فما لبث قتلة عثمان أن أنشبوا الحرب بين الفريقين . فالمطالبون بإقامة حد الله على قتله عثمان معذورون لأنهم يطالبون بحق ، سواء كانوا من أصحاب الجمل ، أو من اهل الشام . وتقصير على في إقامة حد الله كان عن ضرورة قائمة ومعلومة . ولكن إذا كانت حرب البصرة ناشئة عن إنشاب قتلة عثمان الحرب بين الفريقين الأولين ، فقد كان من مصلحة الإسلام أن لا تنشب حرب صفين بين الفريقين الآخرين . وكان سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي كارهاً خروج أبيه من المدينة إلى العراق لما يخشاه من نشوب الحرب مع أهل الشام ، وهم جبهة الإسلام العسكرية في الجهاد والفتوح . ولو أن علياً لم يتحرك من الكوفة استعداداً لهذا القتال لما حرك معاوية ساكناً . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 2 : 219 ) : (( لم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء ، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال 249 و 251 و 262 . ومع ذلك فإن

هذه الحرب المثالية هي الحرب الإنسانية الأولى في التاريخ التى جرى فيها المحتار بأن معاً على مبادى الفضائل التى يتمنى حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم ولو في القرن الحادي والعشرون وغن كثيراً من قواعد فقه الحرب في الإسلام لم تكن لتعلم وتدون ولولا وقوع هذه الحرب ولله في كل أمر حكمة .
... ولئن أتهم علي بقتل فليس في المدينة أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو متهم به ، أو قل معلوم قطعاً أنه قتله لأن ألف رجل جاءوا لقتل عثمان لا يغلبون أربعين ألفاً ( 1 ) .
... وهبك أن علياً وطلحة والزبير تضافروا على قتل عثمان ، فباقى الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن اعتد فيهم وضوى إليهم ماذا صنعوا بالقعود عن نصرته ؟
... ولا يخلو أن يكون لأنهم راوا أولئك طلبوا حقاً وفعلوا حقاً ، فهذه شهادة قائمة على عثمان فلا كلام لأهل الشام . وغن كانوا قعدوا عنه استهزاء بالدين ، وانهم لم يكن لهم رأى في الحال ، ولا مبالاة عندهم بالإسلام ولا فيما يجرى فيه من أختلال ، فهي ردة ليست معصية . لأن التهاون بحدود الدين وإسلام حرمات الشريعة للتضييع كفر ، وغن كانوا قعدوا لأنهم لم يروا أو يتعدوا حد عثمان وإشارته فأى ذنب لهم فيه ؟ وأي حجة لمروان – وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين وابن عمر وأعيان العشرة معه في داره ( يدخلون إليه ويخرجون عنه في الشكة والسلاح – والطالبون ينظرون ؟ ولو كان لهم بهم قوة أو أووا إلى ركن شديد لما مكنوا أحداً أن يراه منهم ولا يدخله ، وإنما كانوا نظارة ، فلو قام في وجوههم الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن الزبير ما جسروا ، ولو قتلوهم ما بقى على الأرض منهم حي .
ولكن عثمان سلم نفسه ، فترك ورأيه . وهي مسألة اجتهاد كما قدمنا ( 2 ) .

وأي كلام كان يكون لعلي – لما تمت له البيعة – لو حضر عنده ولى عثمان وقال له : إن الخليفة قد تمالأ عليه ألف نسمة حتى قتلوه ، وهم معلومون . ماذا كان يقول إلا : اثبت ، وخذ ، وفي يوم كان يثبت إلا أن يثبتوا هم أن عثمان كان مستحقاً للقتل ( 3 ) .
وبالله لتعلمن يا معشر المسلمين أنه ما كان يثبت على عثمان ظلم أبداً ، وكان يكون الوقت
----------------------------------
( 1 ) ليس في أهل السنة رجل واحد يتهم علياً بقتل عثمان ، لا في زماننا ولا في زمانه ، وقد مضى الكلام على ذلك في هذا الكتاب . وكل كا في الأمر وجود قتلة عثمان مع علي ، وموقف على منهم ، وعذره بينه وبين الله في موقفه هذا . فنحن جميعاً على رأى القعقاع ابن عمرو بأن موقف علي موقف ضرورة . غير أن الحمقى من إخباريي الشيعة دسوا على علي أخباراً تشعر بغير ما كان في قلبه من المحبة والرضا والموالاة والتأييد لعثمان أثناء محنته فاساءوا بذلك إلى علي من حيث يريدون الإساءة إلى عثمان . اما معاوية وفريقه فلم يذكروا علياً في أمر البغي على عثمان إلا لمناسبة أنضواء قتلة عثمان إليه واستعانته بهم . فقتلة عثمان هم الذين أساءوا إلى الإسلام وإلى عثمان وإلى علي أيضاً : فالله حسيبهم . ولو أن كل المسلمين كانوا كعبد الرحمن بن خالد بن الوليد في حزمه – قبل أن يستفحل الفتنة ويفلت الزمام من ايدى العقلاء – لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه .
( 2 ) في ص 137 ، وأنظر هامش ص 132 .

( 3 ) المؤلف معترف بان الإثبات كان في متناول اليد ، لأن الجريمة مشهودة والمجرمون أعلنوا فيها فجورهم فلم يتكتموا . ولكن كيف يكون التنفيذ ، ومن الذي يقوم به ومدينة الرسول مستكينة تحت وطأة الإرهاب ؟ ومن ذا الذي يضمن لعلى حياته إذا أصدر هذا الحكم ؟ أليس هؤلاء هم الذين تداولوا في قتله لما عقدوا مؤتمرهم في ذي قار بعد خطبة علي التى ألقاها على الغرائر قبيل مصيره إلى البصرة ( الطبري 5 : 165 ) ألم يسخط الأشتر على أمير المؤمنين على بعد وقعة الجمل لأنه ولى ابن عمه عبد الله بن عباس على البصرة ولم يولها الأشتر ، ففارقه غاضباً ، ولحق به على فتلافى ما يكون منه من الشر ( الطبري 5 : 194 ) ، وانظر هامش 119 من هذا الكتاب ) . والخوارج على علي ألم ينبتوا من هذه النواة ؟ ولما قتل على ألم يقتل بمثل السلاح الذي قتل به عثمان ؟
أمكن للطالب ، وأرفق في الحال ، أيسر وصولاً إلى المطلوب ( 1 ) .
... والذي يكشف الغطاء في ذلك أن معاوية لما صار إليه الأمر لم يمكنه أن يقتل من قتلة عثمان أحداً إلا بحكم ، إلا من قتل في حرب بتأويل ، أو دس عليه فيما يقال ( 2 ) . حتى انتهى الأمر إلى زمن الحجاج ، وهم يقتلون بالتهمة لا بالحقيقة ( 3 ) . فتبين لكم أنهم ما كانوا في ملكهم يفعلون ما أصبحوا له يطلبون .

... والذي تثلج به صدوركم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر ف الفتن و أشار وبين . وأنذر بالخوارج وقال
(( تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق ( 4 ) )) فبين أن كل طائفة [ منهما ] تتعلق بالحق ، ولكن طائفة على أدنى إليه ( 5 ) . وقال تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغي حتى تفئ إلى أمر الله ، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } ، [ سورة الحجرات : 9 ] فلم يخرجهم عن (( الإيمان )) بالبغي بالتأويل ، ولا سلبهم اسم (( الإخوة )) بقوله بعده { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } ،
[ الحجرات : 10 ] .
--------------------------------
( 1 ) كان يكون الوقت أمكن للطالب لو وجدت في المدينة القوة التى كان يتمناها عثمان . ويقال إن قوة من جند الشام كانت خرجت من دمشق قاصدة المدينة ، فلما جاءها خبر شهادة أمير المؤمنين عثمان رجعت من الطريق ، فبقيت المدينة خاضعة لقتلة عثمان حتى بعد البيعة لعلي ، وهم إن نزلوا على أحكام هذه البيعة فيما لا ضرر منه عليهم لا ريب أنهم ينقلبون وحوشاً ضارية لو صدرت عليهم أحكام الله بإقامة الحدود فيما ارتكبوا من جرم شنيع .
( 2 ) إن سطو الله وعدله الأعلى نزلاً بأكثر قتلة عثمان فلم يبق منهم في ولاية معاوية إلا المشرد الخائف الباحث عن حجر يختبئ فيه ، وبزوال سطوتهم وتقليص شرهم فلم يبق بمعاوية حاجة إلى تتبعهم .
( 3 ) يشير المؤلف إلى حادثة عمير بن ضابئ وكميل النخعي ، وقد تقدم خبرهما في ( ص 129 – 130 ) .
( 4 ) في صحيح مسلم ( ك 12 ج 150 – ج 3 ص 113 ) من حديث ابي سعيد الخدري : (( تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها اولى الطائفتين بالحق )) .

( 5 ) أهل السنة المحمدية يدينون لله على أن علياً ومعاوية ،ومن معها من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا جميعاً من أهل الحق ، وكانوا مخلصين في ذلك . والذي أختلفوا فيه إنما أختلفوا عن اجتهاد ، كما يختلف المجتهدون في كل ما يختلفون فيه . وهم – لإخلاصهم في اجتهادهم – مثابون عليه في حالتى الإصابة والخطأ ، وثواب المصيب أضعاف ثواب المخطئ ، وليس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر معصوم عن أن يخطئ وقد يخطئ بعضهم في أمور ويصيب في أخرى ، وكذلك الآخرون . اما من مرق عن الحق في إثارة الفتنة الأولى على عثمان فلا يعد من إحدى الطائفتين التين على الحق وإن قاتل معها والتحق بها ، لأن الذين تلوثت أيديهم وأنيابهم وقلوبهم بالبغي الظالم على أمير المؤمنين عثمان – كائناً من كانوا – استخقوا إقامة الحد الشرعي عليهم سواء استطاع ولى الأمر أن يقيم عليهم هذا الحد أو لم يستطع . وفي حالة عدم استطاعته فإن مواصلتهم تسعير القتال بين صالحي المسلمين كلما أحسوا منهم بالعزم على الإصلاح والتآخي – كما قعلوا في وقعة الجمل وبعدها – يعد إصراراً منهم على الاستمرار في الإجرام ماداموا على ذلك ، فإذا قلنا إن الطائفتين كانتا من أهل الحق فإنما نريد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا في الطائفتين ومن سار معهم على سنته - صلى الله عليه وسلم - من التابعين ، ونرى ان علياً المبشر بالجنة أعلى مقاماً عند الله من معاوية خال المؤمنين وصاحب رسول رب العالمين ، وكلاهما من اهل الخير . وإذا أندس فيهم طوائف من اهل الشر فإن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره . نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ( 7 : 277 ) عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الشعباني قاضي إفريقية المتوفي سنة 56 كان رجلاً صالحاً من الآمرين بالمعروف – وذكر أهل صفين – فقال : (( كانوا عرباً يعرف بعضهم بعضاً في الجاهلية ،

فالتقوا في الإسلام معهم على الحمية وسنة الإسلام ، فتصابروا ، واستحيوا من الفرار ، وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء وهؤلاء في عسكر هؤلاء ، فيستخرجون قتلاهم فيدفنونهم )) ، قال الشعبي : (( هم أهل الجنة ، لقى بعضهم بعضاً ، فلم يفر أحد من احد )) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - في عمار : (( تقتله الفئة الباغية ( 1 ) )) .
وقال في الحسن (( ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين )) ، فحسن له خلعه نفسه وإصلاحه ( 2 ) .
... وكذلك يروى أنه اذن – في الرؤيا – لعثمان في أن يستسلم ويفطر عنده الليلة ( 3 ) .
فهذه كلها امور جرت على رسم النزاع ، ولم تخرج عن طريق من طرق الفقه ، ولا عدت سبيل الاجتهاد الذي يؤجر فيه المصيب عشرة والمخطئ أجراً واحداً ( 4 ) ، وما وقع من روايات في كتب التاريخ – عدا ما ذكرنا – فلا تلتفتوا إلى حرف منها ، فإنها كلها باطلة .
قاصمة التحكيم
وقد تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه مالا يرضاه الله . وإذا لحظتموه بعين المروءة – دون الديانة – رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين ، وفي الأقل جهل متين .
---------------------------------

... ( 1 ) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لما كانوا يبنون المسجد ، فكان الناس ينقلون لبنة لبنة وعمار ينقل لبنتين لبنتين ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه هذه الكلمة على مارواه أبو سعيد الخدري لعكرمة مولى ابن عباس ولعلى بن عبد الله بن عباس . والخبر في كتاب الجهاد والسير من صحيح البخاري ( ك 56 ب 17 – ج 3 ص 207 ) . وقد كان معاوية يعرف من نفسه أنه لم يكن منه البغى في حرب صفين ، لأنه لم يردها ، ولم يبتدئها ، ولم يأت لها إلا بعد أن خرج على من الكوفة وضرب معسكره في النخيلة ليسير إلى الشام كما تقدم في ص 162 – 163 ، ولذلك لما قتل عمار قال معاوية (( إنما قتله من أخرجه )) وفي اعتقادي الشخصي أن كل من قتل من المسلمين بأيدى المسلمين منذ قتل عثمان فإنما إثمه على قتلة عثمان لأنهم فتحوا باب الفتنة . ولأنهم واصلوا تسعير نارها ، لأنهم الذين أوغروا صدور المسلمين بعضهم على بعض ، فكما كانوا قتلة عثمان فإنهم كانوا للقائلين لكل من قتل بعده ، ومنهم عمار ومن هم أفضل من عمار كطلحة والزبير ، إلى ان أنتهت فتتهم لكل من قتل بعده ، ومنهم عمار ومن هم افضل من عمار كطلحة والزبير ، إلى أن انتهت فتتهم بقتلهم علياً نفسه وقد كانوا من جنده وفي الطائفة التى كان قائماً عليها . فالحديث من أعلام النبوة , والطائفتان المتقاتلتان في صفين كانتا من المؤمنين . وعلى افضل من معاوية . وعلي ومعاوية من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن دعائم دولة الإسلام ، وكل ما وقع من الفتن فإثمه على مؤرثي نارها لأنهم السبب الأول فيها ، فهم الفئة الباغية التى قتل بسببها كل مقتول في وقعتي الجمل وصفين وما تفرغ عنهما .
... ( 2 ) سيأتى الكلام على هذا عند الكلام على الصلح بين الحسن ومعاوية .
... ( 3 ) مضى الكلام على ذلك في ص 138 – 139 .

... ( 4 ) قال شيخ الإسلام ابن تيميه في منهاج السنة ( 2 : 219 – 220 ) : (( ولم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء ، بل كان من أشد الناس حرصاً على أن لا يكون قتال ، وكان غيره أحرص على القتال منه . وقتال صفين للناس فيه أقوال : فمنهم من يقول كلاهما كان مجتهداً مصيباً ، كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام والفقه والحديث ممن يقول : كل مجتهد مصيب ، ويقول : كانا مجتهدين . وهذا قول كثير من الأشعرية والكرامية والفقهاء وغيرهم ، وهو قول كثير من اصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم ، وتقول الكرامية : كلاهما إمام مصيب ، ويجوز نصب إمامين للحاجة . ومنهم من يوقل : بل المصيب أحدهما لا بعينه ، وهذا قول طائفة منهم . ومنهم من يقول : على هو المصيب وحده ومعاوية مجتهد مخطئ ، كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام والفقهاء أهل المذاهب الأربعة . وقد حكى هذه الأقوال الثلاثة أبو عبد الله حامد من اصحاب الإمام أحمد وغيره . ومنهم من يوقل . كان الصواب أن لا يكون قتال ، وكان ترك القتال خيراً للطائفتين ، فليس في الاقتتال صواب ، ولكن علي كان أقرب إلى الحق من معاوية ، والقتال قتال قتنة ، ليس بواجب ولا مستحب ، وكان ترك القتال خيراً للطائفتين مع أن علياً كان أولى بالحق ، وهذا قول أحمد وأكثر أهل الحديث وأكثر أئمة الفقهاء ، وهو قول اكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وهو قول عمران بن حصين - رضي الله عنه - وكان ينهى عن بيع السلاح في ذلك القتال : هو بيع السلاح في الفتنة . وهو قول أسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وابن عمرو وسعد بن ابي وقاص وأكثر من بقى من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار - رضي الله عنه - . ولهذا كان من مذهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة فإنه قد يثبت فضائلهم ووجبت موالاتهم ومجبتهم )) .

والذي يصح من ذلك ما روى الأئمة كخليفة بن خياط ( 1 ) الدارقطني ( 2 ) : أنه لما خرج الطائفة العراقية مائة ألف والشامية في سبعين ألفاً ونزلوا على الفرات بصفين ، اقتتلوا في أول يوم – وهو الثلاثاء – على الماء فغلب أهل العراق عليه ( 3 ) .
ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة [ سبع وثلاثين ] ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت ( 4 ) ، ورفعت المصاحف من أهل الشام ، ودعوا إلى الصلح ، وتفرقوا على ان تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق ، فكان من جهة على أبو موسى ( 5 ) ، ومن جهة معاوية عمرو بن العاص .
وكان أبةو موسى رجلاً ثقفاً فقيهاً عالماً حسبما بيناه في كتاب ( سراج المريدين ) ، وأرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن مع معاذ ، وقدمه عمرو واثنى عليه بالفهم ( 6 ) . وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبلة ضعيف الرأي مخدوعاً في القول ، وان ابن العاص كان ذا دهاءٍ وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه تأكيداً لما أرادت من الفساد ، اتبع في ذلك بعض الجهال بعضاً وصنفوا فيه حكايات . وغيره من الصحابة كان أحدق منه وأدهى ، وإنما بنوا على ان عمراً لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر.
وقالوا : إنما لما أجتمع بأذرح من دومة الجندل ( 7 ) .
----------------------------------
( 1 ) هو الإمام الحافظ أبو عمرو خليفة بن خياط العصفري البصري ، أحد أوعية العلم ، ومن شيوخ الإمام البخاري . قال عنه ابن عدى : هو صدق مستقيم الحديث من متيقظي رواة السنة . توفى سنة 240 .

( 2 ) هو الإمام الحافظ أبو الحسن على بن عمر الدارقطني ( 306 – 385 ) كان مع جلالته في الحديث من أئمة فقهاء الشافعية ، وله تقدم في الأدب ورواية الشعر . وجاء من بغداد إلى مصر ليساعد ابن خنزابة وزير كافور على تأليف مسنده فبالغ الوزير في إجلاله . قال الحافظ عبد الغنى بن سعيد (( أحسن الناس كلاماً على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة . علي بن المديني في وقته ، وموسى بن هارون القيسي في وقته . والدارقطني في وقته )) .
( 3 ) لم يكن القتال على الماء جدياً ، وقد قال عمرو بن العاص يومئذ (( ليس النصف أن نكون ريانين وهم عطاش )) . والذين تظاهروا في الجيش الشامي بمنع العراقيين عن الماء أن يذكروهم بمنعهم الماء عن امير المؤمنين عثمان في عاصمة خلافته وهو الذي أشترى بئر رومة من ماله ليستسقى منه إخوانه المسلمون وبعد إشتراكهم في الماء تناوشوا شهر ذي الحجة من سنة 36 ثم تهادنوا شهر المحرم من سنة 37 ، ووقعت وقائع شهر صفر التى سيشير إليها المؤلف .
( 4 ) وكانت تسمى (( ليلة الهرير )) اقتتل الناس فيها حتى الصباح .

( 5 ) وكان آخر العهد بأبي موسى عندما كان والياً على الكوفة ، وجاء دعاة علي يحرضون الكوفيين على لبس السلاح والالتحاق بجيش علي استعداداً لما يريدونه من قتال مع أصحاب الجمل في البصرة ، ثم مع أنصار معاوية في الشام . فكان أبو موسى يشفق على دماء المسلمين ان تسفك بتحريض الغلاة ، ويذكر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بقول نبيهم في الفتنة (( القاعد فيها خير من القائم )) فتركه الأشتر يحدث الناس في المسجد بالحديث النبوي ، واسرع إلى دار الإمارة فاحتلها . فلما عاد غليها أبو موسى منعه الأشتر من الدخول وقال له : اعتزل إمارتنا . فاعتزلهم أبو موسى واختار الإقامة في قرية يقال لها عرض بعيداً عن الفتن وسفك الدماء . فلما شبع الناس من سفك الدماء واقتنعوا بأن أبا موسى كان ناصحاً في نهيهم عن القتال طلبوا من على أن يكون أبو موسى هو ممثل العراق في امر التحكيم ، لأن الحالة التى كان يدعو إليها هي التى فيها الصلاح فأرسلوا إلى أبي موسى وجاءوا به من عزلته .
( 6 ) واختصه بكتابه الشهير في القضاء وىدابه وقواعده .
( 7 ) أذرح : قرية من أعمال الشراة تقع في منطقة بين اراضي شرقي الأردن والمملكة السعودية في الأطراف الجنوبية من بادية الشام .
وتفاوضا ، اتفقا على أن يخلعا الرجلين ( 1 ) . فقال عمرو لأبي موسى : أسبق بالقول فتقدم : إنى نظرت فخلعت علياً عن الأمر ، وينظر المسلمون لأنفسهم ، كما خلعت سيفى هذا من عنقي – أو من عاتقي – واخرجه من عنقه فوضعه في الأرض . وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال : إني نظرت فاثبت معاوية في الأمر ( 2 ) كما اثبت سيفي هذا في عاتقي . وتقلده . فأنكر أبو موسى . فقال عمرو : كذلك اتفقنا . وتفرق الجمع على ذلك من الاختلاف .
عاصمة

قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط . وإنما هو شئ أخبر عنه المبتدعة ، ووضعته التاريخية للملوك ، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع ( 3 ) .
--------------------------------
( 1 ) من الحقائق ما إذا أسئ التعبير عنه شوائب المغالطة يوهم غير الحقيقة فينشا عن ذلك الاختلاف في الحكم عليه . ومن ذلك حادثة التحكيم وقول المغالطين إن ابا موسى وعمراً اتفقا على خلع الرجلين ، فخلعهما أبو موسى ، واكتفى عمرو بخلع علي دون معاوية . وأصل المغالطة من تجاهل أن معاوية لم يكن خليفة ، ولا هو ادعى الخلافة يؤمئذ حتى يحتاج عمرو إلى خلعها عنه . بل إن ابا موسى وعمراً اتفقا على ان يعهدا بامر الخلافة على المسلمين إلى الموجودين على قيد الحياة من اعيان الصحابة الذين توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو راض عنهم . واتفاق الحكمين على ذلك لا يتناول على الذين اشتركوا في قتل عثمان . فلما وقع التحكيم على إمامة المسلمين ، واتفق الحكمان على ترك النظر فيها إلى كبار الصحابة وأعيانهم تناول التحكيم شيئاً واحداً هو الإمامة . اما التصرف العملى في غرادة البلاد التى كانت تحت يد كل من الرجلين المتحاربين فبقى كما كان : علي متصرف في البلاد التى تحت حكمه ، ومعاوية متصرف في البلاد التى تحت حكمه ، فالتحكيم لم يقع فيه خداع ولا مكر ، ولم تتخلله بلاهة ولا غفلة . وكان يكون محل للمكر أو الغفلة لو أن عمراً أعلن في نتيجة االتحكيم أنه ولي معاوية إمارة المؤمنين وخلافة المسلمين ، وهذا ما لم يعلنه عمرو ، ولا ادعاه معاوية ، ولم يقل به احد في الثلاثة عشر قرناً الماضية . وخلافة معاوية لم تبدأ إلا بعد الصلح مع الحسن بن علي ، وقد تمت بمبايعة الحسن لمعاوية ، ومن ذلك اليوم فقط سمى معاوية أمير المؤمنين . فعمرو لم يغالط أبا موسى ولم يخدعه ، لأنه لم يعط معاوية شيئاً جديداً ، ولم يقرر في

التحكيم غير الذي قرره أبو موسى . ولم يخرج عما اتفقا عليه معاً ، فبقيت العراق والحجاز وما يتبعها تحت يد من كانت تحت يده من قبل ، وبقيت الشام وما يتبعها تحت يد من كانت تحت يده من قبل ، وتعلقت الإمامة بما سيكون من اتفاق أعيان الصحابة عليها ، وأى ذنب لعمرو في اى شئ مما وقع ؟ إن البلاهة لم تكن من ابي موسى ، ولكن ممن يريد أن يفهم الوقائع على غير ما وقعت عليه . فليفهمها كل من شاء كما يشاء . اما هي فظاهرة واضحة لكل من يراها كما هي .

( 2 ) أى أمر ؟ إن كان الاستمرار في إدارة البلاد التى تحت يده ، فإن هذا الأمر ماض على معاوية وعلي معاً ، فكل منهما باق في الحكم على ما تحت يده . وإن كان المراد بالمر أمر الإمامة العامة وإمارة المؤمنين فإن معاوية لم يكن إماماً – أي خليفة – حتى يثبته عمرو كما كان . وقد أوضحنا هذه الحقيقة في الفقرة السابقة . وهذه هي نقطة المغالطة التى هزأ بها مؤرخو الإفك المفترى فسخروا بجميع قرائهم وأوهموهم بان هناك خليفتين أو أمير للمؤمنين ، وأن الاتفاق بين الحكمين كان على خلعهما معاً ، وأن أبا موسى خلع الخليفتين تنفيذاً للاتفاق ، وأن عمراً خلع أحدهما وابقى الآخر خليفة خلافاً للاتفاق ، وهذا كله كذب وإفك وبهتان . والذي فعله عمرو وهو نفس الذي فعله أبو موسى لا يفترق عنه قط في نقير ولا قمطير وبقى أمر الإمامة والخلافة أو غمارة المؤمنين معلقاً على نظر أعيان الصحابة ليروا فيه رأيهم متى شاءوا وكيف شاءوا . وإذا كانت هذه الخطوة الثانية لم تتم فما في ذلك تقصير من ابي موسى ولا من عمرو ، فهما قد قاما بمهمتهما بحسب ما أدى إليه اجتهادهما واقتناعهما ولو لم تكلفهما الطائفتان معاً بأداء هذه المهمة لما تعرضا لها ، ولا أبديا راياً فيها . ولو كان موقف أبي موسى في هذا الحادث التاريخي العظيم موقف بلاهة وفشل لكان ذلك سبة عليه في التاريخ . وإن الأجيال التى بعده فهمت موقفه على أنه من مفاخرة التى كتب الله له بها النجاح والسداد ، حتى قال ذو الرمة الشاعر يخاطب حفيدة بلاب بن ابي بن أبي موسى :
أبوك تلافى الدين والناس بعدما تشاءوا وبيت الدين منقطع الكسر
فشد إصار الدين أيام أذرح ورد حروباً قد لقحن إلى عقر

( 3 ) إن التاريخ الإسلامي لم يبدأ تدوينه إلا بعد زوال بنى امية وقيام دول لا يسر رجالها التحدث بمفاخر ذلك الماضي ومحاسن أهله . فتولى تدوين تاريخ الإسلام ثلاث طوائف : طائفة كانت تنشد العيش والجدة من التقرب إلى مبغضي بني أمية بما تكتبه وتؤلفه . وطائفة ظنت أن التدوين لا يتم ، ولا يكون التقرب إلى الله ، إلا بتشويه سمعة ابي بكر وعمر وعثمان وبنى عبد شمس جميعاً . وطائفة ثالثة من أهل الإنصاف والدين – كالطبري وابن عساكر وابن الأثير وابن كثير – رأت أن من الإنصاف أن تجمع اخبار الإخباريين من كل المذاهب والمشارب – كلوط بن يحيى الشيعي المحترق ، وسيف ابن عمر العراقي المعتدل – ولعل بعضهم اضطر إلى ذلك إرضاء لجهات كان يشعر بقوتها ومكانتها . وقد أثبت أكثر من هؤلاء أسماء رواة الأخبار التى أوردوها ليكون ==
... وإنما الذي روى الأئمة الثقات الأثبات أنهما لما أجتمعا للنظر في الأمر – في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر ونحوه – عزل عمرو معاوية ( 1 ) .

... ذكر الدارقطني بسنده إلى حصين بن المنذر ( 2 ) : لما عزل عمرو معاوية جاء [ أي حضين بن المنذر ] فضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية ، فبلغ نباه معاوية ، فأرسل إليه فقال : إنه بلغنى عن هذا [ أي عن عمرو ] كذا وكذا ( 3 ) ، فأذهب فانظر ما هذا الذي بلغنى عنه ، فأتيته فقلت : أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وابو موسى كيف صنعتما فيه ؟ قال : قد قال الناس في ذلك ما قالوا ، والله ما كان الأمر على ما قالوا ( 4 ) ، ولكن قلت لأبي موسى : ما ترى في هذا الأمر ؟ قال أرى أنه في النفر الذين توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راضٍ . قلت : فأين تجعلني أنا ومعاوية ؟ فقال : إن يستعن بكما ففيكما معونة ، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما قال : فكانت هي التى قتل معاوية منها نفسه : فأتيته فأخبرته [ أي فأتى حضين معاوية فأخبره ] أن الذي بلغه عنه كما بلغه . فأرسل إلى ابي الأعور الذكواني ( 5 ) فبعثه في خيلة ، فخرج يركض فرسه ويقول : أين عدو الله أين هذا الفاسق ؟ .
... قال أبو يوسف ( 6 ) : اظنه قال (( إنما يريد حوباء نفسه )) فخرج [ عمرو ] إلى فرس فسطاط فجال في ظهره عرياناً ، فخرج العلبة ، يا معاوية إن الضجور قد تحتلب العلبة ( 7 ) )) فقال معاوية (( أجل ، وتربذ الحالب فتدق أنفه ، وتكفأ إناءه ( 8 ) )) .
------------------------------

== الباحث على بصيرة من كل خبر بالبحث على حال راويه . وقد وصلت إلينا هذه التركة لا على أنها هي تاريخنا ، بل على إنها مادة غزيرة للدرس والبحث يستخرج منها تاريخنا ، وهذا ممكن وميسور إذا تولاه من يلاحظ مواطن القوة والضعف في هذه المراجع ، وله من الألمعية ما يستخلص به حقيقة ما وقع ويجردها عن الذي لم يقع ، مكتفياً بأصول الأخبار الصحيحة مجردة عن الزيادات الطارئة عليها . وغن الرجوع إلى كتب السنة ، وملاحظان أئمة الأمة ، مما يسهل هذه المهمة . وقد آن لنا ان نقوم بهذا الواجب الذي أبطأنا فيه كل الإبطاء ، وأول من استيقظ في عصرنا للدسائس المدسوسة على تاريخ بنى امية العلامة الهندي الكبير الشيخ شبلي النعمانى في انتقاده لكتب جرجى زيدان ، ثم أخذ أهل الألمعية من المنصفين في دراسة الحقائق ، فبدأت تظهر لهم وللناس منيرة مشرقة ، ولا يبعد – إذا أستمر هذا الجهاد في سبيل الحق – أن يتغير فهم المسلمين لتاريخهم ، ويدركوا أسرارها ما وقع في ماضيهم من معجزات .
... ( 1 ) أب بتقريره مع أبي موسى أن إمامة المسلمين يترك النظر فيها إلى أعيان الصحابة .
... ( 2 ) قال الدارقطني : حدثنا إبراهيم بن همام ، حدثنا أبو يوسف الفلوسي وهو يعقوب بن عبد الرحمن بن جرير ، حدثنا الأسود بن شيبان ، عن عبد الله بن مضارب عن حضين بن المنذر ( وحضين من خواص علي الذين حاربوا معه ) .
... ( 3 ) أى عزله علياً ومعاوية ، وتفويضه الأمر إلى كبار الصحابة .
... ( 4 ) أى أنهما لم يعزلا ، ولم يوليا ، ولكن تركا الأمر لأعيان الصحابة .
... ( 5 ) هو أبو الأعور السلمي ( وذكوان قبيلة من سليم ) واسمه عمرو بن سفيان كان من كبار قواد معاوية . وفي حرب صفين طلب الأشتر أن يبارزه فترفع أبو الأعور السلمي عن ذلك لأنه لم ير الأشتر من أنداده . أنظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص 264 .

... ( 6 ) أى الفلوسي راوى هذا الخبر عن الأسود بن شيبان عن عبد الله بن مضارب عن حضين .
... ( 7 ) الضجور : الناقة التى ترغو وتعربد عن الحلب . و (( قد تحلب الضجور العلبة )) مثل ، ومعناه : إن الناقة التى ترغو قد تحلب ما يملأ العلبة ، وهي قدح ضخم يحلب فيه اللبن . يضربونه للسيئ الخلق قد يصاب منه الرفق واللين ، وللبخيل قد يستخر منه المال .
... ( 8 ) ربذت يده بالقداح أى خفت : والربذ خفة القوائم في المشي ، وخفة الصابع في العمل . وفلان ذو ربذات : أي ذو فلتات وكثير السقط في كلامه .
... قال الدارقطني – وذكر سند عدلاً ( 1 ) : ربعى عن أبي موسى أن عمرو بن العاص قال : (( والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحل لهما منه شئ لقد غبنا ونقص رأيهما . وآيم الله ما كانا مبغونين ولا ناقصى الرأى . ولئن كانا أمرأين يحرم عليهما هذا المال الذي أصبناه بعدهما لقد هلكنا . وايم الله ما جاء الوهم إلا من قبلنا ( 2 ) )) .

... فهذا كان بدء الحديث ومنتهاه . فأعرضوا عن الغاوين ، وازجروا العاوين وعرجوا عن سبيل الناكثين ، إلى سنن المهتدين . وأمسكوا الألسنة عن السابقين إلى الدين . وإياكم أن تكونوا يوم القيامة من الهالكين بخصومه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد هلك من كل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خصمه . ودعوا ما مضى فقد قضى الله ما قضى . وخذوا لأنفسكم الجد فيما يلزمكم اعتقاداً وعملاً . ولا تسترسلوا بالسنتكم فيما لا يعينكم مع كل ناعق أتخذ الدين هملاً ، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً . ورحم الله الربيع بن خثيم ( 3 ) فإنه لما قيل له : قتل الحسين ! قال : أقتلوه ؟ قالوا : نعم . فقال { اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة ، انت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون } ( الزمر : 46 ) . ولم يزد على هذا ابداً . فهذا العقل والدين ، والكف عن احوال المسلمين ، والتسليم لرب العالمين .
قاصمة
... فإن قيل : إنما يكون ذلك في المعاني التى تشكل ، وأما هذه الأمور كلها فلا إشكال فيها ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على استخلاف على بعده فقال (( انت منى بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ( 4 ) )) ، [ وقال ] : (( اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ( 5 ) )) ، فلم يبق بعد هذا خلاف لمعاند .
...
---------------------------------
( 1 ) قال حدثنا محمد بن عبد الله بن غبراهيم ودعلج بن احمد قالا : حدثنا محمد ابن أحمد بن النضر ، حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، عن عبد الله بن عمر عن ربعي …. ألخ وربعى هو ابن حراش العبسى أبو مريم الكوفي .
( 2 ) أورد المؤلف هذا الخبر للدلالة على ورع عمرو ومحاسبته لنفسه السلف .

( 3 ) هم من تلاميذ عبد الله بن مسعود وابي أيوب الأنصاري وعمرو بن ميمون وأخذ عنه الإمام الشعبي وإبراهيم النخعي وابو بردة . قال له ابن مسعود لو رآك النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحبك . توفى سنة 64 .
( 4 ) في كتاب المغازي من صحيح البخاري ( ك 64 ب 78 – ج 5 ص 129 ) وفي فضائل الصحابة من صحيح مسلم ( ك 44 ح 31 – ج 7 ص 120 من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك واستخلف علياً فقال على : أتخلفني في الصبيان والنساء ؟ قال : (( ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بني بعدي )) . وانظر المناقشة في هذا الحديث بين السيد عبد الله بن الحسين السويدي سنة 1156 وبين الملاباشي على أكبر شيخ علماء الشيعة ومجتهديهم في زمن نادر شاه في كتاب ( مؤتمر النجف ) ص 25 – 27 طبع السلفية .
( 5 ) في مسند أحمد ( 1 : 84 ، 88 ، 118 ، 119 ، 152 الطبعة الولى رقم 641 ، 670 ، 950 ، 961 ، 1310 . وفي 4 : 281 ، 368 ، 370 ، 372 الطبعة الأولى و 5 : 347 ، 366 ، 370 ، 419 الطبعة الأولى ) . وانظر تفسير الحسن المثني ابن الحسن السبط ابن على بن أبي طالب لهذا الحديث في ص 185 – 186 ، وسيأتى كلام المؤلف على الحدثين في ص 192 .
فتعدى عليه ابو بكر واقتعد في غير موضعه .
... ثم خلفه في التعدى عمر .
... ثم رجى أن يوفق عمر للرجوع إلى الحق ، فأبهم الحال ، وجعلها شورى قصراً للخلاف ، للذي سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
... ثم تحيل ابن عوف حتى ردها عنه إلى عثمان .
... ثم قتل عثمان لتسوره على الخلافة وعلى أحكام الشريعة ، وصار الأمر إلى على بالحق الإلهي النبوي ، فنازعه من عاقدة ، وخالف عليه من بايعه ، ونقض عهده من شده .
وانتدب أهل الشام إلى الفسوق في الدين ، بل كفر ( 1 ) .

وهذه حقيقة مذهبهم ( 2 ) ، وأن الكل عندهم كفرة ( 3 ) ، لأن من مذهبهم التكفير بالذنوب
( 4 ) . وكذلك تقول هذه الطائفة التى تسمى بالإمامية : إن كل عاص بكبيرة كافر ( 5 ) على رسم القدرية ( 6 ) ، ولا أعصى من الخلفاء المذكورين ( 7 ) ومن ساعدهم على أمرهم ، و أصحاب محمد
---------------------------------------
( 1 ) كل هذه الفقرات من هذيان مرتكبي (( القاصمة )) وشيعتهم . وقد أجاب المؤلف في (( العاصمة )) التالية مدحضاً سخافاتهم ، ولكن أتسع عليه ميدان القول ففاقه الكلام عن موقف أهل الشام من هذه الفتن التى وقعت في الإسلام . وقد رأيت في ص 121 قول ابن الكواء أحد زعماء الفتنة وهو يصف اشباهه في الأمصار الكبرى : (( وأما أهل الأحداث من أهل الشام فأطوع الناس لمرشدهم ، واعصاهم لمغويهم )) . وإذا كان أهل الأحداث في الشام هكذا على ما شهد به زعيم من زعماء الفتنة ، فغن أهل العافية والإيمان منهم قد شهد لهم أمير المؤمنين على فيما نقله ابن كثير في البداية والنهاية ( 8 : 20 ) عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني أحد الأئمة الأعلام الحفاظ ، عن شيخه معمر بن راشد البصري وهو ايضاً من الأعلام ، عن الزهري مدون السنة وشيخ الأئمة ، ان عبد الله ابن صفوان الجمحي قال : قال رجل من صفين (( اللهم العن أهل الشام )) فقال له علي : (( لا تسب أهل الشام )) فإن بها الأبدال ، فإن بها الأبدال ، فغن بها الأبدال )) وروى هذا الحديث من وجه ىخر مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . وروى أبو أدريس الخولاني وهو من اعلام حملة السنة والشريعة ومن شيوخ الحسن البصري وابن سيرين ومكحول واضرابهم أن ابا الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( بينا انا نائم رايت الكتاب احتمل من تحت راسي ، فظننت أنه مذهوب به ، فأتبعه بصري فعمد به إلى الشام . وإن الإيمان – حين تقع الفتنة – بالشام )) . وروى هذا الحديث من الصحابة – غير أبي الدرداء

– أبو أمامة وعبد الله بن عمرو بن العاص . ولمقارنة بين اهل الشام والذين كانوا يحاربون تنقل عن ابن كثير ( 7 : 325 ) خبر الأعمش بن عمرو بن مرة ابن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأرقم قال : خطبنا علي يوم جمعة فقال ، نبتت أن بسراً قد طلع اليمني ، وغني والله لحسب ان هؤلاء القوم سيظهرون عليكم وما يظهرون عليكم إلا بعصيانكم إمامكم وطاعتهم إمامهم ، وبخيانتكم وامانتهم وإفسادكم في ارضكم وإصلاحهم . وقد بعثت فلاناً فخان وغدر وبعث فلاناً فخان وغدر وبعث المال إلى معاوية . لو أئتمنت أحدكم على قدح لأخذ علاقته . اللهم سئمتهم وسئمونى ، وكرهتهم وكرهوني . اللهم فارحهم منى وارحنى منهم . بهذا وصف على جيشه وشيعته وبعكسه في الفضائل وصف أهل الشام الذين اضطروا إلى أن يقفوا من طائفته موقف المحارب . وليس بعد وصف علي لأهل الشام بالطاعة والأمانة والإصلاح ، إلا الضرب بهذه القنبلة في وجوه واصفيهم بالكفر والفسوق في الدين .
( 2 ) أى حقيقة مذهب الشيعة واعداء الصحابة .
( 3 ) يستثنون منهم – بعد علي وبعض آله – سلمان الفارسي وأبا ذر والمقداد ابن الأسود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وابا الهيثم بن التيهان وسهل بن حنيف وعبادة ابن الصامت وابا أيوب الأنصاري وخزيمة بن ثابت وأبا سعيد الخدري . وبعض الشيعة يرى ان الطيبين من اصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقل عدداً من هؤلاء .
( 4 ) ومن مذهبهم أن علياً وأحد عشر من آلة معصومون عن الخطأ ، وانهم مصدر تشريع . ويقبلون التشريع الذى ينسبه إليهم رواة يشترط فيهم التشيع والموالاة ، وغن عرفهم الناس بما ينافي الصدق أو يناقض ما هو معلوم من الدين بالضرورة .
( 5 ) ومدلول الكبيرة عندهم غير مدلولها عند المسلمين .

( 6 ) أى الذين ينكرون القدر . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 2 : 24 ) : (( كان قدماء الشيعة متفقين في دولة بنى بويه )) . ثم فجروا وجعلوا ( الغلو ) من ضروريات مذهبهم من زمن الدولة الصفوية إلى الان .
( 7 ) وهم أبو بكر وعمر وعثمان .
- صلى الله عليه وسلم - أحرص الناس على دنيا ، وأقلهم حمية على دين ، واهدمهم لقاعدة وشريعة ( 1 ) .
عاصمة
قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : يكفيك من شر سماعه ، فكيف التململ به . خمسمائة عام عدا إلى يوم مقالي هذا – لا ننقص منها يوماً ولا نزيد يوماً – وهو مهل شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة وماذا يرجى بعد التمام إلا النقص ؟ .
ما رضيت النصارى واليهود في أصحاب موسى وعيسى ما رضيت الروافض في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - حين حكموا عليهم بانهم قد اتفقوا على الكفر والباطل ( 2 ) . فما يرجى من هؤلاء ، وما يستبقى منهم ؟ وقد قال الله تعالى { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما أستخلف الذين من قبلهم . وليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً } ، ( النور : 255 ) ( 3 ) ، وهذا قول صدق ، ووعد حق . وقد انقرض عصرهم ولا خليفة فيهم ولا تمكين ، ولا أمن ولا سكون ، إلا في ظلم وتعد وغصب وهرج وتشتيت وإثارة ثائرة .

ودق اجمعت الأمة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نص على أحد يكون من بعده ( 4 ) . وقد قال العباس لعلى – فيما روى عنه عبد الله ابنه – قال عبد الله بن عباس : خرج علي بن ابي طالب - رضي الله عنه - من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجعه الذي توفى فيه ، فقال الناس : يا أبا حسن ، كيف أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : أصبح بحمد الله بارئاً . فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له : انت والله بعد ثلاث عبد العصا . وإني لأرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوفى من وجعه هذا . إنى لأعرف وجوه بنى عبد المطلب عن الموت . اذهب بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلنسأله : فيمن يكون هذا الآمر بعده ،
-----------------------------------
( 1 ) ومع ذلك يوجد فيمن ينتمى إلى الآزهر ، وإلى السنة ، من يوالى دار التقريب بين المذاهب التى تأسست في القاهرة بعد الحرب العالمية الثانية ، ويتسلى بصرف بقية عمره في الاختلاف إليها وتبادل التقية مع القائمين عليها .
( 2 ) أخرج الحافظ ابن عساكر ( 4 : 165 ) أن الحسن المثنى ابن الحسن السبط ابن على بن أبي طالب قال لرجل من الرافضة . (( والله لئن أمكننا الله منكم لتقطعن أيديكم وأرجلكم ، ثم لا نقبل منكم توبة )) . فقال له رجل . لم لا تقبل منهم توبة ؟ قال : نحن أعلم بهؤلاء منكم . عن هؤلاء إن شاءوا صدقوكم ، وإن شاءوا كذبوكم وزعموا ان ذلك يستقيم لهم في ( التقية ) . ويلك ! إن التقية هي باب رخصة للمسلم ، إذا اضطر إليها وخاف من ذي سلطان أعطاه غير ما في نفسه يدرأ عن ذمة الله ، وليست باب فضل ، إنما الفضل في القيام بامر الله وقول الحق . وايم الله ما بلغ من التقية أن يجعل بها لعبد من عباد الله أن يضل عباد الله )) …
( 3 ) انظر ص 51 – 53 .

( 4 ) نقل الحافظ ابن عساكر ( 4 : 166 ) عن الحافظ البيهقي حديث فضيل ابن مرزوق أن الحسن المثني ابن الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب سئل فقيل له ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من كنت مولاه فعلى مولاه )) ؟ فقال : (( بلى : ولكن والله لم يعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك الإمارة والسلطان . ولو أراد ذلك لفصح لهم به ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أنصح للمسلمين . ولو كان الأمر كما قيل لقال : يا أيها الناس هذا ولى أمركم والقائم عليكم من بعدي ، فاسمعوا له واطيعوا . والله لئن كان الله ورسوله أختار علياً لهذا الآمر وجعله القائم للمسلمين من بعده ثم ترك على امر الله ورسوله ، لكان على اول من ترك أمر الله ورسوله )) .ورواه البيهقي من طرق متعددة في بعضها زيادة وفي بعضها نقصان والمعنى واحد .
فإن كان فينا علمنا ذلك وإن كان في غيرنا علمنا فأوصى بنا . فقال على : إنا والله لئن سألناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده ، وإني والله لا اسألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( 1 ).
قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : رأى العباس عندي أصح وأقرب إلى الآخرة ، والتصريح بالتحقيق . وهذا يبطل قول مدعى الإشارة باستخلاف على ، فكيف أن يدعى فيه نص ؟ ! .
فأما أبو بكر ، فقد جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرها ان ترجع إليه . قالت له : فإن لم أجدك – كانها تعنى الموت – قال : تجدين أبا بكر ( 2 ) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر وقد وقع بينه [ أي بين عمر ] وبين أبى بكر كلام ، فتعمر وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - ( 3 ) ، حتى أشفق من ذلك أبو بكر ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( هل انتم تاركو لي صاحبي ( مرتين ) . إني بعثت إليكم فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر صدقت . إلا إني أبرأ إلى كل خليل من خلته ( 4 ) )) .

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لو كنت متخذاً في الإسلام خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا . ولكن أخي ، وصاحبي ( 5 ) )) .
وقد أتخذ الله صاحبكم خليلاً . لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر ( 6 ) .
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( بينما أنا نائم رأيتنى على قليب ( 7 ) عليها دلو ، فنزعت منها ما شاء الله ، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين ( 8 ) وفي نزعه ضعف والله يغفر له ، ثم استحالت غرباً ( 9 ) ، فأخذها ابن الخاب ، فلم ار عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر ، حتى ضرب الناس بعطن ( 10 ) )) .
-----------------------------------
... ( 1 ) رواه البخاري في كتاب المغازي من صحيحه ( ك 64 ب 83 – ج 5 ص 140 – 141 ) . ونقله ابن كثير في البداية والنهاية ( 5 : 227 و 251 ) من حديث الزهرى عن عبد الله بن كعب بن مالك عن ابن عباس . ورواه الإمام أحمد في مسنده ( 1 : 263 و 325 و 2374 و 2999 ) .
... ( 2 ) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري ( ك 62 ب 5 – ج 4 ص 191 ) من حديث جبير بن مطعم قال . أتت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - فامرها أن ترجع إليه قالت : أرأيت إن جئت ولم اجدك – كأنها تقول الموت – قال - صلى الله عليه وسلم - (( إن لم تجديني فأتى أبا بكر )) .
... ( 3 ) متعر وجهه : تغير ، وذهب كا كان فيه من النضارة ، وإشراق اللون .
... ( 4 ) في كتاب مناقب الصحابة من صحيح البخاري ( ك 62 ب 5 – ج 4 ص 192 ) عن ابي الدرداء مطولاً .
... ( 5 ) في الباب المذكور من كتاب مناقب الصحابة في صحيح البخاري ( ج 4 ص 191 ) من حديث عكرمة عن ابن عباس .
( 6 ) في هذه الجملة اضطراب ونقص . وانظر لهذا المعنى حديث أبي سعيد الخدري في ذلك الموضع من صحيح البخاري ( ج 4 ص 190 – 191 ) ، وحديث ابن عباس في مسند أحمد ( 1 : 270 رقم 2432 ) ، والبداية والنهاية ( 5 : 229 و 230 ) .

( 7 ) القليب : البئر غير المطوية .
( 8 ) الذنوب : الدلو العظيمة إذا ملئت ماء . وابن أبي قحافة هو ابو بكر .
( 9 ) أي ثم عظمت فصارت كالدلو الواسعة التى تتخذ من جلد الثور لكبرها .
( 10 ) أى حتى اتخذ الناس حولها مبركاً لإبلهم لغزارة مائها ، والحديث في ذلك الموضع من صحيح البخاري ( ج 4 ص 193 ) من حديث سعيد بن المسيب عن ابي هريرة .
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ، فرجف بهم : فقال (( اثبت أحد ، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ( 1 ) )) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( لقد كان فيمن كان قبلكم من نبي إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكون أنبياء ، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر ( 2 ) )) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنه - في مرضه : (( ادعى لي أبا بكر وأخاك حتى اكتب كتاباً ، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول : أنا أولى . ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ( 3 ) )) .
وقال ابن عباس : إن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، وأني أرى الليلة في المنام ظلة تنظف السمن والعسل ، فأرى الناس يتكففون بأيديهم ، فالمستكثر والمستقل . وأرى سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض فأراك أخذت به فغلوت ، [ ثم اخذ به رجل آخر فعلاً به ، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به ] ، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ، ثم وصل له فعلاً ( وذكر الحديث ) . ثم عبرها ابو بكر فقال : وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه ، فأخذته فيعليك الله . ثم يأخذ به رجل آخر بعدك فيعلو به ، ثم يأخذه رجل آخر فيعلو به ، ثم يأخذه رجل آخر فينقطع به ثم يوصل فيعلو به ( 4 ) )) .

وصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم : (( من رأى منكم رؤيا )) فقال رجل : أنا رأيت ، كأن ميزاناً نزل من السماء ، فوزنت أنت وابو بكر فرجحت . ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر . ووزن عمر وعثمان فرجح عمر . ثم رفع الميزان . فرأينا الكراهية في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( 5 ) .
وهذه الأحاديث جبال في البيان ، وجبال في السبب إلى الحق لمن وفقه الله . ولو لم يكن معكم – ايها السنية – إلا قوله تعالى { إلا تنصروه فقد نصره الله ، إذ أخرجه الذين كفروا ثاني أثنين إذ هما في الغار } ( التوبة : 40 ) فجعلها ( 6 ) في نصيف ، وجعل ابا بكر في نصيف آخر وقام معه جميع الصحابة .
-------------------------------
( 1 ) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح مسلم ( ك 62 ب 5 – ج 4 ص 197 ) من حديث قتادة عن انس بن مالك .
( 2 ) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري ( ك 62 ب 6 – ج 4 ص 200 ) من حديث ابي سلمة عن أبي هريرة .
( 3 ) في مسند أحمد ( 6 : 144 الطبعة الأولى ) من حديث الزهري عن عروة ابن الزبير عن عائشة ، وانظر المسند ايضاً ( 6 : 47 و 106 ) وطبقات ابن سعد 3 ( 1 : 127 ) ومسند أبي داود الطيالسى : الحديث 1508 .
( 4 ) في كتاب التعبير من صحيح ( ك 91 ب 47 – ج 8 ص 83 – 84 ) من حديث عبد الله بن عباس ، وفي كتاب الرؤيا من صحيح مسلم
( ك 47 ح 17 – ج 7 ص 55 – 56 ) من حديث ابن عباس ، وفي مسند أحمد ( 1 : 236 الطبعة الأولى رقم 2113 ) من حديث ابن عباس .
( 5 ) في كتاب السنة من سنن ابي داود ( ك 39 ب 8 ح 4634 ) من حديث ابي بكرة . وفي كتاب الرؤيا من جامع الترمذي ( الباب 10 ) من حديث ابي بكر أيضاً . وأنظر في مسند أحمد ( 5 : 259 الطبعة الأولى ) حديث أبي أمامة عن رجحان كفة ابي بكر بكفة فيها جميع الأمة …. ألخ .
( 6 ) أى الأمة .

وإذا تبصرتم هذه الحقائق فليس يخفى منها حال الخلفاء في خلالهم وولايتهم وترتيبهم خصوصاً وعموماً . وقد قال الله تعالى { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما أستخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ، ويعبدونني لا يشركون بي شيئاً } ( سورة النور : 55 ) . وإذا لم ينفذ هذا الوعد في الخلفاء فلمن ينفذ ؟ وإذا لم يكن فيهم فيمن يكون ؟ والدليل عليه انعقاد الإجماع أنه لم تثقدمهم في الفضيلة أحد إلى يومنا هذا ، ومن بعد مختلف فيه ، وأؤلئك مقطوع بهم ، متيقن إمامتهم ، ثابت نفوذ ، وعد لهم ، فإنهم ذبوا عن حوزة المسلمين ، وقاموا بسياسة الدين . قال علماؤنا : ومن بعدهم تبع لهم من الأئمة الذين هم اركان الملة ، ودعائم الشريعة ، الناصحون لعباد الله ، الهادون من أسترشد إلى الله . فأما من كان من الولاة الظلمة فضررة مقصور على الدنيا وأحكامها .
واما حفاظ الدين فهم الأئمة العلماء الناصحون لدين الله ، وهم اربعة اصناف :
الصنف الأول : حفظوا اخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهم بمنزلة الخزان لأقوات المعاش .
الصنف الثاني : علماء الأصول : ذبوا عن دين الله أهل العناد واصحاب البدع ، فهم شجعان الإسلام ، وابطاله المداعسون عنه في مآزق الضلال ( 1 ) .
الصنف الثالث : قوم ضبطوا أصول العبادات ، وقانون المعاملات وميزوا المحللات من المحرمات ، واحكموا الخراج والديات ، وبينوا معاني الإيمان والنذور ، وفصلوا الأحكام في الدعاوي ، فهم – في الدين بمنزلة الوكلاء المتصرفين في الأموال .
الصنف الرابع : تجردوا للخدمة ، وادبوا على العبادة ، واعتزلوا الخلق . وهم – في الآخرة – كخواص الملك في الدنيا .
وقد أوضحنا في كتاب ( سراج المريدين ) في القسم الرابع من علوم القرآن أى المنازل افضل من هؤلاء الأصناف ، وترتيب درجاتهم .

قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : وهذه كلها إشارات أو تصريحات او دلالات أو تنبيهات . ومجموع ذلك يدل على صحة ما جرى ، وتحقيق ما كان من العقلاء .
ونقول – بعد هذا البيان – على مقام آخر : لو كان هنالك نص على ابي بكر أو على علي ، لم يكن بد من احتجاج علي به ، أو يحتج له به غيره من المهاجرين والأنصار . فأما حديث
--------------------------------
... ( 1 ) المداعسة : المطاعنة ، المدافعة .
غدير خم ( 1 ) فلا حجة فيه ، لأنه إنما استخلفه في حياته على المدينة كما استخلف موسى هارون في حياته – عند سفره للمناجاة – على بنى إسرائيل . وقد اتفق الكل من إخوانهم اليهود على أن موسى مات بعد هارون فأين الخلافة ؟ .
... وأما قوله (( اللهم وال من والاه )) فكلام صحيح ، ودعوة مجابة وما يعلم أحد عاداه إلا الرافضة ، فإنهم أنزلوه في غير منزلته ، ونسبوا إليه ما لا يليق بدرجته . والزيادة في الحد نقصان من المحدود . ولو تعدى عليها ابو بكر ما كان المتعدى وحده ، بل جميع الصحابة – كما قلنا – لأنهم ساعدوه على الباطل .
... ولا تستغربوا هذا من قولهم ، فإنهم يقولون : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مدارياً لهم ، معنياص بهم على نفاق وتقية . وأين أنت من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع قول عائشة - رضي الله عنه - : مروا عمر فليصل بالناس (( إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس ( 2 ) )) . وما قدمنا من تلك الأحاديث ( 3 ) .

... لقد اقتحموا عظيماً ، ولقد افتروا كبيراً . وما جعلها عمر شورى إلا اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبأبي بكر ، إذ قال : (( إن استخلف فقد أستخلف من هو خير منى ، وإن لم استخلف فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف ( 4 ) فما رد هذه الكلمات أحد . وقال : (( أجعلها شورى في النفر اللذين توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض ( 5 ) )) . وقد رضى الله عن اكثرهم منهم ، ولكنهم كانوا خيار الرضا ، وشهد لهم بالأهلية للخلافة .
... واما قولهم تحيل ابن عوف حتى ردها لعثمان ، فلئن كانت حيلة ولم يكن سواها فلأن الحول ليس إليه ( 6 ) . وإذا كان عمل العباد حيلة أو كان القضاء بالحول ، فالحول والقوة لله . وقد علم كل أحد أن لا يليها إلا واحد ، فاستبد عبد الرحمن بن عوف بالأمر – بعد أن أخرج نفسه
-----------------------------
... ( 1 ) الذي مضى في القاصمة ص 181 ، وأنظر في ص 185 – 186 تفسير الحسن المثنى لهذا الحديث .
... ( 2 ) صحيح البخاري ( ك 10 ب 39 و 46 و 67 و 68 و 70 – ج 1 ص 161 – 162 و 165 ، و 174 – 176 ) من حديث عائشة وأبي موسى الأشعري .
... ( 3 ) في ص 187 – 190 .
( 4 ) في كتاب الإمارة من صحيح مسلم ( ك 33 ح 11 و 12 – ج 6 ص 4 – 5 ) من حديث عروة بن الزبير عن ابن عمر ، ومن حديث سالم عن ابن عمر . وفي مسند أحمد ( 1 : 43 رقم 299 ) عن عروة عن ابن عمر ، و ( 1 : 46 رقم 322 ) عن حميد ابن عبد الرحمن عن ابن عباس ، و ( 1 : 47 رقم 232 ) عن الزهري عن سالم عن ابن عمر .
( 5 ) من حديث عمرو بن ميمون المطول في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري ( ك 62 ب 8 ج 4 ص 204 – 207 ) ، وانظر كتابنا هذا ص 52 – 53 .

( 6 ) بل إلى الله وإن الله هم الموفق لابن عوف وسائر إخوانه الصحابة حتى كانوا في ذلك الموقف على ما اراده الله لهم من صفاء النية وإخلاص القصد والعمل لله وحده فكان من اختيار خليفة عمر في حادث الشورى مثلاً أعلى النفس الإنسانية عندما تكون في اعلى مراتب النبل ، والتجرد عن جميع خواطر الهوى .
على ان يجتهد للمسلمين في الأسد والأشد ، فكان كما فعل ، وولاها من استحقها ، ولم يكن غيره أولى منه بها ، حسبما بينا في (( مراتب الخلافة )) من ( أنوار الفجر ( 1 ) ) وفي غيره من [ كتب ] الحديث .
... وقتل عثمان ، فلم يبق على الأرض أحق بها من علي ، فجاءته علي قدر ، في وقتها ومحلها . وبين الله على يديه من الأحكام والعلوم ما شاء الله ان يبين . وقد قال عمر (( لولا على لهلك عمر ( 2 ) )) . وظهر من فقهه وعلمه في قتال أهل القبلة – من استدعائهم ومناظرتهم ، وترك مبادرتهم ، والتقدم إليهم قبل نصب الحرب معهم وندائه : لا نبدأ بالحرب . ولا يتبع مول ، ولا يجهز على جريح ، ولا تهاج امرأة ، ولا نغتم لهم مالا – وامره بقبول شهادتهم ، والصلاة خلفهم ، حتى قال أهل العلم : لولا ما جرى ما عرفناه قتال أهل البغي .
... وأما خروج طلحة والزبير فقد تقدم بيانه ( 3 ) .
وأما تكفيرهم للخلق ، فهم الكفار ، وقد بينا أحوال أهل الذنوب التى ليس منها سب في غير ما كتاب ، وشرحناها في كل باب .

فإن قيل : فقد قال العباس في علي ما رواه الأئمة أن العباس وعلياً أختصما عند عمر في شان أوقاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال العباس لعمر : يا امير المؤمنين ، أقض بينى وبين هذا الظالم الكاذب الآثم الجائر ( 4 ) . فقال الرهط لعمر : يا أمير المؤمنين ، أقضى بينهما وارح احدهما من الآخر . فقال عمر : أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا نورث ، ما تركناه صدقة )) يريد بذلك نفسه ؟ قالوا : قد قال ذلك . فأقبل العباس وعلى فقال : أنشدكما الله ، هل تعلمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك ؟ قالا : نعم . قال عمر : إن الله خص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الفئ بشئ لم يعطه أحداً غيره ، فعمل فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياته ، ثم توفى ، فقال أبو بكر : أنا ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقبضها سنتين في إمارته فعمل فيها بما عمل رسول

------------------------------------
... ( 1 ) هو التفسير الكبير لابن العربي في ثمانين مجلداً . تكلمنا عليه في ص 27 .
( 2 ) هذا مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه : (( أول من يصافحه الحق عمر )) وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به )) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( لو كان من بعدي نبي لكان عمر )) .
( 3 ) وانه كان خوجاً للتفاهم والتعاون على إقامة الحدود الشرعية في مقتل أمير المؤمنين عثمان ، أنظر ص 150 – 152 .

( 4 ) تقدم في ص 49 – 50 ذكر هذا التقاضي بين العباس وعلى عند أمير المؤمنين عمر من حديث مالك بن اوس بن الحدثان النصري في صحيح البخاري . قال الحافظ ابن حجر في فتح البارى ( ك 57 ب 1 – ج 6 ص 125 ) : زاد شعيب ويونس : (( فاستب على وعباس )) وفي رواية عقيل ابن شهاب في الفرائض : (( اقض بينى وبين هذا الظالم . استبا )) وفي وراية جويرية (( وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن )) . قال الحافظ : ولم أر في شئ من الطرق انه صدر من على في حق العباس شئ ، وبخلاف ما يفهم من قوله في رواية عقيل (( استبا )) . واستصوب المازرى صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا الحديث وقال : لعل بعض الرواة وهم فيها وغن كانت محفوظة ، فأجود ما يحتمل عليه ان العباس قالها دلالا على علي ، لأنه كان عنده بمنزلة الولد ، فأراد ردعة عما يعتقد أنه مخطئ فيه .
الله - صلى الله عليه وسلم - . وأنتما تزعمان أن أبا بكر كاذب غادر خائن ( 1 ) ، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق …. وذكر الحديث .
قلنا : أما قول العباس لعلى فقول الأب للأبن ، وذلك على الرأي محمول ، وفي سبيل المغفرة مبذول ، وبين الكبار والصغار – فكيف الآباء والأبناء – مغفور موصول ، وأما قول عمر أنهما اعتقد ان أبا بكر ظالم خائن غادر ، فإنما ذلك خبر عن الاختلاف في نازلة وقعت من الأحكام ، رأى فيها هذا رأيا ورأى فيها أولئك رأيا ، فحكم أبو بكر وعمر بما رأيا ، ولم ير العباس وعلى ذلك . ولكن لما حكما سلما لحكمهما كما يسلم لحكم القاضي في المختلف فيه . وأما المحكوم عليه فرأي أنه قد وهم ، ولكن سكت وسلم .

فإن قيل : إنما يكون ذلك في اول الحال – والأمر لم يظهر – غذ كان الحكم باجتهاد ، وأما [ بعد أن ] أدى هذا الحكم إلى منع فاطمة والعباس الميراث بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا نورث ما تركناه صدقة )) وعلمه أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه العشرة وشهدوا به ، فبطل ما قلتموه ( 2 ) .
قلنا : يحتمل ان يكون ذلك في أول الحال – والأمر لم يظهر بعد – فرايا أن خبر الواحد في معارضته القرآن والأصول والحكم المشهور في الزمن لا يعمل به حتى يتقرر الأمر ، فلما تقرر سلما وانقادا ، بدليل ما قدمنا من الحديث الصحيح إلى آخره ، فلينظر فيه . وهذا ايضاً ليس بنص في المسالة ، لأن قوله (( لا نورث ، ما تركناه صدقة )) يحتمل أن يكون : لا يصح ميراثنا ، ولا أنا أهل له ، لأنه ليس لي ملك ، حكم ، وقوله (( ما تركناه صدقة )) حكم آخر معين اخبر به انه قد أنفذ ذلك مخصوصاً لما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، واكن له سهمه مع المسلمين فيما غنموا بما أخذوه عنوة . ويحتمل أن يكون (( صدقة )) منصوباً على ان يكون حالاً من المتروك . إلى هذا أشار أصحاب أبي حنيفة ، وهو ضعيف ، وقد بيناه في موضعه . بيد ان يأتيك في هذا أن المسألة مجرى الخلاف ، ومحل الاجتهاد ، أنها ليست بنص من النبي - صلى الله عليه وسلم - فتحتمل التصويب والتخطئة من المجتهدين والله اعلم .
-------------------------------
( 1 ) قال الحافظ ابن حجر ( 6 : 125 ) : وكان الزهرى يحدث به تارة فيصرح وتارة فيكنى ، وكذلك مالك ، وقد حذف ذلك في رواية بشر بن عمر عنه افسماعيلي وغيره ، وهو نظير ما سبق من قول العباس لعلى … ألخ .
( 2 ) أنظر ص 48 – 51 .
قاصمة
ثم قتل علي . قالت الرافضة : فعهد إلى الحسن ، فسلمها الحسن إلى معاوية ، فقيل له
(( مسود وجوه المؤمنين ( 1 ) )) وفسقته جماعة من الرافضة ، وكفرت طائفة لأجل ذلك .
عاصمة

قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : أمنا قول الرافضة أنه عهد إلى الحسن فباطل . ما عهد إلى أحد ( 2 ) . ولكن البيعة للحسن منعقدة ، وهو أحق من معاوية ومن كثير من غيره ، وكان خروجه لمثل ما خرج إليه أبوه من دعاء الفتنة الباغية إلى الانقياد للحق والدخول في الطاعة ، فآلت الوساطة إلى أن تخلى عن الآمر صيانة لحقن دماء الأمة ( 3 ) ، وتصديقاً لقول نبي الرحمة حيث قال على المنبر : (( ابنى هذا سيد )) ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين (4)
-------------------------------

( 1 ) من عناصر إيمان الرافضة – بل العنصر الأول في إيمانهم – اعتقادهم بعصمة الحسن وأبيه واخيه ، وتسعة من ذرية اخيه . ومن مقتضى عصمتهم – وفي طليعتهم الحسن بعد ابيه – أنهم لا يخطئون ، وان كل ما صدر عنهم فهو حق ، والحق لا يتناقض وأهم ما صدر عن الحسن بن على بيعته لأمير المؤمنين معاوية ، وكان ينبغي لهم أن يدخلوا في هذه البيعة ، وان يؤمنوا بانها الحق لأنها من عمل المعصوم عندهم . لكن المشاهد من حالهم انهم كافرون بها . ومخافون فيها لإمامهم المعصوم . ولا يخلو هذا من أحد وجهين : فإما أنهم كاذبون في دعوى العصمة لأئمتهم الإثنى عشر ، فينهار دينهم من اساسه ، لأن عقيدة العصمة لهم هي اساسه ، ولا اساس له غيرها . وإما أن يكونوا معتقدين عصمة الحسن ، وأ، بيعته لمعاوية هي من عمل المعصوم ، لكنهم خارجون على الدين ، ومخالفوة للمعصوم فيما جنح إليه وأراد أن يلقى الله به . ويتواصلون بهذا الخروج على الدين جيلاً بعد جيل ، وطبقة بعد طبقة ، ليكون ثباتهم على مخالفة الإمام المعصوم عن إصرار وعناد ومكابرة وكفر . ولا ندري أي الوجهين يطوح بهم في مهاوي الهلكة اكثر مما يطوح بهم الوجه الآخر ، ولا ثالث لهما . فالذين قالوا منهم إن الحسن (( مسود وجوه المؤمنين )) لا يحمل كلامهم إلا على اأنه (( مسود وجوه المؤمنين بالطاغوت )) اما المؤمنون بنبوة جد الحسن - صلى الله عليه وسلم - فيرون صلحه مع معاوية وبيعته له من أعلام النبوة ، لأنها حققت ما تنبا به - صلى الله عليه وسلم - في سبطه سيد شباب أهل الجنة من انه سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين كما سياتى بيانه . وكل الذين استبشروا بهذه النبوة وبهذا الصلح يعدون الحسن (( مبيض وجوه المؤمنين )) .

( 2 ) روى الإمام أحمد في مسنده ( 2 : 130 برقم 1078 ) عن وكيع عن الأعمش عن سالم بن ابي الجعد عن عبد الله بن سبع قال : سمعت علياً يقول ( وذكر أنه سيقتل ) قالوا : فاستخلف علينا . قال : (( لا ، ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) . قالوا . فما تقول لربك إذا أتيته ؟ قال : (( أقول : اللهم تركتنى فيهم ما بدا لك ، ثم قبضتني إليك وانت فيهم ، فإن شئت أصلحتهم ، وإ، شئت أفسدتهم ، وروى أحمد مثله ( 1 : 156 برقم 1339 ) عن أسود بن عامر عن الأعمش عن سلمة ابن كهيل عن عبد الله بن سبع . والخبران إسناد كل منهما صحيح . ونقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ( 5 : 250 – 251 ) عن الإمام البيهقي من حديث حصين بن عبد الرحمن عن الإمام الشعبي عن ابي وائل شقيق بن سلمة الأسدي أحد سادة التابعين أنه قبل لعلى : ألا تستخلف علينا ؟ قال : (( ما استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأستخلف ، ولكن إن يرد الله بالناس خيراً فسيجمعهم بعدى على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم )) ، وهذا الحديث جيد الإسناد . ونقل ابن كثير أيضاً ( 7 : 323 ) عن الإمام البيهقي حديث حبيب بن أبي ثابت الكاهلى الكوفي عن ثعلبة بن يزيد الحماني ( وهو من شيعة الكوفة وثقة النسائي ) أنه قيل لعلى : ألا تستخلف ؟ فقال : (( لا ، ولكن أترككم كما ترككم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) . وأنظر السنن الكبرى للبيهقي 8 : 149 .

( 3 ) حكاية الوساطة بين الحسن ومعاوية وصلحهما رواها الإمام البخاري في كتاب الصلح من صحيحه ( ك 53 ب 5 9ج 3 ص 169 ) عن الإمام الحسن البصري قال : استقبل – والله – الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال . فقال عمرو بن العاص : إنى لأرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانها . فقال له معاوية – وكان والله خير الرجلين : أى عمرو ، إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لى بأمور الناس ، من لى بنسائهم ، من لي بضيعتهم ؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بنى عبد شمس – عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله ابن عامر بن كريز – فقال : اذهبا إلى هذا الرجل ( أى الحسن بن على ) فاعرضا عليه ( أى ما يشاء ، وقولا له ( أي ما يرضيه ) ، واطلبا إليه ( أى ما تريان فيه المصلحة ، فأنتما مفوضان ) . فأتياه ، فدخلا عليه ، فتكلما ، وقالا له ، وطلبا إليه . فقال لهما الحسن ابن على : إنا بنو عبد المطلب قد اصبنا من هذا المال ، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها ( أى فيحتاج إرضاؤها في دمائها إلى مال كثير ) قال : فإنه يعرض عليك كذا وكذا ، ويطلب إليك ويسألك . قال : فمن لى بهذا ؟ قالا : نحن لك به . فما سألهما إلا قال : نحن لك به . فصالحه
( 4 ) رواه البخاري مع الحديث السابق عن الحسن البصري أنه سمعه من أبي بكرة وأن أبا بكرة رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر والحسن بن على إلى جنبه فقال ذلك ، رواه البخارى أيضاً في مناقب الحسن والحسين من كتاب فضائل الصحابة من صحيحه ( ك 62 ب 22 – ج 4 ص 216 ) ، وأنظر البداية والنهاية ( 8 : 17 – 19 ) وابن عساكر ( 4 : 211 – 212 ) .
فنفذ الميعاد ، وصحت البيعة لمعاوية ، وذلك لتحقيق رجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فمعاوية خليفة ، وليس بملك ( 1 ) .

فإن قيل : فقد روى عن سفينة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( الخلافة ثلاثون سنة ، ثم تعود ملكاً )) فإذا عددنا من ولاية ابي بكر إلى تسليم الحسن كانت ثلاثين سنة لا تزيد ولا تنقص يوماً ، قلنا :
خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
هذا الحديث ( 2 ) في ذكر الحسن بالبشارة له والثناء عليه ، لجريان الصلح بين يديه ، وتسليم الأمر لمعاوية ، عقد منه له ( 3 ) .
وهذا ( 4 ) حديث لا يصح ( 5 ) . ولو صح فهو معارض لهذا الصلح المتفق عليه ، فوجب الرجوع إليه ( 6 ) .
فإن قيل : ألم يكن في الصحابة اقعد بالأمر من معاوية ؟
قلنا : كثير ( 7 ) . ولكن معاوية اجتمعت فيه خصال : وهي أن عمر جمع له الشامات كلها
--------------------------------
( 1 ) سيأتى الكلام على هذا الموضوع في ص 207 – 210 .
( 2 ) أى حديث (( أن بنى هذا سيد )) الذى رواه البخارى البصرى عن أبي بكرة .
( 3 ) أى عقد بيعة من الحسن لمعاوية . وكان ذلك في موضع يقال له (( مسكن )) على نهر دجيل في ربيع الأول سنة إحدى واربعين ، فسمى ذلك العام (( عام الجماعة )) لاجتماع المسلمين بعد الفرقة ، وتفرغهم للحروب الخارجية والفتوح ونشر دعوة الإسلام بعد أى عطل قتلة عثمان سيوف المسلمين عن هذه المهمة نحو خمس سنوات كان يستطيع المسلمون أن يسجلوا فيها أمجاداً لا يستطيع غيرهم مثلها في خمسة قرون . ولله في كل شئ حكمة .
( 4 ) أى حديث سفينة .

( 5 ) لأن رواية عن سفينة سعيد بن جهمان ، وقد اختلفوا فيه : قال بعضهم لا بأس به ، ووثقة بعضهم ، وقال فيه الإمام أبو حاتم (( شيخ لا يحتج به )) . وفي سنده حشرج ابن نباتة الواسطى وثقة بعضهم ، وقال فيه النسائي (( ليس بالقوى )) . وعبد الله بن أحمد ابن حنبل يروى هذا الخبر عن سويد الطحان قال فيه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب . (( لين الحديث )) . وهذا الحديث المهلهل يعارضه ذلك الحديث الصحيح الصريح الفصيح في كتاب الإمارة من صحيح مسلم ( ك 33 ح 5 ، 6 ، 7 ، 8 ، 9 ، 10 – ج 6 ص 3 – 4 ) عن جابر بن سمرة قال : دخلت مع أبي على النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعته يقول : (( إن هذا الآمر لا ينقضى حتى يمضى فيهم أثنا عشر خليفة )) قال : ثم تكلم بكلام خفى علي ، فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : (( كلهم من قريش )) . وانظره في كتاب الأحكام من صحيح البخارى ( ك 93 ب 51 – ج 8 ص 125 – 127 ) وفتح البارى ( 13 – 162 وما بعدها ) وفي سنن ابي داود ( ك 35 ح 1 ) وفي جامع الترمذي ( ك 31 ب 46 ) وفي مسند الإمام أحمد ( 1 : 398 و 406 برقم 3781 و 3859 ) من حديث الشعبي عن مسروق بن الأجدع الهمداني الإمام القدوة قال كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، هل سألتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ك يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال عبد الله ابن مسعود : ما سالنى عنها أحد منه قدمت العراق قبلك . ثم قال : نعم ، ولقد سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( أثنا عشر ، كعدة نقباء بنى إسرائل )) . والحديث في مجمع الزوائد ( 5 : 90 ) . وفي مسند أحمد ( 5 : 86 ، 87 بثلاث روايات و 88 ، 89 ، 90 بثلاث روايات و 92 بثلاث روايات و 93 بروايتين و 94 و 95 و 96 بروايتين و 97 بروايتين و 98 بثلاث روايات و 99 بثلاث روايات و 100 ، 101 بروايتين و 106 بروايتين و 107 بروايتين و 108 ) وفي مسند أبي داود الطيالسى (

ح 967 و 1278 ) .
( 6 ) أى إلى العقد من الحسن لمعاوية ، فهو متفق عليه ، وتناوله البشرى النبوية بالثناء والرضا . قال شيخ الإسلام ابن تيميه في منهاج السنة ( 2 : 242 ) ، وهذا الحديث يبين أن الإصلاح بين الطائفتين كان ممدوحاً يحبه الله ورسوله ، وان ما فعله الحسن من ذلك كان من أعظم فضائله ومناقبه التى أثنى بها عليه - صلى الله عليه وسلم - . ولو كان القتال واجباً أو مستحباً لم يثن النبي - صلى الله عليه وسلم - بترك واجب أو مستحب …. الخ .
( 7 ) كسعد بن أبي وقاص المجاهد الفاتح أحد العشرة المبشرين بالجنة ، وعبد الله ابن عمر بن الخطاب عالم الصحابة الثابت على قدم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في جليل الأمور ودقيقها ، وغيرهما من هذه الطبقة وقريب منها ، وهؤلاء هم الذين ترك لهما الحكمان – أبو موسى وعمرو – أمر الإمامة بعد حرب صفين ليروا فيها رأيهم ، فما رأوا اجتماع الأمة كلها على معاوية دخلوا كلهم في أمامته وبايعوه . بعد أن كانوا معتزلين الفتنة من بعد عثمان ( أنظر فتح البارى 13 : 50 ) . ومعاوية نفسه يعرف للناي أقدارهم . فقد جاء في البداية والنهاية ( 8 : 134 ) عن ابن دريد عن ابي حاتم عن العتبي ان معاوية ==
وافرده بها ( 1 ) ، لما رأى من حسن سيرته ( 2 ) وقيامه بحماية البيضة وسد الثغور ( 3 ) ، وإصلاح الجند والظهور على العدو ( 4 ) وسياسة الخلق ( 5 ) .
... وقد شهد له في صحيح الحديث بالفقه ( 6 ) ، وشهد بخلافته في حديث أم حرام أن ناساً من امته يركبون ثبج البحر الأخضر ملوكاً على الأسرة ، او مثل الملوك على الأسرة ، وكان ذلك في
--------------------------

== خطب فقال : (( يا ايها الناس ، ما انا بخيركم ، وإن منكم لمن هو خير منى : عبد الله ابن عمر ، وعبد الله بن عمرو وغيرهما من الأفاضل . ولكن عسى أن أكون انفعكم ولاية ، وأنكاكم في عدوكم ، وأردكم حلباً )) . ورواه ابن سعد عن محمد بن مصعب عن أبي بكر ابن أبي مريم عن ثابت مولى معاوية أنه سمع معاوية يقول ذلك .
( 1 ) فأصبحت تحت قيادته وبحسن سياسته أقوى في الإسلام ، وهي في طليعة جيوش الجهاد والفتوح الظافرة الداعية إلى الله بأخلاقها وسيرتها قادتها وصدق إسلامهم .
( 2 ) تقد م في ص 82 حديث الليث بن سعد إمام أهل مصر بسنده الوثيق إلى سعد ابن ابي وقاص فاتح العراق وإيران ومبيد دولة كسرى أنه ما رأى بعد عثمان أقضى بالحق من معاوية . وحديث عبد الرزاق الصنعاني بسنده إلى حبر الأمة ابن عباس أنه ما رأى رجلاً أخلق بالملك من معاوية . وفي ص 83 قول شيخ الإسلام ابن تيمية ، كانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة ، وكان رعيته يحبونه ، وقد ثبت في صحيح مسلم ( ك 33 ح 65 و 66 ) قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( خيار ائمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، ويصلون عليكم وتصلون عليهم . وفي الطبرى ( 6 : 188 ) رواية مجالد عن الشعبي أن قبيصة بن جابر الأسدى قال : ألا أخبركم من صحبت ؟ صحبت عمر بن الخطاب فما رايت رجلاً أفقه ولا أحسن مدارسته منه ، ثم صحبت طلحة بن عبيد الله فما رايت رجلاً اعطى للجزيل من غير مسألة منه ، ثم صحبت معاوية فما رايت رجلاً أحب رفيقاً ولا أشبه سريرة بعلانية منه .

( 3 ) وقد بلغ من همته وعظيم عنايته بذلك أن ارسل يهدد ملك الرومو – وهو في معمعة القتال مع علي في صفين – وقد بلغه أن ملك الروم اقترب من الحدود في جنود عظيمة فكتب إليه يقول (( والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك ، لأصطلحن أنا وابن عمى عليك ولأخرجنك من جميع بلادك ، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت )) فخاف ملك الروم وانكف ( البداية والنهاية 8 : 119 ) .
( 4 ) في البر والبحر ، فكانت رايات الإسلام تحترق الآفاق بأيدى جنده ممثلة العزة التى ارادها الله لدينه ورسالة رسوله وللمؤمنين بها . وكما أن فتح مصر ودخولها في الإسلام والعروبة من عمل عمرو بن العاص وحده ، فإن تأسيس الأسطول الإسلامي والفتوح البحرية الأولى من عمل معاوية وحده . ومما ينبغي للمشغل بتاريخ العروبة والإسلام أن يعلمه أن معاوية مفطور على سجية السيادة والقيادة وصناعة الحكم ، أخرج ابن كثير في التاريخ ( 8 : 135 ) عن هشيم عن العوام بن حوشب عن جبلة بن سحيم ان عبد الله ابن عمرو بن العاص قال : (( ما رأيت أحداً أسود من معاوية )) . قال جبلة بن سحيم . قلت ولا عمر ؟ قال : (( كان عمر خيراً منه ، وكان معاوية أسود منه )) . ورووا مثل هذه الكلمة في معاوية عن عبد الله بن عمر بن الخطاب . وتقدم قول عبد الله بن عباس (( ما رايت رجلاً كان اخلق بالملك من معاوية )) .

( 5 ) قال شيخ الإسلام ابن تيميه في ( منهاج السنة 3 : 185 ) لم يكن من ملوك الإسلام ملك خيراً من معاوية ، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيراً منهم في زمن معاوية ، إذا بسبت ايامه إلى من بعده . وإذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل . وقد روى أبو بكر الثرم – ورواه ابن بطة من طريقة – حدثنا محمد بن عمرو ابن جبلة ، حدثنا محمد بن مروان ، عن يونس ، عن قتادة قال : لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم : هذا المهدى . وروى ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال : لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدى . وروى الأثرم : حدثنا أحمد بن جواس ، حدثنا أبو هريرة المكتب قال : كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله ، فقال الأعمش : فكيف لو أدركتم معاوية ؟ قالوا : في حلمه ؟ قال : لا والله ، بل في عدله . وقال عبد الله بن احمد بن حنبل : :اخبرنا أبو سعيد الشج ، حدثنا أبو أسامة الثقفى ، عن أبي إسحاق السبيعي أنه ذكر فقال : لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم : كان المهدى . وهذه الشهادة من هؤلاء الأئمة الأعلام لأمير المؤمنين معاوية صدى استجابة الله عز وجل دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - لهذا الخليفة الصالح يوم قال - صلى الله عليه وسلم - (( اللهم اجعله هادياً ، مهدياً ، واهد به )) وهو من اعلام النبوة .

( 6 ) في كتاب مناقب الصحابة من صحيح البخاري ( ك 62 ب 28 ج 4 ص 219 ) حديث ابي مليكة ان ابن عباس قيل له : (( هل لك في أمير المؤمنين ومعاوية ، فإنه ما أوتر إلا بواحدة . فقال : إنه فقيه )) . وفي كتاب المناقب من جامع الترمذي ( ك 46 ب 47 ) حديث عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمعاوية (( اللهم اجعله هادياً مهدياً وأهد به )) ورواه الطبراني من طريق سعيد بن عبد العزيز التنوخي – وكان لأهل الشام كالإمام لأهل المدينة – عن ربيعة بن زيد الإيادى أحد الأئمة الأعلام عن عبد الرحمن بن ابي عميرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاوية (( اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب )) . واخرجه افمام البخاري في التاريخ قال : قال لى أبو مسهر ( وذكره بالنعنعه ) . وتقدم في ص 83 حديث عزل عمير بن سعد الأنصارى عن ولاية حمص في خلافة عمر وتوليته معاوية والشهادة له بان النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له بان يهدى الله به . ورواه الإمام أحم من حديث العرباض بن سارية السلمى . ورواه ابن جرير من حديث ابن مهدي ، ورواه اسد بن موسى وبشر بن السرى وعبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح الإسناده . وزاد في رواية بشر بن السرى (( وأدخله الجنة )) . ورواه ابن عدى وغيره عن ابن عباس . ورواه محمد بن سعد بسنده إلى مسلمة ابن مخلد احد فاتحى مصر وولاتها . ورواة هذه الداعي النبوي لمعاوية من الصحابة أكثر من أن يحصوا . ( وانظر البداية والنهاية 8 : 120 – 121 . وانظر ترجمة معاوية في حرف الميم من تاريخ ==
ولايته ( 1 ) .
... ويحتمل أن تكون مراتب في الولاية : خلافة ، ثم ملك . فتكون ولاية الخلافة للأربعة ، وتكون ولاية الملك لابتداء معاوية ( 2 ) . وقد قال الله في داود – وهو خير من كل معاوية - :
----------------------------

== دمشق لابن عساكر . ومن لم يصدق هذا الحديث فهو منكر لكل ما ثبت في السنة من شريعة الإسلام . وفي الشيعة المبغضين لمعاوية اللاعنين له من يزعمون أنهم منتسبون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فهل تراهم يحقدون على جدهم - صلى الله عليه وسلم - لرضاه عن معاوية واستعاته به ودعائه له ؟ (( إذا لم تستح فاصنع ما شئت )) وروى الحافظ ابن عساكر عن الإمام أبي زرعه الرازى أنه قال له رجل : إنى ابغض معاوية . فقال له : ولم ؟ قال : لأنه قتل علياً . فقال له أبو زرعة : (( ويحك ، إن رب معاوية رحيم ، وخصم معاوية خصم كريم ، فإيش دخولك أنت بينهما ، - رضي الله عنه - ؟ )) .
... ( 1 ) أم حرام بنت ملحان صحابية من الأنصار من أهل قباء ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب إلى قباء استراح عندها ، وهي خالة خادمة انس بن مالك . روى البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه ( ك 56 ب 3 – ج 3 ص 201 ) ومسلم في كتاب الإمارة ( ك 33 ح 160 ) عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام عندها القيلولة ثم أستيقظ وهو يضحك لأنه رأى ناساً من أمته غزاة في سبيل الله يركبون ثبج البحر – أى وسطه ومعظمه – ملوكاً على السرة . ثم وضع رأسه فنام واستيقظ وقد رأى مثل الرؤيا الأولى . فقالت له أم حرام : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال لها (( أنت من الأولين )) . قال الحافظ ابن كثير ( 8 : 229 ) يعني جيش معاوية حين غزا قبرس ففتحها سنة 27 أيام عثمان بن عفان ( بقيادة معاوية عقب إنشائه الأسطول الإسلامي الأول في التاريخ ) . وكانت معهم ام حرام في صحبة زوجها عبادة بن الصامت . ومعهم من الصحابة أبو الدرداء وابو ذر وغيرهما . وماتت أم حرام في سبيل الله وقبرها بقبرس إلى اليوم . وقال ابن كثير : ثم كان أمير الجيش الثاني يزيد بن معاوية في غزوة القسطنطينية . قال : وهذا من اعظم دلائل النبوة .

( 2 ) الخلافة والملك والإمارة عناوين اصطلاحية تنكيف في التاريخ باعتبارها مدلوها العملى ، والعبرة دائماً بسيرة المرء وعمله . ومعاوية قد ولى الشام للخلافة الراشدة مدة عشرين سنة ، ثم اضطلع بمهمة الإسلام كلها عشرين سنة أخرى في الوطن الإسلامي الأكبر بعد بيعة الحسن بن على له ، فكان في الحالتين قواماً بالعدل ، محسناً إلى الناس من كل الطبقات ، يكرم اهل المواهب ويساعدهم على تنمية مواهبهم ، ويسع بحمله جهل الجاهلين بذلك نقائصهم ، ويلتزم في الجميع أحكام الشريعة المحمدية بحزم ورفق ومثابرة وإيمان . يؤمهم في صلواتهم ويوجههم في مجتمعهم ومرافقهم ويقودهم في حروبهم . وفي منهاج السنة 3 : 185 والمتنقى منه ص 389 قول الصحابي الجليل أبي الدرداء لأهل الشام (( ما رأيت أحداً أشبه صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إمامكم هذا )) يعني معاوية . وقد رأيت في ص 205 قول الأعمش اللذين ذكروا عنده عمر بن عبد العزيز وعدله : (( كيف لو ادركتم معاوية ؟ )) قالوا : في حلمه ؟ قال : (( لا والله ، بل في عدله )) وق\ بلغ من استقامته على جادة الإسلام أنه قال فيه أمثال قتادة ومجاهد وابي إسحاق السبيعي – وكلهم من الأئمة الأعلام - : كان معاوية هو المهدى ( أنظر ص 205 ) . والذي يتبع سيرة معاوية في حكمه يرى ان حكومته في الشام كانت حكومة مثالية في العدل والتراحم والتآسى . لم يخبر بين الطيب والأطيب إلا أختار الأطيب على الطيب . فإذا كان هذا المسلك في اربعين سنة يؤهل الأمير المسلم للخلافة على المسلمين وقد ارتضوه لذلك واغتبطوا به فهو خليفة ، ومن سماه ملكاً لا يستطيع أن يكابر في أنه من أرحم ملوك الإسلام وأصلحهم ، كنا ايام طلب العلم في القسطنطينية في مجلس للطلبة يتناقشون فيه موضوع سيرة معاوية وخلافته . وكان ذلك في ايام السلطان عبد الحميد . فوقف صديقي الشهيد السعيد عبد الكريم قاسم الخليل – وكان شيعياً – فقال : (( انتم تسمون

سلطاننا خليفة ، وأنا أخوكم لشيعي أعلن أن يزيد بن معاوية كان بسيرته الطيبة أحق بالخلافة واصدق عملاً بالشرع المحمدى من خليفتنا ، فكيف بأبيه معاوية )) . على أن معاوية كان يقول عن نفسه – فيما رواه خيثمة عن هارون بن معروف عن ضمرة ابن شوذب - : (( انا أول الملوك وآخر خليفة )) ، وتقدم في ص 77 حديث معمر عن الزهري (( أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه )) . وقد أشرنا هناك إلى اختلاف البيئة وتاثيره في أنظمة الحكم ، بل أن معاوية نفسه ذلك لعمر لما قدم عمر الشام وتلقاه معاوية في موكب عظيم ، فاستنكر عمر ذلك ، واعتذر له معاوية بقوله : إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة ، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام واهله ونرهبهم به )) . فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر : (( ما أحسن ما صدر عما أوردته فيه يا أمير المؤمنين )) فقال عمر : من اجل ذلك جشمناه ما جشمناه )) ( البداية والنهاية 8 : 124 – 125 ) ، وسيرة عمر التى حاول معاوية أن يسير عليها سنتين كانت المثل الأعلى في بيته ، وكان يزيد يحدث نفسه بالتزامها . روى بن ابي الدنيا عن أبي كريب محمد ابن العلاء الهمداني الحافظ عن رشدين المصري عن عمرو بن الحارث الأنصاري المصري عن بكير بن الأشج المخزومي المدني ثم المصري أن معاوية قال ليزيد : كيف تراك فاعلاً إن وليت ؟ قال : كنت والله يا أبة عاملا فيهم عمل عمر بن الخطاب . فقال معاوية : سبحان الله يا بنى ، والله لقد جهدت على سيرة عثمان فما اطلقها ، فكيف بك وسيرة عمر ( ابن كثير 8 : 229 ) . والذين لا يعرفون سيرة معاوية يستغربون إذا قلت لهم : إنه كان من الزاهدين والصفوة الصالحين . روى الإمام أحمد في كتاب الزهد ( ص 172 طبع مكة ) عن ابي شبل محمد بن هارون عن حسن بن واقع عن ضمرة بن ربيعة القرشي عن على بن أبي حملة عن أبيه قال : رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس وعليه ثوب مرقوع . وأخرج ابن كثير ( 8 : 134

) عن يونس بن ميسر الحميري الزاهد ( وهو من شيوخ الإمام الأوزاعى ) قال : رأيت معاوية في سوق دمشق ، وهو مردف وراءه وصيفاً وعليه قميص مرقوع الجيب ، يسير في اسواق دمشق . وكان قواد معاوية وكبار أصحابه يستهدونه ملابسه للتبرك بها ، فكان إذا حضر أحدهم إلى المدينة وعليه هذه الملابس يعرفونها ويتغالون في اقتنائها . روى الدارقطني عن محمد بن يحيى بن غسان أن القائد الشهير الضحاك بن قيس الفهرى قدم المدينة ، فأتى المسجد فصلى بين القبر والمنبر ، وعليه برد مرقع قد ارتدى به من كسوة معاوية ، رآه أبو الحسن البراد فعرف أنه برد معاوية فساومه عليه وهو يظنه أعرابياً من عامة الناس ، حتى رضى أبو الحسن البراد أن يدفع ==
{ وآتاه الله الملك والحكمة } ( 1 ) . ( البقرة : 251 ) فجعل النبوة ملكاً . فلا تلتفتوا إلى أحاديث ضعف سندها ومتنها ( 2 ) .
... ولو اقتضت الحال النظر في الأمور لكان – والله أعلم – رأى آخر للجمهور ، ولكن انعقدت البيعة لمعاوية بالصفة التى شاءها الله ، على الوجه الذي وعد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مادحاً له ، راضياً عنه راجياً هدنة الحال فيه ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( ابنى هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ( 3 ) )) .
وقد تكلم العلماء في إمامة المفضول مع وجود من هو افضل منه ، فليست المسألة في الحد الذي يجعلها فيه العامة ، وقد بيناها في موضعها ( 4 ) .
فإن قيل : قتل حجر بن عدى – وهو من الصحابة مشهور بالخير – صبراً أسيراً يقول زياد ، وبعثت إليه عائشة في أمره فوجدته قد فات بقتله ، قلنا : علمنا قتل حجر كلنا ، واختلفنا : فقاتل يقول قتله ظلماً ، وقائل يقول قتله حقاً ( 5 ) .
------------------------

== له ثلاثمائة دينار . فانطلق به الضحاك بن قيس إلى بيت حويطب بن عبد العزى فليس رداء آخر وأعطى أبا الحسن البراد بلا ثمن وقال له (( قبيح بالرجل أن يبيع عطافه ، فخذه فالبسه )) فأخذه أبو الحسن فباعه فكان أول مال أصابه ( ابن عساكر 7 : ص 6 ) وقد أوردنا هذه الأمثلة ليعلم الناس أن الصورة الحقيقية لمعاوية تخالف الصورة الكاذبة التى كان أعداؤه واعداء الإسلام يصورونه بها ، فمن شاء بعد هذا أن يسمى معاوية خليفة واميراً للمؤمنين ، فغن سليمان بن مهران الأعمش – وهو من الأئة الأعلام الحافظ ، وكان يسمى (( المصحف )) لصدقه – كاد يفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز حتى في عدله . ومن لم يملأ عينه وأراد أن يضن عليه بهذا اللقب ، فإن معاوية مضى إلى الله عز وجل بعدله وحلمه وجهاده وصالح وعمله ، وكان وهو في دنيانا لا يبالى أن يقلب بالخليفة أو الملك ، وإنه في آخرته لأكثر زهداً بما كان يزهد به في دنياه .
( 1 ) إن داود في نبوته – كما يعرفها المسلمون في دينهم – تجعله خيراً من كل معاوية واما داود اليهود – كما يعرفه الناس من توراتهم الموجودة الآن في الأيدى – فإن معاوية خير منه . ومن شقاء اليهود ألا يعرفوا للقرآن والإسلام فضلهما عليهم في تنزيه أنبياء بنى إسرائيل عما وصموا به في كتبهم .
( 2 ) يشير إلى حديث سفينة ، وقد مضى الكلام عليه في ص 201 .
( 3 ) تقدم الكلام على هذا الحديث في ص 200 .

( 4 ) أى من مؤلفاته الأخرى . وهذه المسألة من مسائل الفقه الإسلامي الممحصة المبنية أحكامها على النصوص والسنن والأسس الشرعية التى قام الدين على مثلها في باب جلب المصالح ودرء المفاسد وتقدير الضرورات بأقدرها . والقاضي أبو الحسن الماوردى في الأحكام السلطانية ( ص 5 ) لم يذكر مخالفاً في جواز إمامة المفضول إلا الجاحظ ، وما يضر أئمة الدين إذا خالفهم الجاحظ ، وهل العباسيون الذين عرف الجاحظ بالتقرب إليهم في حياتهم كانوا أفضل معاصريهم ؟ أما جمهور الفقهاء والمتكلمين فقالوا تجوز إمامة المفضول وصحت بيعته ، ولا يكون وجود الأفضل مانعاً من إمامة المفضول إذا لم يكن مقصراً عن شروط الإمامة ، كما يجوز – في ولاية القضاء – تقليد المفضول مع وجود الأفضل لأن زيادة الفضل مبالغة في الاختيار ، وليست معتبرة في شروط الاستحقاق ، ونحيل القارئ على كتاب (( الإمامة والمفاضلة )) لأبي محمد بن حزم المدرج في الجزء الرابع من طبعة (( الفصل ، ولا سيما الفصل المعقود فيه لأمامة المفضول ( ص 163 – 167 من طبعة مصر سنة 1320 ) .

( 5 ) حجر بن عدى الكندى عدة البخارى وآخرون من التابعين . وعدة البعض الآخر من الصحابة . وكان من شيعة على في الجمل وصفين . وروى بن سيرين أن زياداً – وهو أمير الكوفة – خطب خطبة اطال فيها ، فنادى حجر بن عدى (( الصلاة ! )) فمضى زياد في خطبته ، فحصبه حجر وحصبه آخرون معه . فكتب زياد إلى معاوية يشكو بغى حجر على أميره في بيت الله ، وعد ذلك من الفساد في الأرض . فكتب معاوية إلى زياد أن سرح به إلى …. فلما جئ به إلى معاوية أمر بقتله . فالذين يريدون أن معاوية قتله بحق يقولون : ما من حكومة في الدنيا تعاقب بأقل من ذلك من يحصب أميره وهو قائم يخطب على المنبر في المسجد الجامع ، مندفعاً بعاطفة الحزبية والتشيع . والذين يعارضونهم يذكرون فضائل حجر ويقولون كان ينبغى لمعاوية أن لا يخرج عن سجيته من الحلم وسعة الصدر لمخالفيه . ويجيبهم الآخرون بان معاوية يملك الحلم وسعة الصدر عند البغى عليه في شخصه . فأما البغى على الجماعة في شخص حاكمها وهو على منبر المسجد فهو مالا يملك معاوية أن يتسامح فيه ، ولا سيما في مثل الكوفة التى اخرجت العدد الأكبر من أهل الفتنة الذين بغوا على عثمان بسبب مثل هذا التسامح ، فكبدوا الأمة من دمائها وسمعتها وسلامة قلوبها ومواقف جهادها تضحيات غالية كانت في غنى عنها ==
فإن قيل : الأصل قتلة ظلماً إلا إذا ثبت عليه ما يوجب قتله : قلنا : الأصل أن قتل الإمام بالحق ، فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل ولو كان ظلماً محضاً لما بقى بيت إلا لعن فيه معاوية . وهذه مدينة السلام دار خلافة بنى العباس – وبينهم وبين بنى أمية مالا يخفى على الناس – مكتوب على أبواب مساجدها : (( خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم على ، ثم معاوية خال المؤمنين - رضي الله عنه - ( 1 ) )) .

ولكن حجراً – فيما يقال – رأى من زياد أمور منكرة ( 2 ) ، فحصبه ، وخلعه ، وأراد ان يقيم الخلق للفتنة ، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فساداً .
وقد كلمته عائشة في أمره حين حج ، فقال لها : دعيني وحجراً حتى نلتقى عند الله . وأنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدى الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين ، وما انتم ودخولكم حيث لا تشعرون ، فما لكم لا تسمعون ؟
فإن قيل : قد دس على الحسن من سمه .
قلنا : هذا محال من وجهين : أحدهما أنه ما كان ليتقى من الحسن باساً وقد سلم الأمر . الثاني أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله فكيف تحملونه – بغير بينة – على أحد من خلقه في زمان متباعد لم نثق فيه بنقل ناقل ، بين ايدى قوم ذوى أهواء ، وفي حال فتنة وعصبية ، ينسب كل واحد إلى صاحبه مالا ينبغى ، فلا يقبل منها إلا الصافى ، ولا يسمع فيها إلا من العدل المصمم (3)
فإن قيل : فقد عهد إلى يزيد وليس بأهل ( 1 ) .
-----------------------------
== او أن هيبة الدولة حفظت بتأديب عدد قليل من اهل الرعونة والطيش في الوقت المناسب . وكما كانت عائشة تود لو أن معاوية شمل حجراً بسعة صدره ، فغن عبد الله بن عمرو كان يتمنى مثل ذلك . والواقع ان معاوية كان فيه من حلم عثمان وسجاياه ، إلا أنه مواقف الحكم كان يتبصر في عاقبة عثمان وما جرى إليه تمادى الذين اجترأوا عليه .
( 1 ) المؤلف قام في بغداد زمن الدولة العباسية كما ذكرنا في ترجمته ، فهو يعرف مساجدها معرفة مشاهدة وعيان . ومعاوية خال المؤمنين لأنه أخو أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان المشهرة بكنيتها ( أم حبيبة ) .

( 2 ) كان زياد في خلافة علي والياً من ولاته ، وكان حجربن عدى من اولياء زياد وانصاره يؤمئذ ، ولم يكن ينكر عليه شيئاً . فلما صار من ولاة معاوية صار ينكر عليه مدفوعاً بعاطفة التحزب والتشيع . وكان حجر يفعل مثل ذلك مع من تولى الكوفة لمعاوية قبل زياد ، فلمعاوية عذر إذا رأى أن حجراً ممن سعى في الأرض فساداً .
( 3 ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 2 : 225 ) فيما تزعمه الشيعة من أن معاوية سم الحسن : (( لم يثبت ذلك ببينة شرعية ، ولا إقرار معتبر ، ولا تقل يجزم به . وهذا مما لا يمكن العلم به ، فالقول به قول بلا علم )) . قال : وقد رأينا في زماننا من يقال عنه سم ومات مسموماً من الأتراك وغيرهم . ويختلف الناس في ذلك حتى في نفس الموضع الذ مات فيه والقلعة التى مات فيها ، فتجد كلا منهم يحدث بالشئ بخلاف ما يحدث به الآخر )) . وبعد أن ذكر ابن تيميه أن الحسن مات بالمدينة وان معاوية كان بالشام ، وذكر للخبر احتمالات – على فرض صحته – منها أن الحسن كان مطلاقاً لا يدوم مع امرأة …. الخ ( وأنظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص 266 ) .
( 4 ) إن كان مقياس الأهلية لذلك أن يبلغ مبلغ ابي بكر وعمر في مجموع سجاياهما فهذا مالم يبلغه خليفة في تاريخ الإسلام ،ولا عمر بن عبد العزيز . وإن طمعنا بالمستحيل وقدرنا إمكان ظهور أبي بكر آخر وعمر آخر فلن الاستقامة في السيرة ، والقيام بحرمة الشريعة والعمل بأحكامها ، والعدل في الناس ، والنظر في مصالحهم ، والجهاد في عدوهم وتوسيع الآفاق لدعوتهم ، والرفق بافرادهم وجماعاتهم ، فغن يزيد يوم تمحص اخباره ويقف الناس على حقيقة حاله كما كان في حياته ، يتبين من ذلك أنه لم يكن دون كثيرين ممن تغنى التاريخ بمحامدهم ، واجزل الثناء عليهم .

وجرى بينه وبين عبد الله بن عمر وابن الزبير والحسن ما قصة [ المؤرخون ] عن وهب ابن جرير بن حازم عن أبيه وعن غيره : لما أجمع معاوية أن يبايع لأبنه يزيد حج ، فقدم مكة في نحو ألف رجل . فلما دنا من المدينة خرج ابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر فلما قدم معاوية المدينة صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ، ثم ذكر ابنه يزيد فقال : من أحق بهذا الأمر منه ( 1 ) . ثم ارتحل ، فقدم مكة فقضى طوافه ، ودخل منزله ، فبعث إلى ابن عمر ، فتشهد وقال : (( أما بعد با ابن عمر ، فقد كنت تحدثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء ليس عليك أمير . وإنى أحذرك أن تشق عصا المسلمين ، وإن تسعى في فساد ذات بينهم )) . فلما سكت تكلم ابن عمر فحمد الله واثنى عليه ثم قال : (( أما بعد فإنه قد كانت قبلك خلفاء لهم ابناء ليس ابنك بخير منهم ، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في أبنك ، ولكنهم اختاروا للمسلمين حيث علموا الخيار . وإنك تحذرني أن أشق عصا المسلمين ، ولم أكن لأفعل ، وإنما انا رجل من المسلمين ، فإذا اجتمعوا على أمر فإنما أنا واحد منهم )) . فخرج ابن عمر ( 2 ) .
وارسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر ، فتشهد ثم اخذ في الكلام فقطع عليه كلامه ، فقال : (( إنك والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى الله . وإنا والله لا نفعل . والله لتردن هذا الأمر شورى في المسلمين أو لتفرنها عليك جذعة ( 3 ) )) ثم وثب فقام . فقال معاوية (( اللهم أكففه بما شئت )) . ثم قال : (( على رسلك أيها الرجل ، لا تشرفن لأهل الشام ، فإنى أخاف أن يسبقوني بنفسك ، حتى أخبر العشية أنك قد بايعت ، ثم كن بعد ذلك على ما بدا لك من أمرك )) .
-------------------------------

( 1 ) شباب قريش المعاصرون ليزيد – ممن يحدثو أنفسهم بولاية الأمر لبعض الاعتبارات التى يعرفونها لأنفسهم – كثيرون جداً ، حتى سعيد بن عثمان بن عفان ومن هم دون سعيد كانوا يطمعون بولاية الأمر بعد معاوية . ومبدأ الشورى في انتخاب الخليفة أفضل بكثير من مبدأ ولاية العهد . لكن معاوية كان يعلم بينه وبين نفسه أن فتح باب الشورى في انتخاب من يخلفه سيحدث في الأمة الإسلامية مجزرة لا ترفأ فيها الدماء إلا بفناء كل ذي أهلية في قريش لولاية شئ من أمور هذه الأمة . ومعاوية أحصف من ان يخفى عليه ان المزايا موزعة بين هؤلاء الشباب القرشيين ، فإذا امتاز أحدهم بشئ منها على أضرابه ولداته ، فإن فيهم من يمتاز عليه بشئ أخر منها . غير ان يزيد – مع مشاركته لبعضهم في بعض ما يمتازون به – يمتاز عليهم باعظم ما تحتاج إليه الدولة ، أعنى القوة العسكرية التى تؤيده إذا تولى الخلافة ، فتكون قوة الإسلام . كما تؤيده إذا أوقع الشيطان الفتنة على هذا الكرسي بين المتزاحمين عليه ، فيكون مالا يحب كل مسلم أن يكون . ولو لم يكن ليزيد إلا أخواله من قضاعة واحلافهم من قبائل اليمن ، لكان منهم مالا يجوز لبعيد النظر أن يسقطه من قائمة الحساب عندما يفكر في هذه الأمور . أضف هذا إلى ما قرره ابن خلدون عند كلامه على مسير الحسين إلى العراق للخروج على يزيد يث آل في فصل (( ولاية العهد )) من مقدمة تاريخية : (( (( وأما الشوكة ، فغلط يرحمه الله فيها ، لأن عصبية مضر كانت في قريش ، وعصبية قريش في عبد مناف إنما كانت في بنى أمية ، تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس ولا ينكرونه ، وإنما نسى ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق وأمر الوحي … حتى إذا أنقطع أمر النبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشئ للعوائد. فعادت العصبية كما كانت ولمن كانت ، وأصبحت مضر اطوع لبنى أمية من سواهم )) .

( 2 ) هذا الخبر معارض بما في كتاب المغازي من صحيح البخاري ( ك 64 ب 29 – ج 5 ص 48 ) عن ابن عمر أن اخته أم المؤمنين حفصة تصحت له بان يسرع بالذهاب للبيعة وقالت : (( الحق ، فإنهم ينتظرونك ، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة وانظر ص 223 .
( 3 ) أى لتنكشفن عليك الفتنة في أشد حالاتها . ويلاحظ أن الذين انتحلوا هذه الأقوال في الاستطالة على معاوية لم يطعنوا في كفاءة يزيد واهليته لأنها آخر ما يرتابون فيه .
ثم ارسل إلى ابن الزبير فقال : (( يا ابن الزبير ، إنما انت ثعلب رواغ كلما خرج من حجر دخل في آخر ، وإنك عمدت إلى هذين الرجلين فنفخت في مناخرهما )) . فقال ابن الزبير : (( إن كنت قد مللت الإمارة فاعتزلها ، وهلم ابنك فلنبايعه . أرأيت إذا بايعت ابنك معك لأيكما نسمع ، لأيكما نطيع ؟ لا تجتمع البيعة لكما ابداً ( 1 ) )) . ثم قام .
فخرج معاوية فصعد المنبر فقال : إنا وجدنا احاديث الناس ذات عوار . وزعموا أبن ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر لم يبايعوه ليزيد قد سمعوا واطاعوا وبايعوا له .
فقال أهل الشام : لا والله : لا نرضى حتى يبايعوا على رءوس الأشهاد ، وإلا ضربنا أعناقهم .
فقال : (( مه ، سبحان الله ، وما أسرع الناس إلى قريش بالشر لا أسمع هذه المقالة من أحد بعد اليوم )) ثم نزل .
فقال الناس : بايعوا . ويقولون هم : لم نبايع . ويقول الناس : قد بايعتم .

وروى وهب من طريق آخر قال : خطب معاوية فذكر ابن عمر فقال : (( والله ليبايعن أو لأقتلنه )) فخرج عبد الله بن عبد الله بن عمر إلى ابيه وسار إلى مكة ثلاثاً وأخبره ( 2 ) ، فبكى ابن عمر . فبلغ الخبر إلى عبد الله بن صفوان ، فدخل على ابن عمر فقال : أخطب هذا بكذا ؟ قال : نعم . قال فما تريد ، أتريد قتالة ؟ قال : يا ابن صفوان ، الصبر خير من ذلك . فقال ابن صفوان : والله لو اراد ذلك لأقاتلنه ( 3 ) . فقدم معاوية مكة فنزل ذا طوى ، وخرج إليه عبد الله بن صفوان فقال : أنت تزعم انك تقتل ابن عمر إن لم يبايع لبنك ؟ قال : أنا أقتل ابن معر ؟ إنى والله لا أقتله
وروى وهب من طريق ثالث ( 4 ) قال : إن معاوية لما راح عن بطن مر قاصدا إلى مكة قال لصاحب حرسه : لا تدع أحداً يسير معي إلا من حملته . فخرج يسير وحده ، حتى إذا كان وسط الأراك لقيه الحسين ابن على ، فوقف وقال : مرحباً وأهلاً بابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد
----------------------------------
( 1 ) ابن الزبير أذكى من ان يفوته ان البيعة ليزيد بعد معاوية ، وليست لهما معاً في حياة معاوية . والذين اخترعوا هذه الأخبار وأضافوها إلى وهب بن جرير بن حازم يكذبون كذباً مفضوحاً .

( 2 ) هذا الخبر عن وهب بن جرير بن حازم يشعر بان معاوية خطب هذه الخطبة وهو في المدينة قادماً إليها من دمشق قبل ان يصل إلى مكة ، وأن ابن عمر كان يومئذ في مكة فركب إليه ابنه حتى لقيه بمكة وأخبره بهذه الخطبة . وفي الخبر الذي قبل هذا – وهو مروى عن وهب بن جرير بن حازم ايضاً – التصريح بأن ابن عمر كان بالمدينة عند وصول معاوية إليها من دمشق ، وانه كان مع الأعيان الذين خرجوا لأستقباله ، فالخبران متناقضان يكذب احدهما الآخر مع انهما عن راو واحد . ولا أدرى من اين جاء بهما المؤلف ، ولم ينقلهما الطبري مع انه يعتنى بأخبار وهب بن جرير لأنه ثقة ، ووهب مات سنة 206 وابوه سنة 170 بعد أن اختلط ، فبينهما وبين هذه الحوادث رواة الأخبار غير صحيحة لتناقضها ، ولو عرفنا رواتها إلى وهب وبعد وهب لعرفنا من اين جاء بالكذب .
( 3 ) عبد الله بن صفوان حفيد أمية بن خلف الجمحي . قتل مع ابن الزبير سنة 73 .
( 4 ) وهذا الخبر ايضاً ليس عند الطبري . واظنه مصنوعاً في المصنع ال1ي خرج منه الخبران السابقان .

شباب المسلمين . دابة لأبي عبد الله يركبها .فأتى ببرذون ، فتحول عليه . ثم طلع عبد الرحمن بن أبي بكر ( 1 ) ، فقال : مرحبا بابن شيخ قريش وسيدهم وابن صديق هذه الأمة . دابة لبي محمد يركبها . فأتى ببرذون فركبه . ثم طلع ابن عمر فقال : مرحباً وأهلاً بصاحب رسول الله وابن الفاروق وسيد المسلمين ، ودعا له بدابة فركبها . ثم طلع ابن الزبير فقال : مرحبا وأهلاً بابن حوارى رسول الله وابن الصديق وابن عمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ودعا له بدابة فركبها ، ثم اقبل يسير بينهم لا يسايره غيرهم حتى دخل مكة ، ثم كانوا اول داخل وآخر خارج ليس في الأرض صباج إلا لهم فيه حباء وكرمة ، لا يعرض لهم بذكر شئ مما هو فيه حتى قضى نسكه وترحلت اثقاله وقرب مسيرة إلى الشام وانبخت وراحله ، فأقبل بعض القوم على بعض فقالوا : أيها القوم لا تخدعوا إنه والله ما صنع هذا لحبكم ولا لكرامتكم ولا صنعه إلا لما يريد ، فأعدوا له جواباً , اقبلوا على الحسين فقالوا : أنت يا أبا عبد الله . قال : وفيكم شيخ قريش وسيدها ؟ هذا أحق بالكلام . فقالوا : أنت يا أبا محمد – لعبد الرحمن بن أبي بكر – فقال . لست هناك ، وفيكم صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن سيد المسلمين – يعنى ابن عمر – فقالوا لابن عمر : أنت ! فقال : لست بصاحبكم ، ولكن أولوا الكلام ابن الزبير يكفيكم . قالوا : أنت يا ابن الزبير . قال : نعم ، إن اعطيتموني عهدكم ومواثيقكم أن لا تخالفوني كفيتكم الرجل . فقالوا : فلك ذلك . فخرج الإذن ، فأذن لهم . فدخلوا فتكلم معاوية فحمد الله واثنى عليه ثم قال : لقد علمتم سيرتى فيكم ، وصلتى لأرحامكم ، وصفحى عنكم ، وحملة لما يكون منكم ، ويريد ابن امير المؤمنين أخوكم وابن عمكم وأحسن الناس لكم رأياً . وإنما أردت أن تقدموه باسم الخلافة وتكونوا أنتم الذين تنزعون وتؤمرون وتحبون وتقسمون لا يدخل عليكم في شئ من ذلك .

فسكت القوم . فقال : ألا تجيبوني ؟ فسكت القوم . فقال : ألا تجيبوني ؟ فسكتوا : فأقبل على ابن الزبير فقال : هات با ابن الزبير ، فإنك لعمرى صاحب خطبة القوم ، فقال : نعم يا امير المؤمنين أخيرك بين ثلاث خصال أيها أخذت فهى لك رغبة : قال : لله أبوك ، أعرضهن : قال : إن شئت صنعت ما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغن شئت صنعت ما صنع أبو بكر فهو خير هذه الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغن شئت صنعت ما صنع عمر فهو خير هذه الأمة بعد ابي بكر : قال : لله أبوك ، ما صنعوا ؟ قال : قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يستخلف أحداً ، فأرتضى المسلمون أبا بكر ، فغن شئت أن تدع أمر هذه الأمة حتى يقضى الله فيه قضاءه فيختار المسلمون لأنفسهم . فقال :
----------------------------
( 1 ) نحن نعلم من الخبر الأول عن وهب أن عبد الرحمن بن ابي بكر كان في المدينة ، وكان مع الذين استقبلوا معاوية عند وصوله إليها من دمشق ، فما الذي طار به إلى مكة حتى صار في مستقبلى معاوية عند وصوله إليها ؟ حقاً إن الذين يكذبون على معاوية أغبياء لا يجيدون صناعة الكذب .

أية ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر ، وأنى لا آمن عليكم الاختلاف . قال : فاصنع كما صنع أبو بكر ، عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بنى ابيه فاستخلفه . قال : لله ابوك الثالثة ؟ قال : تصنع ما صنع عمر ، جعل الأمر شورى في ستة نفر من قريش ليس احد منهم من ولد أبيه . قال : عندك غير هذا ؟ قال : لا . قال : فأنتم ؟ قالوا : ونحن أيضاً . قال . أما لا ، فإني أحببت ان أتقدم إليكم ، إنه قد أعذر من انذر ، وإن كان يقوم القائم منكم إلى فيكذبني على رءوس الأشهاد فأحتمل له ذلك . وإني قائم بمقالة ، فإن صدقت فلي صدقي وإن كذبت فعلى كذبي . وإني أقسم بالله لكم لئن رد على إنسان منكم لا ترجع إليه كلمته حتى يسبق إلى رأسه . ثم دعا بصاحب حرسه فقال : أقم على كل رجل من هؤلاء رجلين من حرسك فإن ذهب رجل يرد على كلمة بصدق أو كذب فليضرباه بسيفهما ( 1 ) .
... ثم خرج وخرجوا معه ، حتى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا نستبد بامر دونهم ، ولا نقضى أمراً إلا عن مشورتهم . وإنهم ارتضوا وبايعوا ليزيد بن أمير المؤمنين من بعده ، فبايعوا باسم الله . فضربوا على يده ، ثم جلي على راحلته وانصرف .
فلقيهم الناس فقالوا : زعمتم وزعمتم ، فلما أرضيتم فعلتم قالوا : إنا والله ما فعلنا . قالوا : فما منعكم أن تردوا على الرجل إذ كذب ؟ ثم بايع أهل المدينة والناس ، ثم خرج إلى الشام .

قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : لسنا ننكر ، ولا بلغت من اصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، بل نقول { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ، ربنا إنك رءوف رحيم } إلا أن نقول ، إن معاوية ترك الأفضل في أن يجعلها شورى ، وألا يخص بها أحداً من قرابته فكيف ولداً ، وان يقتدى بما اشار به عبد الله بن الزبير في الترك أو الفعل ( 2 ) فعدل إلى زلاية ابنه وعقد له البيعة وبايعه الناس ، وتخلف عنها من تخلف ( 3 ) ، فانعقدت البيعة شرعاً ، لأنها تنعقد بواحد وقيل باثنين ( 4 ) .
--------------------------------
( 1 ) أورد المؤلف هذه الأخبار المفضوح كذبها ليعارضها في ص 224 بحديث البخاري عن الموقف السليم لابن عمر في هذا الحادث ، حتى يعلم الناس أن الحق في واد وهؤلاء الرواة الكاذبون في واد غيره .
( 2 ) كان معاوية أعرف بابن الزبير من ابن الزبير بنفسه ، روى البلاذرى في أنساب الأشراف ( 4 (( 2 )) : 53 – 54 ) عن المدائني عن مسلمة بن علقمة عن خالد عن أبي قلابة أن معاوية قال لابن الزبير : (( إن الشح والحرص لن يدعاك حتى يدخلاك مدخلاً ضيقاً ، فوددت أنى حينئذ عندك فاستنقذك )) فلما حضر ابن الزبير قال : (( هذا ما قال لى معاوية ، وددت أنه كان حياً )) .
( 3 ) عدل عن الوجه الأفضل لما كان يتوجس من الفتن والمجازر إذا جعلها شورى وقد رأى القوة والطاعة والنظام والاستقرار في الجانب الذي فيه ابنه .
( 4 ) أنظر ص 144 ، والفصل لابن حزم 4 : 167 – 169 .
فإن قيل : لمن فيه شروط الإمامة ، قلنا : ليس السن من شروطها ولم يثبت أنه يقصر يزيد عنها .

[ فإن ] قيل ، كان منها العدالة والعلم ، ولم يكن : يزيد عدلاً ولا عالماً . قلنا : وبأي شئ نعلم عدم علمه ، أو عدم عدالته ( 1 ) ؟ ولو كان مسلوبهما لذكر ذلك الثلاثة الفضلاء الذين أشاروا عليه بأن لا يفعل ، وإنما رموا الأمر بعيب التحكيم ، وارادوا أن تكون شورى .
فإن قيل . كان هنالك من هو أحق منه عدالة وعلماً ، منهم مائة وربما ألف . قلنا : إمامة المفضول – كما قدمنا ( 2 ) – مسألة خلاف بين العلماء ، كما ذكر العلماء في موضعه .
وقد حسم البخاري الباب ، ونهج جادة الصواب ، فروى في صحيحه ما يبطل جميع هذا المتقدم ، وهو أن معاوية خطب وابن عمر حاضر في خطبته ، فيما روى البخاري ( 3 ) عن عكرمة بن خالد أن ابن عمر قال : دخلت على حفصة ونوساتها تنظف ( 4 ) . قلت : قد كان في الأمر ما ترين ، فلم يجعل لى من الأمر شئ . فقالت : (( الحق ، فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة )) . فلم تدعه حتى ذهب .
فلما تفرق الناس خطب معاوية فقال : من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه ، فلنحن أحق به منه ومن ابيه . قال حبيب ابن مسلمة ( 5 ) فهلا اجبته ؟ قال عبد الله : فحلك حبوتى ، وهممت أن أقول : أحق بهذا الأمر منك من قاتلك واباك على الإسلام ، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عنى غير ذلك ، فذكرت ما أعد الله في الجنان . فقال حبيب : حفظت وعصمت .
-------------------------------

( 1 ) أما عن الدالة فقد شهد له محمد بن على بن ابي طالب في مناقشته لابن مطيع عند قيام الثورة على يزيد في المدينة فقال عن يزيد : (( ما رأيت منه ما تذكرون . وقد حضرته واقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة ، متحرياً للخير ، يسأل عن الفقه ، ملازماً للسنة ( ابن كثير 8 : 233 ) . وأما عن العلم فالذي يلزم منه لمثله في مثل مركزه كان فيه موضع الرضا وفوق الرضا : روى المدائني أن ابن عباس وفد إلى معاوية بعد وفاة الحسن بن على ، فدخل يزيد على ابن عباس وجلس منه مجلس المعزى ، فلما نهض يزيد من عنده قال ابن عباس : إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس ( ابن كثير 8 : 228)
( 2 ) في ص 211 .
( 3 ) ك 64 ب 29 ب 29 – ج 5 ص 48 .
( 4 ) أى وذوائبها تقطر ماء ، سمى الذوائب (( نوسات )) لأنها تنوس ، أى تتحرك .
( 5 ) حبيب بن مسلمة الفهرى مكى كان عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - صبياً ثم التحق بالشام للجهاد فاشتهرت بطولته ، ويعد فاتح أرمينية ، ويقال إنه كان قائد النجدة التى خرجت من الشام لإنقاذ عثمان من ايدى البغاة عليه ، فجاءها الخبر بشهادته وهي في الطريق فعادت .
وروى البخاري ( 1 ) أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده وقال : إنى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة )) وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله ( 2 ) ، وإنى لا أعلم غدراً أعظم من ان نبايع رجلاً على بيع الله ورسوله ثم ننصب له القتال ، وإنى لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بينى وبينه ( 3 ) .

فأنظروا معشر المسلمين إلى ما روى البخاري في الصحيح ، وإلى ما سبق ذكرنا له في رواية بعضهم أن عبد الله بن عمر لم يبايع ، وان معاوية كذب وقال قد بايع . وتقدم إلى حرسه بأمره بضرب عنقه إن كذبه . وهو قد قال في رواية البخاري : (( وقد بايعناه على بيع الله ورسوله )) وما بينهما من التعارض ، وخذوا لأنفسكم بالأرجح في طلب السلامة ، والخلاص بين الصحابة والتابعين . فلا تكونوا – ولم تشاهدوهم ، وقد عصمكم الله من فتنتهم – ممن دخل بلسانه في دمائهم ، فيلغ فيها ولوغ الكلب بقية الدم على الأرض بعد رفع الفريسة بلحمها ، لم يلحق الكلب منها إلا بقية دم سقط على الأرض .
وروى الثبت العدل عن عبد الرحمن بن مهدى ، عم سفيان عن محمد بن المنكدر قال : قال ابن عمر حين بويع يزيد (( إن كان خيراً رضينا ، وإن كان شراً صبرنا )) .
وثبت عن حميد بن عبد الرحمن قال : دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استخلف يزيد بن معاوية فقال : تقولون إن يزيد بن معاوية ليس بخير أمة محمد ، لا أفقهها فقهاً ولا أعظمها فيها شرفاً . وانا أقول ذلك . ولكن والله لأن تجتمع أمة محمد أحب إلى من أن تفترق . أرأيتم باباً دخل فيه أمة محمد ووسعهم ، أكن يعجز عن رجل واحد لو كان دخل فيه ؟ قلنا : لا . قال : أرأيتم لو أن أمة محمد قال كل رجل منهم لا أريق دم أخى ولا آخذ ماله ، أكان هذا يسعهم ؟ قلنا : نعم . قال : فذلك ما أقول لكم . ثم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا ياتيك الحياء إلا خير )) .
-------------------------------
( 1 ) في كتاب الفتن من صحيحه ( ك 92 ب 21 – ج 8 ص 99 ) .

( 2 ) وهذا الخبر المنير الذي يرويه البخاري في صحيحه يفضح الذين زوروا على وهب بن جرير تلك الأخبار المتناقضة بأن عمر وغيره لم يبايعوا ليزيد ، أن معاوية أقام على رءوسهم من يقطعها إذا كذبوه فيما افتراه عليهم من أنهم بايعوا لابنه . فتبين الآن أنه لم يفتر عليهم ، وهذا ابن عمر يعلن في أحرج المواقف – أى في ثورة أهل المدينة على يزيد بتحريض ابن الزبير وداعيته ابن مطيع – أن في عنقه كما في أعناقهم بيعة شرعية لإمامهم على بيع الله ورسوله وان من أعظم الغدر أن تبايع الأمة إمامها ثم تنضب له القتال . ولم يكتف ابن عمر بذلك في تلك الثورة على يزيد بل روى مسلم في كتاب افمارة من صحيحه ( ك 33 ح 58 – ج 6 ص 22 ) أن ابن عمر جاء إلى ابن مطيع داعية ابن الزبير ومثير هذه الثورة فقال ابن مطيع : اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة . فقال ابن عمر : إنى لم آتك لأجلس ، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله : (( من خلع يداً من طاعة ، لقى الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية )) . وكان لمحمد بن على بن أبي طالب ( المعروف بابن الحنفية ) مثل هذا اللموقف من داعية الثورة ابن مطيع سيراه القارئ في ص 227 – 228 عند الكلام على سيرة يزيد .
( 3 ) أنظر لوقعة الحرة ص 292 – 294 من المنتقى من منهاج الاعتدال ) .
فهذه الأخبار الصحاح كلها تعطيك أن ابن عمر كان مسلماً في أمر يزيد ، وأنه بايع وعقد له والتزم ما لتزم الناس ، ودخل فيها دخل فيه المسلمون ، وحرم على نفسه ومن إليه بعد ذلك أن يخرج على هذا او ينقضه .
وظهر لك أن من قال : إن معاوية كذب في قوله (( بايع ابن عمر )) ولم يبايع ، وأن ابن عمر وأصحابه سئلوا فقالوا (( لم نبايع )) فقد كذب . وقد صدق البخاري في روايته قول معاوية في المنبر (( إن ابن عمر قد بايع )) بإقرار بن عمر بذلك ( 1 ) وتسليمه له وتماديه عليه .

فأي الفريقين أحق بالصدق إن كنتم تعلمون ؟ الفريق الذي فيه البخاري ، أم الذي فيه غيره ؟
فخذوا لأنفسكم بالأحزم ، والأصح ، أو اسكتوا عن الكل والله يتولى توفيقكم وحفظكم .
و (( الصاحب )) الذي كنى عنه حميد بن عبد الرحمن هو ابن عمر والله اعلم . وإن كان غيره فقد أجمع رجلان عظيمان على هذه المقالة ، وهي تعضد ما اصلناه لكم من ان ولاية المفضول نافذة وإن كان هنالك من هو أفضل منه إذ عقدت له . ولما في حلها – أو طلب الفضل – من استباحة ما لا يباح ، وتشتيت الكلمة ، وتفريق أمر الأمة .
فإن قيل . كان يزيد خماراً . قلنا : لا يحل إلا بشاهدين ، فمن شهد بذلك عليه ( 2 ) بل شهد العدل بعدالته . فروى يحيى بن بكير عن الليث بن سعد ، قال الليث : (( توفي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا )) فسماه الليث (( أمير المؤمنين )) بعد ذهاب ملكهم وانقراض دولتهم ، ولولا كونه عنده كذلك ما قال إلا (( توفي يزيد )) .
---------------------------------
( 1 ) في ثورة المدينة على يزيد ، وفي المناسبات الأخرى . أنظر ص 224 .
( 2 ) إن معاوية – مع شديد حبه ليزيد ، لألمعيته واكتمال مواهبه – آثر أن ينشا ابنه بعيداً عنه في احضان الفطرة ، وخشونة البداوة وشهامتها ، ليستكمل الصفات اللائقة بالمهمة التى تنتظر أمثاله ، فبعث به إلى أخبية البادية عند أخواله من قضاعة ، ليكون على مذهب أمة ميسون بنت بحدل يوم قالت .
لبيت تخفق الأرواح فيه أحب إلى من قصر منيف

وفي ذلك الوسط أمضى يزيد زمن صباه وصدر شبابه ، وما لبث أن أنتقل ابوه إلى رحمة الله حتى تولى المركز الذى اراده الله له . فلما خلا الجو لبن الزبير – بموت معاوية – صار دعاته بذيعون في الحجاز الأكاذيب على يزيد ، وينسبون إليه مالا يحل لهم ، نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ( 8 : 233 ) أن عبد الله بن مطيع ( داعية ابن الزبير ) مشى في المدينة هو واصحابه إلى محمد بن على بن أبي طالب ( المعروف بابن الحنفية ) فأراده على خلع يزيد ، فأبي عليهم ، فقال لهم : ما رأيت : إن يزيد يشرب الخمر ، ويترك الصلاة ، ,يتعدى حكم الكتاب . فقال لهم : ما رأيت منه ما تذكرون ، وقد حضرته ،واقمت عنده ، فرايته مواظباً على الصلاة ، متحرياً للخير ، يسأل عن الفقه ، ملازماً للسنة . قالوا : فإن ذلك كان منه تصنعاً لك . فقال : وما الذي خاف منى أو رجا حتى يظهر إلى الخشوع ؟ فاطلعكم على ما تذكرون م شرب الخمر ؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه . وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا . قالوا : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } ( الزخرف : 86 ) ولست من أمركم في شئ . قالوا : فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك ، فنحن نوليك أمرنا . قال : ما أستحل القتال على ما تريدونني عليه تابعاً ولا متبوعاً . قالوا : فقد قاتلت مع أبيك . قال : جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه . فقالوا : فمر ابنيك ابا القاسم والقاسم بالقتال معنا . قال : لو أمرتها قاتلت . قالوا : فقم معنا يحض الناس فيه على القتال . قال : سبحان الله ، آمر الناس بمالا أفعله ولا أرضاه ؟ إذن ما نصحت لله في عباده . قالوا : إذن نكرهك . قالوا . إذن آمر الناس بتقوى الله ، وألا يرضوا المخلوق بسخط الخالق ( وخروج إلى مكة ) .
فإن قيل : ولو لم يكن ليزيد إلا قتله للحسين بن علي . قلنا : يا أسفا علي المصائب مرة ، ويا أسفا علي مصيبة الحسين ألف مرة .

وإن بوله يجري علي صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ودمه يراق علي البوغاء ولا يحقن ( 1 ) يا لله ويا للمسلمين .
وإن أمثل ما روي فيه أن يزيد كتب إلي الوليد بن عتبة ينعي له معاوية ويأمره أن يأخذ له البيعة علي أهل المدينة – وقد كانت تقدمت – فدعا مروان فأخبره فقال له : أرسل إلي الحسين بن علي وأبن الزبير ، فإن بايعوا وإلا فاضرب أعناقهم . قال : سبحان الله ، نقتل الحسين بن علي وأبن الزبير ؟ قال : هو ما أقوله لك . فأرسل إليهما ، فأتاه أبن الزبير ، فنعي إليه معاوية وسأله البيعة ، فقال : ومثلي يبايع هنا ؟ ارق المنبر ، وأنا ( أبايع ) مع الناس علانية . فوثب مروان وقال : اضرب عنقك ، فإنه صاحب فتنة وشر . فقال [ ابن الزبير ] . فإنك لهنالك يا بن الزرقاء ؟ ( واستبا ) . فقال الوليد : أخرجا عنى ، وأرسل إلى الحسين ولم يكلمه بكلمة في شئ ، وخرجا من عنده . وجعل الوليد عليهما الرصد . فلما دنا الصبح خرجا مسرعين إلى مكة فالتقيا بها فقال له ابن الزبير : ما يمنعك من شيعتك وشيعة أبيك ؟ فو الله لو أن لى مثلهم لذهبت إليهم . فهذا ما صح .
وذكر المؤرخون أن كتب أهل الكوفة وردت على الحسين ( 2 ) ، وأنه أرسل مسلم بن عقيل
------------------------------
( 1 ) البوغاء : التراب الناعم .

( 2 ) أول من كتب إليه من شيوخ شيعته – على ما رواه مؤرخهم لوط بن يحيى : سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر : وأرسلوا كتابهم مع عبد الله بن سبيع الهمداني وعبد الله بن وال ، فبلغا حسيناً بمكة في عاشر رمضان سنة 60 ، وبعد يومين سرحوا إليه قيس بن مسهر الصيداوى وعبد الرحمن بن عبد الله ابن الكدن الأرحبي وعمارة السلولى بثلاث وخمسين صحيفة ، وبعد يومين آخرين سرحوا إليه هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفى ( وفي الطبرى 6 : 197 نصوص بعض رسائلهم وأسماء بعض أصحابها ) وهي تدور على انهم لا يجتمعون مع اميرهم النعمان أبن بشير في جمعة ، ويدعون الحسين إليهم حتى إذا أقبل طردوا أميرهم وألحقوه بالشام ويقولون في بعضها : (( أينعت الثمار ، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند )) . فأرسل الحسين إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب ليرى إن كانوا مستوثقين مجتمعين ليقدم هو عليهم بعد ذلك . وضل مسلم بن عقيل في الطريق ومات من معه من العطش ، فكتب إلى الحسين يستعفيه من هذه المهمة ، فأجابه : خشيت ألا يكون حملك على الاستعفاء إلا الجبن . فمضى مسلم حتى بلغ الكوفة ، وأعطاء البيعة للحسين اثنا عشر ألفاً منهم ، وشعر أمير الكوفة النعمان بن بشير بحركاتهم فخطب فيهم ينهاهم عن الفتنة والفرقة ، وقال لهم : إنى لا أقاتل إلا من قاتلنى ، ولا آخذ بالظنة والتهمة ، فإن أبديتم لى صفحتكم ونكثتم بيعتكم لأضربنكم بسيفى ما ثبت قائمة في يدى . وعلم يزيد أن النعمان بن بشير حليم ناسك لا يصلح في مقاومة مثل هذه الحركة ، فكتب إلى عبيد الله بن زياد عاملة على البصرة أنه قد ضم إليه الكوفة أيضاً ، وأمره أن يأتى الكوفة وان يطلب ابن عقيل كطلب الحرزة حتى يثقفه فيوثقه فيقتله أو ينفيه . فاستخلف عبيد الله أخاه على البصرة ، واقبل إلى الكوفة فاتصل برؤسائها وقبض على أزمة الحال ، فما لبث مسلم بن عقيل أن رأى مبايعة الإثنى عشر

ألفاً كالهباء ، ورأى نفسه وحيداً طريداً ، ثم قبض عليه وقتل . وكان الحسين قد جاءته قبل ذلك رسائل مسلم بن عقيل بأن اثنى عشر الفاً بايعوه على الموت ، فخرج عقب موسم الحج يريد الكوفة ، ولم يشجعه على الخروج إلا ابن الزبير لأنه عرف أن أهل الحجاز لا يتابعونه مادام الحسين معهم ، فصار الحسين أثقل خلق الله على ابن الزبير ( الطبرى 6 : 196 – 197 وأنظر 6 : 216 و 217 ) . أما المشقفو نعلى الحسين من هذا الخروج المشئوم فهم جميع احبائه وذوى قرابته والناصحين له والمتحرين سنة الإسلام في مثل هذا الموقف ، كل هؤلاء نهوة عن ميسرة ، وحذروه من عواقبه ، وفي طليعتهم أخوة محمد ابن الحنفية ( الطبرى 6 : ذ190 – 191 ) ( وابن عم ابيه حبر الأمة عبد الله بن العباس ( الطبرى 6 : 216 – 217 ) وابن عنه عبدالله بن جعفر بن ابي طالب ( 2 : 219 ) ، وقد بلغ الأمر بعبد الله بن جعفر أن حمل وإلى يزيد على مكة – وهو عمرو بن سعيد ابن العاص – على أن يكتب للحسين كتاب الأمان ويمينه فيه البر والصلة ويسأله الرجوع ، فأجابه والى مكة إلى كل ما طلب ==
ابن عمه – إليهم ليأخذ عليهم البيعة وينظر هو في أتباعه ، فهناه ابن عباس وأعلمه أنهم خذلوا اباه وأخاه ، واشار عليه ابن الزبير بالخروج فخرج ، فلم يبلغ الكوفة إلا ومسلم ابن عقيل قد قتل واسلمه من كان استدعاه ! ويكفيك بهذا عظة لمن اتعظ . فتمادى واستمر غضباً للدين وقياماً بالحق . ولكنه – - رضي الله عنه - - لم يقبل نصيحة أعلم أهل زمانه ابن عباس ، وعدل عن راى شيخ الصحابة ابن عمر ( 1 ) وطلب الابتداء في الانتهاء ، والاستقامة في الإعوجاج ، ونضارة الشبيبة في هشيم المشيخة . ليس حوله مثله ولا له من الأنصار من يرعى حقه ، ولا من يبذل نفسه دونه ، فأردنا أن نطهر الأرض من خمر يزيد ( 2 ) فأرقنا دم الحسين ، فجاءتنا مصيبة لا يحبرها سرور الدهر .

وما خرج إليه أحد إلا بتأويل ، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل ، المخبر بفساد الحال ، المحذر من الدخول في الفتن . وأقواله في ذلك كثيرة : منها قوله - صلى الله عليه وسلم - ( 3 ) (( إنه ستكون هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرق امر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان )) . فما خرج الناس إلا بهذا وأمثاله . ولو أن عظيمها وابن عظيمها وشريفها وابن شريفها الحسين وسعة بيته أو ضيعته أو إبله – ولو جاء الخلق يطلبونه ليقوم بالحق ، وفي جملتهم ابن عباس وابن عمر – لم يلتفت إليهم ، وحضره ما انذر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وما قال في أخيه (4 ) ، ورأى أنها خرجت عن أخيه ومعه جيوش الأرض وكبار الخلق يطلبونه ، فكيف ترجع إليه باوباش الكوفة ، وكبار الصحابة ينهونه وينأون عنه ؟ وما أدرى في هذا إلا التسليم لقضاء الله ، والحزن على ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقية الدهر . ولو لا معرفة أشياخ وأعيان الأمة بأنه أمر صرفه الله عن اهل البيت وحال من الفتنة لا ينبغى لأحد أن يدخلها ، ما أسلموه أبدا .
-----------------------------

== وقال له : اكتب ما تشاء وأنا أختم على الكتاب ، فكتبه وختمه الوالى ، وبعث به إلى الحسين مع أخيه يحيى بن سعيد بن العاص ، وذهب عبد الله ابن جعفر مع يحيى ، وجهدا بالحسين أن يثنياه عن السفر فأبى ( وصورة كتاب الوالى في تاريخ الطبرى 6 : 219 – 220 ) ، وليس فوق هؤلاء الناصحين أحد في عقلهم وعلمهم ومكانتهم وإخلاصهم ، بل إن عبد الله بن مطيع داعية ابن الزبير كان من ناصحيه وبعقل وإخلاص ( الطبرى 6 : 196 ) وعمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي كان على هذا الرأى ( الطبرى 6 : 215 – 216 ) والحارث بن خالد بن العاص ابن هشام والحارث بن خالد بن العاص ابن هشام لم يأله نصحاً ( 6 : 216 ) وحتى الفرزدق الشاعر قال له : قلوب الناس معك وسيوفهم مع بنى اميه ( الطبرى 6 : 218 ) فلم يفد شئ من هذه الجهود في تحويل الحسين عن هذا السفر الذى كان مشئوماً عليه وعلى الإسلام ، وعلى الأمة الإسلامية إلى هذا اليوم وإلى قيام الساعة ، وكل هذا بجانبه شيعته الذين حرضوه بجهل وغرور رغبة في الفتنة والفرقة والشر ، ثم خذلوه بجبن ونذالة وخيانة وغدر . ولم يكتف ورثتهم بما فعل أسلافهم فعكفوا على تشويه التاريخ وتحريف الحقائق ورد الأمور على أدبارها .
( 1 ) في إيثارة العافية ، وحرصه على وحدة المسلمين وتفرغهم لنشر الدعوة والفتوح .
( 2 ) أى يزعم مثيرى الفتنة الذين يشهدون بغير ما علموا .
( 3 ) من حديث عرفجة في كتاب الإمارة من صحيح مسلم : باب حكم من فرق امر المسلمين وهو مجتمع ( ك 33 ح 59 – ج 6 ص 22 ) .
( 4 ) (( ابنى هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين )) .

وهذا احمد بن حنبل – على تقشفه وعظيم منزلته في الدين وورعه – قد أدخل عن يزيد بن معاوية في ( كتاب الزهد ) أنه كان يقول في خطبته : (( إذا مرض أحدكم مرضاً فأشفى ثم تماثل ، فليظهر عمل عنده فليلزمه ولينظر إلى أسوإ في جملة الزهاد من الصحابة والتابعين الذين يقتدى بقولهم ويرعون من وعظهم ، ونعم . وما أدخله إلا في جملة الصحابة ، قبل أن يخرج إلى ذكر التابعين . فاين هذا من ذكر المؤرخين له في الخمر وانواع الفجور ، ألا تستحيون ؟ ! وغذ سلبهم الله المروءة والحياء ، ألا ترعوون انتم وتزدجرون ، وتقتدون بالأخبار والرهبان من فضلاء المة ، وترفضون الملحدة والمجان من المنتمين إلى الملة { هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين } والحمد لله رب العالمين .
وانظر إلى ابن الزبير بعد ذلك وما دخل فيه من البيعة له بمكة ، والأرض كلها عليه . وانظروا إلى ابن عباس وعقله وإقباله على نفسه . وانظروا إلى ابن عمر وسنة وتسليمه للدنيا ونبذة لها . ولو كان للقيام وجه لكان اولى بذلك ابن عباس ، فإن ولدى أخيه عبيد الله قد ذكر أنهما قتلا ظلماً ( 1 ) . ولكن راى بعقله ان دم عثمان لم يخلص إليه ، فكيف بدم ولدى عبيد الله ! وغن المر راهق ( 2 ) ، وقد خرجا عنه حفظاً للأصل ، وهو اجتماع امر الأمة وحقن دمائها وائتلاف كلمتها . ودع الأمر يتولاه أسود مجدع حسبما أمر به صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه ( 3 ) . وكل منهم عظيم القدر مجتهد ، وفيما دخل فيه مصيب ماجور ، والله فيه حكم قد انفذه ، وحكم في الآخرة قد أحكمه وفرغ منه . فاقدروا هذه الأمة مقاديرها ، وانظروا بما قابلها ابن عباس وابن عمر فقابلوها ، ولا تكونوا من السفهاء الذين يرسلون ألسنتهم واقلامهم بما لا فائدة لهم فيه ، ولا يغنى من الله من دنياهم شيئاً عنهم .

وانظروا إلى الأئمة الخيار وفقهاء الأمصار ، هل أقبلوا على هذه الخرافات وتكلموا في مثل هذه الحماقات ؟ بل علموا انها عصبيات جاهلية وحمية باطلة ، ولا تفيد إلا قطع الحبل بين الخلق ، وتشتيت الشمل واختلاف الأهواء – وقد كان ما كان ، وقال الأخباريون ما قالوا فإما سكوت ، وإما اقتداء باهل العلم وطرح لسخافات المؤرخين والأدباء والله يكمل علينا وعليكم النعماء برحمته .

----------------------------------
( 1 ) كان ذلك سنة 40 في اليمن آخر ولاية عبيد الله بن عباس عليها لعلى ، فارسل معاوية إلى الحجاز واليمن بسربن أبي أرطأة فاخذ له البيعة على اهل الحجاز ، ثم توجه بسر إلى اليمن ، فلما علم عبيد الله بمجيئه هرب إلى الكوفة وترك ابنيه في اليمن فقتلهما بسر فيما يقال .
( 2 ) أى تداخل حقه في باطله .
( 3 ) في طتاب الإمارة من صحيح مسلم من حديث أبي ذر ( ك 33 ح 36 – ج 6 ص 14 ) .
نكتة
وعجباً لاستكبار الناس ولاية بنى أمية وأول من عقد لهم الولاية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه ولى يوم الفتح عتاب بن اسيد ابن أبي العيص بن أميه مكة – حرم الله وخير بلاده – وهو فتى السن قد ابقل أو لم يبقل . واستكتب معاوية بن ابي سفيان أميناً على وحيه ، ثم ولى ابو بكر يزيد بن ابي سفيان – اخاه – الشام . وما زالوا بعد ذلك يتوقلون في سبيل المجد ، ويترقون في درج العز ، حتى أنهتهم الأيام إلى منازل الكرام .
وقد روى الناس أحاديث فيهم لا اصل لها ، منها حديث رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى امية ينزون على منبره كالقردة ، فعز عليه ، فاعطى ليلة القدر خيراً من ألف شهر بملكها بنو امية . ولو كان هذا صحيحاً ما استفتح الحال بولايتهم ، ولا مكن لهم في الأرض بافضل بقاعها وهي مكة . وهذا أصل يجب أن تشد عليه اليد .

فغن قيل : أحدث معاوية في الإسلام الحكم بالباطل ، والقضاء بما لا يحل من استلحق زياد . قلنا قد بينا في غير موضع أن استلحاق زياد إنما كان لأشياء صحيحة ، وعمل مستقيم نبينه بعد ذكر ما ادعى فيه المدعون من الانحراف عن الاستقامة ، إذ لا سبيل إلى تحصيل باطلهم ، لأن خرق الباطل لا يرقع ،ولسانه اعظم منه فكيف به لا ينقطع ؟ ! .
قالوا : كان زياد ينتسب إلى عبيد الثقفى من سمية جارية الحارث ابن كلدة ( 1 ) ، واشترى [ زياد ] عبيداً – اباه – بألف درهم فأعتقه ( 2 ) .
-----------------------------------
( 1 ) روى الحافظ ابن عساكر في ترجمه زياد من تاريخ دمشق ( 5 : 409 ) عن عوانة بن الحكم الكلبي ( أكبر شيوخ المدائني ) أن سمية أم زياد كانت لدهقان من دهاقين الفرس ، فاستكى وجع البطن وخاف أن يكون أصيب بداء الاستسقاء ، فدعا الحارث بن كلدة الثقفى طبيب العرب ، - وقد كان قدم على كسرى – فعالج الدهقان فبرأ ، فوهب له سمية ، فولدت له ابو بكرة واسمه مسروح أو نفيه فلم يقر به . ثم ولدت نافعاً فلم يقر به ، فلما نزل ابو بكرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الحارث بن كلدة لنافع : عن أخاك مسروحاً عبد وانت أبنى : فاقر به يومئذ . وزوجها الحارث غلاماً له يقال له عبيد فولدت زياداً على فراشه ، وكان ابو سفيان سار إلى الائف فنزل على رجل يقال له ابو مريم السلولى ( قال : فاتاه أبو مريم بسمية فوقع بها فولدت زياداً ) .

( 2 ) في ترجمة زياد من تاريخ ابن عساكر ( 5 : 406 – 407 ) خبر يرويه زهرة بن معبد ومحمد بن عمرو عن وفادة زياد وهو فتى أمير المؤمنين عمر من قبل ابي موسى الأشعري في يوم جلولاء قالا : فلما نظر إليه عمر رأى له هيئة حسنة وعليه ثياب بيض من كتان قال له : ما هذه الثياب ؟ فأخبره . فقال : كم أثمانها ؟ فاخبره بشئ يسير ، وصدقه . فقال له : كم عطاؤك ؟ فقال : ألفان . فقال : ما صنعت في أول عطاء خرج ؟ فقال : اشتريت به والدتى فأعتقتها ، واشتريت بالثاني ربيبى عبيداص فأعتقته . فقال عمر : وفقت . وسأله عن الفرائض والسنن والقرآن فوجده عالماً بالقرآن واحكامه وفرائضه . فرده إلى ابي موسى ، وامر أمراء البصرة أن يتبعوا رايه .
قال أبو عثمان النهدى : فكنا نغبطه . واستعمله عمر على بعض صدقات البصرة ، وقيل بل كتب لأبي موسى ( 1 ) ، فلما لم يقطع الشهادة مع الشهود على المغيرة جلدهم وعزله وقال له : ما عزلتك لخزية ، ولكنى كرهت ان أحمل على الناس فضل عقلك . ورووا ان عمر أرسله إلى اليمن في إصلاح فساد ، فرجع وخطب خطبة لم يسمع مثلها ، فقال عمرو بن العاص (( أما والله لو كان هذا الغلام قرشياً لساق الناس بعصاه )) ، فقال أبو سفيان : والله إنى لأعرف الذي وضعه في رحم أمه ، فقال له على : ومن ؟ قال : أنا : قال : مهلا يا أبا سفيان . فقال أبو سفيان ابياتاً من الشعر :
أما والله لولا خوف شخص ( 2 ) يراني يا على من الأعادي
لأظهر أمره صخر بن حرب ولم تكن المقالة عن زياد
وقد طالت مخاتلنى ثقيفاً وتركى فيهم ثمر الفؤاد

واستعمله على علي فارس ، وحمى ، وجبى ، وفتح ، واصلح وكاتبه يروم إفساده ، فوجه [ زياد ] بكتابه إلى على بشعر ، فكتب إليه علي : (( إنى وليتك ما وليتك وانت اهل لذلك عندى ، ولن يدرك ما تريد بما انت فيه إلا بالصبر واليقين . وإنما كانت من ابي سفيان فلتة زمن عمر ، لا يستحق بها نسباً ولا ميراثاً . وإن معاوية ياتى المؤمن من بين يديه ومن خلفه )) . فلما قرا زياد الكتاب قال : (( شهد لى أبو حسن ورب الكعبة )) . فذلك الذي جرا معاوية ابنته من ابنه محمد . وبلغ الخبر ابا بكرة – أخاه لأمه – فآلى يميناً ألا يكلمه ابداً ، وقال (( هذا زنى امه ، وانتفى من ابيه . والله ما رات سمية ابا سفيان قط ، وكيف يفعل بام حبيبة ( 3 ) : ايراها فيهتك حرمة رسول الله ، وإن حجبته فضحته )) . فقال زياد : جزى الله ابا بكرة خيراً ، فإنه لم يدع النصيحة في حال ، وتكلم فيه الشعراء ، ورووا عن سعيد بن المسيب انه قال أنه قال : أول قضاء كان في الإسلام بالباطل استلحق زياد .
قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : قد بينا في غير موضع هذا الخبر ، وتكلمنا عليه بما يغنى عن إعادته ، ولكن لابد في هذه الحالة من بيان المقصود منه فنقول : كل ما ذكرتم لا ننفيه ولا
---------------------------------
( 1 ) نقل ابن عساكر عن الحافظ أبي نعيم أن زياداً اكتب لبي موسى الأشعري . ثم لعبد الله بن عامر بن كريز ، ثم للمغيرة بن شعبة ، ثم لعبد الله بن عباس – كتب لهؤلاء كلهم على البصرة . وكان أمير المؤمنين على اراده ان يوليه البصرة فاشار زياد عليه ان يوليها عبد الله بن عباس ، ووعده بان يشير عليه ويعينه .
( 2 ) يعنى عمر .
( 3 ) هي ام المؤمنين أم حبيبة بنت ابي سفيان واخت معاوية .

نثبته لأنه لا يحتاج إليه . والذي ندريه حقاً ونقطع عليه ان زياداً من الصحابة بالمولد والرؤية ( 1 ) ، لا بالتفقه والمعرفة . وأما أبوه فما علمنا له أبا قبل دعوى معاوية على التحقيق
( 2 ) ، وإنما هي أقوال غائرة من المؤرخين . وأما شراؤه له فمراعاة للحضانة عنده إذ دخل عليه ، فله نسب بالحضانة إليه إن كان ذلك .
واما قولهم إن أبا عثمان [ النهدى ] غبطة بذلك فهو بعيد على أبي عثمان ، فإنه ليس في أن يبتاع أحد حاضنه أو أباه فيعتقه من المزية بحيث يغبطه أبو عثمان وأمثاله ، لأن هذه مرتبة يدركها الغنى والفقير والشريف والوضيع ، ولو بذل من المال ما يعظم قدره ، فيدرأ به قدر مروءته في إهانة الكثير العظيم ، في صلة الولى الحميم ، وإنما ساقوا هذه الحكاية ليجعلوا له ابا ، ويكون بمنزلة من أنتفى من أبيه .
وأما استعمال عمر له فصحيح ، وناهيك تزكية وشرفاً ودينناً .
وأما قولهم إن عمر عزله لأنه لم يشهد بباطل ، بل روى أنه لما شهد أصحابه الثلاثة ( 3 ) وعمر يقول للمغيرة : ذهب ربعك ، ذهب نصفك ، ذهب ثلاثة أرباعك ، فلما جاء زياد قال له : إنى أراك صبيح الوجه ، وإنى لأرجو أن لا يفضح الله على يديك رجلاً من اصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - .
واما خطبته التى ذكروا أنه عجب منها عمرو ، فما كان عنده فضل علم ولا فصاحة يفوق بها عمراً فمن فوقه أو دونه . وقد أدخل له الشيخ المفترى ( 4 ) خطباً ليست في الحد المذكور .
أما قولهم إن أبا سفيان اعترف به ، وقال شعرا فيه ، فلا يرتاب ذو تحصيل في أن أبا سفيان لو أعترف به في حياة عمر لم يخف شيئاً ، لأن الحل لك يكن يخلو من احد قسمين : إما أن يرى عمر إلا طته به ( 5 ) كما روى عنه في غيره فيمضى ذلك ، أو يرد ذلك فلا يلزم أبا سفيان شئ باقتراف الخارجة عن حد الدين ولتحصيل لا معنى له .
وأما تولية على له فتزكية .

وأما بعث معاوية إليه ليكون معه فصحيح في الجملة . واما تفصيل ما كتب معاوية ، أو كتب زيادبه إلى على ، أو جاوب به على زياداً ، فهذا كله مصنوع .
-----------------------------
( 1 ) ترجم له الحافظ ابن حجر في ( الإصابة ) والحافظ أبو عمر بن عبد البر في ( الاستيعاب ) ونقل في مولده أنه ولد عام الفتح ، وقيل عام الهجرة ، وقيل يوم بدر قال ابن حجر : وجزم ابن عساكر بانه ادرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره .
( 2 ) من الثابت أن الحارث بن كلدة أعترف بابوية لنافع اخى زياد لمه . فصار يقال له نافع بن الحارث بن كلدة . ولا يعرف التاريخ أن عبيداً الثقفى او الحارث بن كلدة أعترفا بزياد .
( 3 ) أصحابه الثلاثة في الشهادة على المغيرة أخواه لأله : نفيع ، ونافع الذي ينسب إلى الحارث بن كلدة ، والثالث شبل بن معبد .
( 4 ) لعله يريد الجاحظ ، وأعظم خطب زياد التى اوردها له في ( البيان والتبيين ) خطبته التى تسمى ( البتراء ) وهي في اوائل الجزء الثاني .
( 5 ) أى إلحاقه وإلصاقه .
وأما قول على (( إنما كانت من ابي سفيان فلته [ زمن عمر ] لا تستحق بها نسباً )) فلو صح لكان ذلك شهادة ، كما روى عن زياد ولم يكن ذلك بمبطل لما فعل معاوية ، لأنها مسالة اجتهاد بين العلماء : فرأى على شيئاً ، ورأى معاوية وغيره غيره .
وأما ( نكتة الكلام ) وهو القول في استلحاق معاوية زياداً وأخذ الناس عليه في ذلك ، فأى إخذ عليه فيه إن كان سمع ذلك من ابيه ؟ وأى عار إلى ابي سفيان في أن يلبط بنفسه ولد زنا كان في الجاهلية . فمعلوم أن سمية لم تكن لأبي سفيان ، كما لم يكن وبيدة زمعة لعتبة ، لكن كان لعتبة منازع تعين القضاء له ، ولم يكن لمعاوية منازع في زياد .

اللهم إن هاهنا نكتة أختلف العلماء فيها ، وهي أن الأخ إذا أستلحق أخا يقول هو ابن ابي ولم يكن له منازع بل كان وحده ، فقال مالك : يرث ولا يثبت النسب . وقال الشافعي – في أحد القولين – يثبت النسب ويأخذ المال ، هذا إذ كان المقر به غير معروف النسب . واحتج الشافعي بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( هو لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش وللعاهر الحجر )) فقضى بكونه للفراش وبإثبات النسب . قلنا هذا جهل عظيم ، وذلك أن قوله إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بكونه للفراش صحيح ، واما قوله بثبوت النسب فباطل ، لأن عبداً أدعى سببين : أحدهما الأخوة والثاني ولادة الفراش . فلو قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هو أخوك ، الولد للفراش . لكان إثباتاً للحكم وذكراً للعلة . بيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدل عن الإخوة ولم يتعرض لها ، واعرض عن النسب ولم يصرح به ، وإنما في الصحيح في لفظ (( هم اخوك )) وفي آخر (( هو لك )) معناه فأنت أعلم به . وقد مهدنا ذلك في مسائل
الخلاف (1) .
فالحارث بن كلدة لم يدع زياداً ولا كان إليه منسوباً ، وإنما كان ابن أمته ولد على فراشه – أى في داره – فكل من ادعاه فهو له ، إلا أن يعارضه من هو أولى به منه ، فلم يكن على معاوية في ذلك مغمز ، بل فعل فيه الحق على كذهب مالك .
فإن قيل : فلم أنكر عليه الصحابة ؟
قلنا : لأنها مسألة اجتهاد ، فمن رأى ان النسب لا يلحق بالوارث الواحد أنكر ذلك وعظمه.
فإن قيل : ولم لعنوه ، وكانوا يحتجون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( ملعون من أنتسب لغير أبيه ، أو انتمى إلى غير مواليه )) ؟
قلنا : إنما لعنه من لعنة لوجهين : أحدهما لأنه أثبت نسبه من هذا الطريق ، ومن لم ير

لعنة لغيره . وكان زياد أهلاً ان يلعن – عندهم – لما حدث بعد استلحق معاوية ( 1 ) .

فإن قيل : جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للزنا حرمة ، ورتب عليها حكماً حين قال (( احتجى منه يا سودة ( 2 ) ، وهذا يدل على أن الزنا يتعلق به من حرمة الوطء ما يتعلق بالنكاح الصحيح . هكذا قال الكوفييون . ومالك في رواية ابن القاسم يساعدهم عن المسألة ولا يساعدهم على دليلها من هذا الوجه ، وقد بيناها في كتاب النكاح . وقال الشافعي : العذر في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لسودة بالاحتجاب مع ثبوت نسبه من زمعة وصحة اخوته لها بدعوى عبد أن ذلك تعظيم لحرمة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهن لم يكن كاحد من النساء في شرفهن وفضلهن .
قلنا : لو كان أخاها بنسب ثابت صحيح كما قلتم ، ويكون قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( الولد للفراش )) تحقيقاً للنسب ، لما منع النبي - صلى الله عليه وسلم - سودة منه ، كما لم يمنع عائشة من الرجل الذي قالت : هو أخى في الرضاعة ، وإنما قال (( أنظرن من إخوانكن )) .
واما ما روى عن سعيد بن المسيب ، فأخبر عن مذهبه في أن هذا الاستلحق ليس بصحيح ، وكذلك رأى غيره من الصحابة والتابعين . وقد صارت المسألة إلى الخلاف بين الأمة وفقهاء الأمصار ، فخرجت من حد الانتقاد إلى حد الأعتقاد . وقد صرح مالك في كتاب الإسلام وهو ( الموطأ ) بنسبة فقال في دولة بنى العباس (( زياد بن ابي سفيان )) ، ولم يقل كما يقول المجادل (( زياد بن ابيه )) هذا على أنه لا يرى النسب يثبت بقول واحد . ولكن في ذلك فقه بديع لم يفطن له أحد ، وهو أنها لما كانت مسألة خلاف ، ونفذ الحكم باحد الوجهين ، لم يكن لها رجوع ، فإن حكم القاضي في مسائل الخلاف بأحد القولين يمضيها القولين يمضيها ويرفع الخلاف فيها . والله أعلم.

أما روايتهم أن عمر قال (( كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس )) فهذه زيادة ليس لها أصل ، من ناقص عقل . وأي عقل كان لزياد يزيد على الناس في أيام عمر ( 3 ) ، وكل واحد من الصحابة كان أعقل من زياد وأعلم منه ولهذا كل من كمل عقله أكثر من الآخر فهو أولي أن
--------------------------------
( 1 ) للمؤلف كتاب ( الإنصاف في مسائل الخلاف ) 20 مجلداً .
( 1 ) وأهم ذلك – عندهم تسببه في قتل حجر بن عدى ، وقد مضى الكلام عليه في ص 211 – 213 .
( 2 ) في كتاب الأقضية من ( موطا مالك ) ب 21 ص 740 عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن ابي وقاص أن ابن وليدة زمعة منة ( * ) ، فاقبضه إليك . قالت فلما كان عام الفتح أخذه سعد وقال : ابن اخى ، وقد كان عهد إلى فيه . فقام إليه عبد زمعة فقال : أخى ، وابن وليدة أبي ، ولد على فراشه . فتساوقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال سعد : يا رسول الله ابن أخى ، قد كان عهد إلى فيه . وقال عبد بن زمعة : أخى ، وابن وليدة أبي ، ولد على فراشه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( هو لك يا عبد بن زمعة )) (( احتجى منه )) لما رأى من شبهة بعتبة بن أبي وقاص . قالت : فما رآها حتى لقى الله عز وجل . وأخرجه البخاري ( ك 34 ب 3 ) ومسلم ( ك 17 ب 10 ح 36 ) .
-------------------------
( * ) وليدة زمعة : جاريته .
( 3 ) لأنه كان لما دخل على عمر في السابعة عشرة من عمره على ما نقله البخاري في تاريخه الأوسط عن يونس بن حبيب عن آل زياد .

يختلط مع الناس . ويقولون : كان داهية ، وهي كلمة واهية . الدهاء والأرب هو المعروف بالمعاني ، والاستدلال علي العواقب بالمبادي وكل أحد الصحابة والتابعين فوق زياد وتلك الروايات التي يروي المؤرخون – من كذبهم – في حيل الحرب والفتك بالناس ، كل أحد اليوم يقدر علي مثلها وأكثر منها ، والحيلة إنما تكون بديعة وتثني وتروي إذا وافقت الدين ، وأما كل حكاية تخالف الدين فليس في رويتها خير ولا عقل . وكل الناس كما قدمنا – وخذ من ولاية بني أمية خاصة – أعقل من زياد وأفصح منه . فلا تلتفوا إلي ما روي من الأباطيل
نكتة
... الولايات والعزلات لها معان وحقائق لا يعلمها كثير من الناس . لقد علمت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مات علي زهاء اثني عشر ألفا من الصحابة معلومين . منهم ألفان أو نحوهما مشاهير في الجلالة ، ولي منهم أبو بكر سعدا وأبا عبيدة ويزيد وخالد بن الوليد وعكرمه ابن أبي جهل ونفرا غيرهم فوقهم ، وولي أنس بن مالك ابن عشرين سنه علي البحرين اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في عتاب ( 1 ) . ومتي كان استوفي المشيخة حتى يأخذ الشبان . وولي عمر أيضا كذلك ، وبادر بعزل خالد . وذلك كله لفقه عظيم ومعارف بديعة بيانها في موضعها من كتب الإمامة والسياسة من الأصول ، فخذوا في غير هذا ، فليس هذا الباب ، مما تلوكه أشداق أهل الآداب .
واما ما روى عن معاوية أنه استدعى شهوداً فشهد السلولى وسواه ( 2 ) فسل من ألحق ما روى عن السلولى ، فإنه لم يكن قط . واسعد بإسقاط ما روى في الصقة سعيد أو سعد . وأما كلام أبي بكرة – أخيه لأمه – فيه فغير ضائر له ، لأن ذلك رأى أبي بكرة واجتهاده . وأما قولهم فيها عن ابي بكرة أنه زنى أمه ، فلو كان ذلك صحيحاً لم يضر أمه ما جرى في الجاهلية في الدين ، فإن الله عفا عن أهل الجاهلية كلها بالإسلام . واسقط الإثم والعار منه ، فلا يذكره إلا جاهل به .

قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : والناس إذا لم يجدوا عيباً لأحد وغلبهم الحسد عليه له أحدثوا له عيوباً . فاقبلوا الوصية ، ولا تلتفتوا إلا إلى ما صح من الأخبار ، واجتنبوا – كما ذكرت لكم – أهل التواريخ ، فإنهم ذكروا عن السلف أخباراً صحيحة يسيرة ليتوسلوا بذلك إلى
---------------------------------
( 1 ) عتاب بن اسيد بن ابي العيص بن أميه ( أنظر ص 234 ) .
( 2 ) السلولى مالك بن ربيعة أبو مريم ، وكان ذلك سنة 44 ، كان معه في الشهادة زياد بن اسماء الحرمازى والمنذر بن الزبير – فيما ذكر المدائني بأسانيده – وجويرية بنت أبي سفيان والمسور بن قدامة الباهلي وابن أبي نصر الثقفي وزيد بن نفيل الأزدى وشعبة بن العلقم المازنى ورجل من بنى عمرو بن شيبان ورجل من بنى المصطلق ، وشهدوا كلهم على أبي سفيان أن زياداً ابنه إلا المنذر فشهد أنه سمع علياً يقول : أشهد أن أبا سفيان قال ذلك . فخطب معاوية فاستلحق زياداً ، وتكلم زياد فقال : إن كان ما شهد به الشهود حقاً فالحمد لله ، وإن كان باطلاً فقد جعلتهم بينى وبين الله .
رواية الأباطيل ، فيقذفوا – كما قدمنا 0 في قلوب مالا يرضاه الله تعالى ، وليحتقروا السلف ويهونوا الدين ، وهو أعز من ذلك ، وهم أكرم منا ، فرضي الله عن جميعهم .
ومن نظر إلى أفعال الصحابة تبين منها بطلان هذه الهتوك التى يختلفها أهل التواريخ فيدسونها في قلوب الضعفاء ، وهذا زياد لما أحس المنية أستخلف سمرة بن جندب من كبار الصحابة فقبل خلافته وكيف يظن به 0 على منزلته – أنه يقبل ولاية ظالم لغير رشدة ، وهو على ما هو عليه من الصحبة ، وذلك من غير إكراه ولا تقية ؟ إن هذا لهو الدليل المبين . فمع من تحبون أن تكونوا : مع سمرة بن جندب ، أو مع المسعودى والمبرد وابن قتيبة ونظرائهم ( 1 ) ؟ وهذا غاية في البيان .
قاصمة

كانت الجاهلية مبنية على العصبية ، متعاملة بينها بالحمية فلما جاء الإسلام بالحق ، واظهر الله منته على الخلق ، قال سبحانه { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً } [ آل عمران : 103 ] ، وقال لنبيه : { لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ، ولكن الله ألف بينهم } [ الأنفال : 63 ] ، فكانت بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - تجمعهم ، وتجمع شملهم ، وتصلح قلوبهم ، تمحو ضغائنهم .
واستأثر الله برسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ونفرت النفوس وتماسكت الظواهر منجرة مادام الميزان قائماً . فلما رفع الميزان – كما تقدم ذكره ( 2 ) في الحديث – أخذ الله القلوب عن الألفة ، ونشر جناحاً من التقاطع ، حتى سوى جناحين بقتل عثمان ، فطار في الآفاق ، واتصل الهرج إلى يوم المساق . وصارت الخلائق عزين ( 3 ) ، في كل واد من العصبية يهيمون : فمنهم بكرية ، وعمرية ، وعثمانية ، وعلوية وعباسية – كل تزعم أن الحق معها وفي صاحبها، والباقي ظلوم غشوم مقتر من الخير عديم . وليس ذلك بمذهب ، ولا فيه مقالة ، وإنما هي حماقات وجهالات ، او دسائس للضلالات ، حتى تضمحل الشريعة ، وتهزأ الملحدة من الملة ، ويلهو بهم الشيطان ويلعب ، وقد سار بهم في غير مسير ولا مذهب .
--------------------------------
( 1 ) حكم القاضي أبو بكر على ابن قتيبة هذا الحكم القاسى وهو يظن ان كتاب ( الإمامة والسياسة ) من تأليفه كما سيأتى . وكتاب الإمامة والسياسة ذكرت فيه أمور وقعت بعد موت ابن قتيبة ، فدل ذلك على انه مدسوس عليه من خبيث صاحب هوى ، ولو وقف المؤلف على هذه الحقيقة لوضع الجاحظ ومن دون الجاحظ في موضع ابن قتيبة .
( 2 ) في ص 190 .
( 3 ) جمع عزة : العصبة من الناس .

قالت البكرية : أبو بكر نص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، ورضيته الأمة للدنيا ، وكان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بتلك المنزلة العليا ، والمحبة الخالصة . وولى فعدل ، واختار فأجاد ، إلا أنه اوهم في عمر فإنه أمره غليظ : وفظاظته غلبت . وذكروا معايب واما عثمان فلم يخف ما عمل . وكذلك على . وأما العباس فغير مذكور .
قالت العمرية : أما أبو بكر ففاضل ضعيف . وعمر إمام عدل قوى بمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - له في حديث الرؤيا والدلو والعبقرى كما تقدم ( 1 ) . وأما عثمان فخارج عن الطريق : ما أختار والياً ، ولا وفى أحداً حقاً ، ولا كف أقاربه ، ولا اتبع سنن من كان قبله . أما على فجرى على الدماء . لقد سمعت في مجالس أن ابن جريج ( 2 ) كان يقدم عمر على أبي بكر . وسمعت الطرطوشى ( 3 ) يقول : لو قال أحد بتقديم عمر لتبعته .
وقالت العثمانية : عثمان له السوابق المتقدمة ، والفضائل والفواضل في الذات والمال ، وقتل مظلوماً .
وقالت العلوية : على ابن عمه وصهره وابو سبطى النبي - صلى الله عليه وسلم - وولد النبي - صلى الله عليه وسلم - حضانة .
وقالت العباسية : هو ابو النبي - صلى الله عليه وسلم - واولادهم بالتقديم بعده . وطولوا في ذلك من الكلام مالا معنى لذكره لدناءته ( 4 ) . ورووا احاديث لا يحل لنا ان نذكرها لعظيم الافتراء فيها ودناءة رواتها.
واكثر الملحدة على التعليق بأهل البيت ( 5 ) ، وتقدمه على على جميع الخلق ( 6 ) ، حتى إن الرافضة أنقسمت إلى عشرين فرقة أعظمهم باساً من يقول إن علياً هو الله . الغرابية يقولون إنه رسول الله لكن جبريل عدل بالرسالة عنه إلى محمد حمية منه معه …. في كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف ، فأما دفئ المناظرة فلا يؤثر فيه .
عاصمة

إنما ذكرت لكم هذا لتحترزوا من الخلق ، وخاصة من المفسرين ، والمؤرخين ، وأهل الآداب ، بأنهم أهل جهالة بحرمات الدين ، أو على بدعة مصرين ، فلا تبالوا بما رووا ، ولا
---------------------------------
( 1 ) في ص 188 .
( 2 ) عبد الملك بن عبد العزيز المكى أحد الأعلام توفى سنة 150 .
( 3 ) من شيوخ المؤلف ، وانظر ترجمة ابن العربي في أول الكتاب .
( 4 ) وكان اكثر ذلك في زمن دولتهم .
( 5 ) يتخذونهم ذريعة ، ويطعنون في كثير من افاضلهم ، ويعرضون بمثل الإمام زيد ، بل يجحدون اخوات فاطمة . ثم إنهم يخالفون صريح شريعة جد أهل البيت بدعوى العصمة والتألية الفعلى لبعض افرادهم .
( 6 ) حتى الأنبياء ، ويعظون على جريمتهم باستثناء نبينا - صلى الله عليه وسلم - .
تقبلوا رواية إلا عن أئمة الحديث ، ولا تسمعوا المؤرخ كلاماً إلا للطبرى ( 1 ) ، وغير ذلك هو الموت الأحمر ، والداء الأكبر . فإن ينشئون أحاديث فيها استحقار الصحابة والسلف ، والاستخفاف بهم ، واختراع الاسترسال في الأقوال والأفعال عنهم ، وخروج مقاصدهم عن الدين إلى الدنيا ، وعن الحق إلى الهوى . فإن قاطعتم أهل الباطل واقتصرتم على رواية العدول ، سلمتم من هذه الحبائل . ولو تطووا كشحاً على هذه الغوائل ومن أشد شئ على الناس جاهل عاقل ، أو مبتدع محتال . فأما الجاهل فهو ابن قتيبة ، فلم يبق ولم يذر للصحابة رسماً في كتاب ( الإمامة والسياسة ) عن صح عنه جميع ما فيه ( 2 ) وكالمبدر في كتاب الأدبى ( 3 ) . واين عقله من عقل تغلب الإمام المتقدم في اماليه ، فإن ساقها بطريقة ادبية سالمة من الطعن على أفاضل الأمة .

واما المتدع المحتال فالمسعودى ، فإنه ياتى منه متاخمة الإلحاد فيا روى من ذلك ، واما البدعة فلا شك فيه ( 4 ) . فإذا صنتم اسماعكم وابصاركم عن مطالعة الباطل ، ولم تسمعوا في خليفة مما ينسب إليه ما لا يليق ويذكر [ عنه ] ما لا يجوز نقله ، كنتم على منهج السلف سائرين ، وعن سبيل الباطل ناكبين .
فهذا مالك - رضي الله عنه - قد أجتمع بقضاء عبد الملك بن مروان موطإه في جملة قواعد الشريعة ( 5 ) .
------------------------------
( 1 ) ومع ذلك فالطبرى ذكر مصادر اخباره وسمى رواتها لتكون من امرهم على بينة ، وقال في آخر كقدمة كتابه : فما يكن في كتابي هذا من خبر يستنكره قارئه من اجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا ، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه غلينا ( أنظر مجلة الأزهر : صفر 1372 ص 210 – 215 ) .
( 2 ) لم يصح عنه شئ مما فيه : ولو صحت نسبة هذا الكتاب للإمام الحجة الثبت ابي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة ( 213 – 276 ) لكان كما قال عنه ابن العربي ، لأن كتاب الإمامة والسياسة مشحون بالجهل والغباوة والركة والكذب والتزوير . ولما نشر لابن قتيبة كتاب ( الميسر والقداح ) قبل اكير من ربع قرن ، وصدرته بترجمة حافلة له ، وسميت مؤلفاته ، وذكرت ( في ص 26 – 27 ) مآخذ العلماء على كتاب الإمامة والسياسة ، وبراهينهم على أنه ليس لابن قتيبة ، وازيد الآن على ما ذكرته في ( الميسر والقداح ) أن مؤلف الإمامة والسياسة يروى كثيراً عن أثنين من كبار علماء مصر ، وابن قتيبة لم يدخل مصر ولا أخذ عن هذين العالمين ، فدل ذلك كله على ان الكتاب مدسوس عليه .

( 3 ) المبرد ينزع إلى شئ من راى الخوارج ، وله فيهم هوى . وإن إمامته في اللغة والأدب لا تغطى على ضعفه في علم الرواية والإسناد . وإذا كان أبو حامد الغزالى على جلالته في العلوم الشرعية والعقلية لم يتجاوز له العلماء عن ضعفه في علوم الإسناد فأحرى ألا يتجاوز عن مثل ذلك للمبرد . وعلى كل حال فكل خبر مما مضى او سيأتى – في أمتنا أو في اى أمة غيرها – يحتمل الصدق والكذب حتى يثبت صدقه أو كذبه على محك الاختبار وبالبحث العلمى .
( 4 ) على بن الحسين المسعودى يعده الشيعة من شيوخهم وكبارهم ، ويذكر له المامقاني في تنقيح المقال ( 2 : 282 – 283 ) مؤلفات في الوصاية وعصمة الإمام وغير ذلم مما يكشف عن عصبية والتزامه غير سبيل أهل السنة المحمدية . ومن طبيعة التشيع والتحزب والتعصب البعد بصاحبه عن الاعتدال والإنصاف .
( 5 ) من ذلك ما جاء في ( باب المستكرهة من النساء ) بكتاب الأقضية من الموطا ( ص 734 ) : حدثني مالك عن ابن شهاب أن عبد الملك بن مروان قضى في أمرأة اصيبت مستكرهة بصداقها على من فعل ذلك بها . وفي كتاب المكاتب من الموطا ( ص 788 ) قضاء آخر لعبد الملك ، وفي كتاب العقول من الموطأ ( ص 872 ) قضاء له ايضاً . أما أبوه مروان بن الحكم فأقضيته وفتاواه كثيرة في الموطأ وغيره من كتب السنة المتداولة في ايدى أئمة المسلمين يعملون بها من ايام الخير إلى الآن . وأنظر لورع مروان وابنه عبد الملك حديث مالك عن ابن ابي عبلة في كتاب النكاح من الموطأ ( ص 540 ) .

... وقال في روايته : (( عن زياد بن ابي سفيان )) . فنسبه إليه وقد علم قصته ولو كان عنده ما يقول العوام حقاً لما رضى أن ينسبه ولا ذكره في كتابه اسسه للإسلام ( 1 ) ، وقد جمع ذلك في أيام بنى العباس والدولة لهم والحكم بايديهم فما غيروا عليه ولا انكروا ذلك منه لفضل علومهم ومعرفتهم بان مسألة زياد مسألة قد أختلف الناس فيها فمنهم من جوزها ومنهم من منعها ، فلم يكن لاعتراضهم إليها سبيل .
وكذلك أعجبهم – حين قرا الخليفة على مالك الموطأ – ذكر عبد الملك بن مروان فيه وإذكاره بقضائه ، لأنه إذا احتج العلماء بقضائه فسيحتج بقضائه أيضاً مثله ، وإذا طعن فيه طعن فيه بمثله ( 2 ) .
واخرج البخاري ( 3 ) عن عبد الله بن دينار قال : شهدت ابن عمر حيث أجتمع الناس على عبد الملك بن مروان كتب : (( إنى اقر بالسمع والطاعة لعبد الملك امير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله ، ما استطعت ، وغن بنى قد اقروا بمثل ذلك )) .

وهذا المأمون كان يقول بخلق القرآن ، وكذلك الواثق ، وأظهروا بدعتهم ، وصارت مسالة معلومة إذا ابتدع القاضي أو الإمام هل تصح ولايته وتنفذ أحكامه أم هي مردودة ؟ وهي مسألة معروفة . وهذا اشد من برودات أصحاب التواريخ من ان فلاناً الخليفة شرب الخمر أو غنى او فسق أو زنى ، فإن هذا القول في القرآن بدعة أو كفر – على اختلاف العلماء فيه – قد اشتهروا به ، وهذه المعاصى لم يتظاهروا بها عن كانوا فعلوها ، فكيف يثبت ذلك عليهم بأقوال المغنين والبراد من المؤرخين [ الذين ] قصدوا بذكر ذلك عنهم تسهيل المعاصى على الناس وليقولوا إذ كان خلفاؤنا يفعلون هذا فما يستبعد ذلك منا . وساعدهم الرؤساء على إشاعة هذه الكتب وقراءتها لرغبتهم في مثل أفعالهم حتى صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً ، وحتى سمحوا للجاحظ ان تقرا كتبه في المساجد وفيها من الباطل والكذب والمناكير ونسبة الأنبياء إلى أنهم ولدوا لغير رشدة كما قال في إسحاق - صلى الله عليه وسلم - في كتاب الضلال والتضلال ، وكما مكنوا من قراءة كتب الفلاسفة في إنكار الصانع وغبطال الشرائع لما لوزراتهم وخواصهم في ذلك من الأغراض الفاسدة
--------------------------------------
( 1 ) وعامر بن شراحيلى الشعبي كان من ائمة المسلمين كذلك ، بل إن مالكاً كان يراه إماماً له . وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة زياد من تاريخ دمشق ( 5 : 406 ) أن الشعبي قال : أتت زياداً قضية في رجل مات وترك عمه وخاله فقال : (( لأقضين بينكم بقضاء سمعته من عمر بن الخطاب )) وذلك أنه جعل العمة بمنزلة الأخ والخالة بمنزلة الأخت .

( 2 ) وممن روى عن عبد الملك بن مروان البخارى في كتابه ( الأدب المفرد ) وروى عن عبد الملك الإمام الزهرى ، وعروة بن الزبير ، وخالد بن معدان من فقهاء التابعين وعبادهم ، ورداء بن حيوة أحد الأعلام . قال نافع مولى ابن عمر : لقد رايت المدينة وما فيها شاب اشد تشميراً ولا أفقه ولا أقرا لكتاب الله من عبد الملك بن مروان وروى الأعمش عن أبي الزناد ان فقهاء المدينة كانوا اربعة : سعيد بن المسيب وعروة ابن الزبير وقبيصة بن زؤيب وعبد الملك بن مروان قبل أن يدخل الإمارة . وقال الشعبي : ما جالست احداً إلا وجدت لى الفصل عليه ، وإلا عبد الملك بن مروان فغنى ما ذاكرته حديثاً إلا زادني منه، ولا شعراً إلا وادنى فيه ( البداية والنهاية 9 : 62 – 63 ) .
الباطلة ، فإن زل فقيه او اساء العبارة عالم .
يكن ما أساء النار في رأس كبكباً ( 1 ) .
وبالوقوف على هذه الفضول تحسن نياتكم ، وتسلم عن التغير قلوبكم على من سبق .
وقد بينت لكم أنكم لا تقبلون على انفسكم في دينار ، بل في درهم ، إلا عدلاً بريئاً من التهم ، سليماً من الشهوة . فكيف تقبلون في أحوال السلف وما جرى بين الأوائل ممن ليس له مرتبة في الدين ، فكيف في العدالة ! .
ورحم الله عمر بن عبد العزيز حيث قال وقد تكلموا في الذي جرى بين الصحابة : { تلك أمة قد خلت ، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ، ولا تسئلون عما كانوا يعلمون } ، [ البقرة : 134 ] .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ،،،
---------------------------
( 1 ) كبكبا : جبل خلف عرفات مشرف عليها ، كان لنبي سامة بن لؤى قبل أن يجلوا إلى عمان . والشعر للأعشى ، وتمامه :
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى مصارع مظلوم مجراً ومسحياً

وتدفن منه الصالحات ، وإن يسئ يكن ما اساء النار في رأس كبكبا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نور الدغاء

  قلت المدون سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القديرالمقتدرالملك القدوس السلام المؤمن ال...