دعائي لربي

 

قلت المدون سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القديرالمقتدرالملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني أسألك أن تَشفني شفاءا لا يغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تيسر لي أمري وأن تحلل عُقَدْ لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك يا ربي اللهم آمين .

الثلاثاء، 13 سبتمبر 2022

ج2. من كتاب الروح لابن القيم {من اول فصل البعث الي اخر فصل التلفظ بإهداء العمل}

 

ج2. من كتاب الروح

 

فصل البعث

الأمر العاشر: إن الموت معاد وبعث أول، فإن اللّه سبحانه وتعالى جعل لابن آدم معادين وبعثين يجزي فيهما الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

فالبعث الأول: مفارقة الروح للبدن ومصيرها إلى دار الجزاء الأول.

و البعث الثاني: يوم يرد اللّه الأرواح إلى أجسادها ويبعثها من قبورها إلى الجنة أو النار وهو الحشر الثاني، ولهذا ورد في الحديث الصحيح «و تؤمن بالبعث الآخر» فإن البعث الأول لا ينكره أحد، وإن أنكر كثير من الناس الجزاء فيه والنعيم والعذاب، وقد ذكر اللّه سبحانه وتعالى هاتين القيامتين وهما الصغرى والكبرى في سورة المؤمنين، وسورة الواقعة، وسورة القيامة، وسورة المطففين، وسورة الفجر، وغيرها من السور، وقد اقتضى عدله وحكمته أن جعلها داري جزاء المحسن والمسي ء، ولكن توفية الجزاء إنما يكون يوم المعاد الثاني في دار القرار، كما قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران:185].

و قد اقتضى عدله وأوجبت أسماؤه الحسنى، وكماله المقدس، تنعيم أبدان أوليائه وأرواحهم، وتعذيب أبدان أعدائه وأرواحهم، فلا بد أن يذيق بدن المطيع له وروحه من النعيم واللذة ما يليق به، ويذيق بدن الفاجر العاصي له وروحه من الألم والعقوبة ما يستحقه، وهذا موجب عدله وحكمته وكماله المقدس. ولما كانت هذه الدار دار تكليف وامتحان، لا دار جزاء لم يظهر فيها ذلك، وأما البرزخ فأول دار الجزاء، فظهر فيها من ذلك ما يليق بتلك الدار، وتقتضي الحكمة إظهاره، فإذا كان يوم القيامة الكبرى وفيّ أهل الطاعة وأهل المعصية ما يستحقونه من نعيم الأبدان والأرواح وعذابهما، فعذاب البرزخ ونعيمه أول عذاب الآخرة و نعيمها وهو مشتق منه، وواصل إلى أهل البرزخ هناك، كما دل عليه القرآن والسنّة الصحيحة الصريحة في غير موضع دلالة صريحة، كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «فيفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها»، وفي الفاجر: «فيفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها». ومعلوم قطعا أن البدن يأخذ حظه من هذا الباب كما تأخذ الروح حظها فإذا كان يوم القيامة دخل من هذا الباب لمقعده الذي هو داخله، وهذان البابان يصل منهما إلى العبد في هذه الدار أثر خفي محجوب بالشواغل والغواشي الحسية والعوارض، ولكن يحس به كثير من الناس وإن لم يعرف سببه ولا يحسن التعبير عنه، فوجود الشي ء غير الإحساس به والتعبير عنه، فإذا مات كان وصول ذلك الأثر إليه من ذينك البابين أكمل، فإذا بعث كمل وصول ذلك الأثر إليه، فحكمة الرب تعالى منتظمة لذلك أكمل النظام في الدور الثلاث.

====

المسألة الثامنة (عدم ذكر القرآن لعذاب القبر)

و هي قول السائل: ما الحكمة في كون عذاب القبر لم يذكر في القرآن مع شدة الحاجة إلى معرفته والإيمان به ليحذر ويتقي؟ فالجواب من وجهين:

مجمل، ومفصل.

أما المجمل: فهو أن اللّه سبحانه وتعالى أنزل على رسوله وحيين، وأوجب على عباده الإيمان بهما، والعمل بما فيهما، وهما الكتاب والحكمة، وقال تعالى ﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [النساء:113] وقال تعالى ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة:2] وقال تعالى ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ [الأحزاب:34].

و الكتاب: هو القرآن، والحكمة: هي السنّة باتفاق السلف، وما أخبر به الرسول عن اللّه فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله، هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام لا ينكر، إلا من ليس منهم، و قد قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إني أوتيت الكتاب ومثله معه».

و أما الجواب المفصل: فهو أن نعيم البرزخ وعذابه مذكور في القرآن في غير موضع. فمنها قوله تعالى ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأنعام:93] وهذا خطاب لهم عند الموت، وقد أخبرت الملائكة وهم الصادقون أنهم حينئذ يجزون عذاب الهون، ولو تأخر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا لما صح أن يقال لهم اليوم تجزون.

و منها: قوله تعالى ﴿فَوَقَىٰهُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِ مَا مَكَرُواْۖ وَحَاقَ بِـَٔالِ فِرۡعَوۡنَ سُوۤءُ ٱلۡعَذَابِ  ٤٥ ٱلنَّارُ يُعۡرَضُونَ عَلَيۡهَا غُدُوࣰّا وَعَشِيࣰّاۚ وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدۡخِلُوۤاْ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ  ٤٦﴾ [غافر:45–46] فذكر عذاب الدارين ذكرا صريحا لا يحتمل غيره.

(و منها) قوله تعالى ﴿فَذَرۡهُمۡ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوۡمَهُمُ ٱلَّذِی فِيهِ يُصۡعَقُونَ  ٤٥ يَوۡمَ لَا يُغۡنِی عَنۡهُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـࣰٔا وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ  ٤٦ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَابا دُونَ ذَ ٰلِكَ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ  ٤٧﴾ [الطور:45–47] وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ، وهو أظهر، لأن كثيرا منهم مات ولم يعذب في الدنيا، وقد يقال وهو أظهر: إن من مات منهم عذاب في البرزخ، ومن بقي منها عذب في الدنيا بالقتل وغيره، فهو وعيد بعذابهم في الدنيا وفي البرزخ.

(و منها) قوله تعالى ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَدۡنَىٰ دُونَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَكۡبَرِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ  ٢١﴾ [السجدة:21] وقد احتج بهذه الآية جماعة منهم عبد اللّه بن عباس على عذاب القبر وفي الاحتجاج بها شي ء، لأن هذا عذاب في الدنيا يستدعي به رجوعهم عن الكفر، ولم يكن هذا مما يخفى على حبر الأمة وترجمان القرآن، ولكن فقهه في القرآن ودقة فهمه فيه فهم منها عذاب القبر، فإنه سبحانه أخبر أن له فيهم عذابين أدنى وأكبر، فأخبر أنه يذيقهم بعض الأدنى ليرجعوا، فدل على أنه بقي لهم من الأدنى بقية يعذبون بها بعد عذاب الدنيا، ولهذا قال: من العذاب الأدنى، ولم يقل ولنذيقنهم العذاب الأدنى فتأمله. و هذا نظير قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «فيفتح له طاقة إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها»، ولم يقل: فيأتيه حرها وسمومها، فإن الذي وصل إليه بعض ذلك وبقي له أكثره، والذي ذاقه أعداء اللّه في الدنيا بعض العذاب وبقي لهم ما هو أعظم منه.

(و منها) قوله تعالى: ﴿فَلَوۡلَاۤ إِذَا بَلَغَتِ ٱلۡحُلۡقُومَ  ٨٣ وَأَنتُمۡ حِينَئِذتَنظُرُونَ  ٨٤ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنكُمۡ وَلَـٰكِن لَّا تُبۡصِرُونَ  ٨٥ فَلَوۡلَاۤ إِن كُنتُمۡ غَيۡرَ مَدِينِينَ  ٨٦ تَرۡجِعُونَهَاۤ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِينَ  ٨٧ فَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ  ٨٨ فَرَوۡحوَرَيۡحَانوَجَنَّتُ نَعِيم  ٨٩ وَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡيَمِينِ  ٩٠ فَسَلَـٰملَّكَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡيَمِينِ  ٩١ وَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُكَذِّبِينَ ٱلضَّاۤلِّينَ  ٩٢ فَنُزُلمِّنۡ حَمِيم  ٩٣﴾ [الواقعة:83–93]﴿وَتَصۡلِيَةُ جَحِيمٍ  ٩٤ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلۡيَقِينِ  ٩٥ فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِيمِ  ٩٦﴾ [الواقعة:94–96].

فذكر هاهنا أحكام الأرواح عند الموت، وذكر في أول السورة أحكامها يوم المعاد الأكبر، وقدم ذلك على هذا تقديم الغاية للعناية، إذ هي أهم وأولى بالذكر، وجعلهم عند الموت ثلاثة أقسام، كما جعلهم في الآخرة ثلاثة أقسام.

(و منها) قوله تعالى: ﴿يَـٰۤأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ  ٢٧ ٱرۡجِعِيۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةمَّرۡضِيَّة  ٢٨ فَٱدۡخُلِی فِی عِبَـٰدِی  ٢٩ وَٱدۡخُلِی جَنَّتِی  ٣٠﴾ [الفجر:27–30] وقد اختلف السلف: متى يقال لها ذلك؟ فقالت طائفة: يقال لها عند الموت، وظاهر اللفظ مع هؤلاء، فإنه خطاب للنفس التي تجردت عن البدن وخرجت منه، وقد فسر ذلك النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بقوله في حديث البراء وغيره: فيقال لها اخرجي راضية مرضيا عنك، وسيأتي تمام تقرير في هذا في المسألة التي يذكر فيها مستقر الأرواح في البرزخ إن شاء اللّه تعالى وقوله تعالى فَادْخُلِي فِي عِبادِي مطابق لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «اللهم الرفيق الأعلى» [1]. و أنت إذا تأملت أحاديث عذاب القبر ونعيمه وجدتها تفصيلا وتفسيرا لما دل عليه القرآن وباللّه التوفيق.

هامش

رواه البخاري في المرضى 19، وفضائل الصحابة 5، ومسلم في السّلام 46، وفضائل الصحابة 85، والترمذي في الدعوات 76، وابن ماجة في الجنائز 64، ومالك في الموطأ باب الجنائز 46، وأحمد في مسنده 45/6.

====

المسألة التاسعة (الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور)

و هي قول السائل: ما الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور؟

جوابها من وجهين: مجمل ومفصل:

أما المجمل: فإنهم يعذبون على جهلهم باللّه وإضاعتهم لأمره وارتكابهم لمعاصيه، فلا يعذب اللّه روحا عرفته وأحبته وامتثلت لأمره واجتنبت نهيه، ولا بدنا كانت فيه أبدا، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة وأثر غضب اللّه وسخطه على عبده، فمن أغضب اللّه وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب اللّه وسخطه عليه، فمستقبل ومستكثر، ومصدق ومكذب.

و أما الجواب المفصل: فقد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الرجلين اللذين رآهما يعذبان في قبورهما: يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك الآخر الاستبراء من البول، فهذا ترك الطهارة الواجبة، وذلك ارتكب السبب الموقع للعداوة بين الناس بلسانه وإن كان صادقا، وفي هذا تنبيه على أن الموقع بينهم العداوة والكذب والزور والبهتان أعظم عذابا، كما أن في ترك الاستبراء من البول تنبيها على أن من ترك الصلاة والتي الاستبراء من البول بعض واجباتها وشروطها فهذا مغتاب، وذلك نمام، وقد تقدم حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه في الذي ضرب سوطا امتلأ القبر عليه به نارا. لكونه على صلاة واحدة بغير طهور، ومر على مظلوم فلم ينصره.

و قد تقدم حديث سمرة في صحيح البخاري في تعذيب من يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، وتعذيب من يقرأ القرآن ثم ينام عنه بالليل ولا يعمل به بالنهار.

و تعذيب الزناة والزواني، وتعذيب آكل الربا، كما شاهدهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في البرزخ.

و تقدم حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه الذي فيه رضخ رؤوس أقوام بالصخر لتثاقل رؤوسهم عن الصلاة، والذين يسرحون بين الضريع والزقوم لتركهم زكاة أموالهم، والذين يأكلون اللحم المنتن الخبيث لزناهم، والذين تقرض شفاههم بمقاريض من حديد لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب.

و تقدم حديث أبي سعيد، وعقوبة أرباب تلك الجرائم، فمنهم من بطونهم أمثال البيوت وهم على سابلة [1] آل فرعون وهم أكلة الربا، ومنهم من تفتح أفواههم فيلقمون الجمر حتى يخرج من أسافلهم وهم أكلة أموال اليتامى، ومنهم المعلقات بثديهم وهن الزواني، ومنهم من تقطع جنوبهم ويطعمون لحومهم وهم المغتابون، ومنهم من لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم وهم الذين يغمزون أعراض الناس.

و قد أخبرنا صلى اللّه عليه وآله وسلم عن صاحب الشملة التي غلها من المغنم أنها تشتعل عليه نارا في قبره هذا وله فيها حق، فكيف بمن ظلم غيره ما لا حق له فيه؟ فعذاب القبر من معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله، فالنمام والكذاب والمغتاب وشاهد الزور وقاذف المحصن والموضع في الفتنة والداعي إلى البدعة، والقائل على اللّه ورسوله ما لا علم له به، والمجازف في كلامه، وآكل الربا، وآكل أموال اليتامى، وآكل السحت من الرشوة والبرطيل، ونحوهما، وآكل مال أخيه المسلم بغير حق أو مال المعاهد، وشارب المسكر، وآكل لقمة الشجرة الملعونة، والزاني، واللوطي، والسارق، والخائن، والغادر، والمخادع، والماكر، وآخذ الربا ومعطيه وكاتبه وشاهداه، والمحلل والمحلل له، والمحتال على إسقاط فرائض اللّه وارتكاب محارمه، ومؤذي المسلمين، ومتتبع عوراتهم، والحاكم بغير ما أنزل اللّه، والمفتي بخلاف ما شرعه اللّه، والمعين على الإثم والعدوان، وقاتل النفس التي حرم اللّه، والملحد في حرم اللّه، والمعطل لحقائق أسماء اللّه وصفاته الملحد فيها، والمقدم رأيه وذوقه وسياسته على سنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، والنائحة، والمستمع إليها، ونواحوا جهنم: وهم المغنون الغناء الذي حرمه اللّه ورسوله والمستمع إليهم، والذين يبنون المساجد على القبور [2] ويوقدون عليها القناديل و السرج، والمطففون في استيفاء ما لهم إذا أخذوه وهضم ما عليهم إذا بدلوه والجبارون، والمتكبرون، والمراؤون، والهمازون والممارون والطاعنون على السلف، والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرافين فيسألونهم ويصدقونهم [3]، وأعوان الظلمة الذين قد باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، والذي إذا خوفته باللّه وذكرته به لم يرعو ولم ينزجر، فإذا خوفته بمخلوق مثله خاف وارعوى وكف عما هو فيه، والذي يهدي بكلام اللّه ورسوله فلا يهتدي ولا يرفع به رأسا، فإذا بلغه عمن يحسن به الظن ممن يصيب ويخطئ عض عليه بالنواجذ ولم يخالفه، والذي يقرأ عليه القرآن فلا يؤثر فيه وربما استقل به، فإذا سمع [قراءة] [4] الشيطان ورقية الزنا ومادة النفاق طاب سره وتواجد وهاج من قلبه دواعي الطرب، وود أن المغني لا يسكت، والذي يحلف باللّه ويكذب، فإذا حلف بالبندق أو برئ من شيخه أو قريبه أو سراويل الفتوة أو حياة من يحبه ويعظمه من المخلوقين لم يكذب ولو هدد وعوقب، والذي يفتخر بالمعصية ويتكثر بها بين إخوانه وأضرابه وهو المجاهر، والذي لا تأمنه على مالك وحرمتك، والفاحش اللسان البذيء الذي تركه الخلق اتقاء شره وفشله، والذي يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها وينقرها ولا يذكر اللّه فيها إلا قليلا، ولا يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولا يحج مع قدرته على الحج، ولا يؤدي ما عليه من الحقوق مع قدرته عليها، ولا يتورع من لحظة ولا لفظة ولا أكلة ولا خطوة، ولا يبالي بما حصل المال من حلال أو حرام، ولا يصل رحمه، ولا يرحم المسكين ولا الأرملة ولا اليتيم ولا الحيوان البهيم، بل يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، ويرائي العاملين ويمنع الماعون ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه وبذنوبهم عن ذنبه. فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم بحسب كثرتها وقلتها وصغيرها وكبيرها.

و لما كان أكثر الناس كذلك، كان أكثر أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات، وعذاب ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والحيات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها، تاللّه لقد وعظت فما تركت لواعظ مقالا، ونادت يا عمار الدنيا لقد عمرتم دارا موشكة بكم زوالا، وخربتم دارا أنتم مسرعون إليها انتقالا، عمرتم بيوتا لغيركم منافعها وسكناها، وخربتم بيوتا ليس لكم مساكن سواها، هذه دار الاستباق ومستودع الأعمال وبذر الزرع، وهذه محل للعبر، [فإما روضة] [5] رياض من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.

هامش

السابلة: الطريق المسلوك، يقال: سبيل سابلة أي مسلوكة، والمارون عليه: سوابل، والمقصود هنا من كان على طريق آل فرعون.

أخرج أبو داود في كتاب الجنائز باب في البناء على القبر (3/ 553) برقم 3227 عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «قاتل اللّه اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

و أخرج البخاري في كتاب الجنائز باب بناء المسجد على القبر (2/ 93) عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: لما اشتكى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي اللّه عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: «أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند اللّه».

أخرج الترمذي في أبواب الطهارة باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض (1/ 242) برقم 135 عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد».

و أخرج أبو داود في كتاب الطب باب في الكاهن (4/ 225) برقم 3904 قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد: ح، وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن حماد بن سلمة، عن حكيم بن الأثرم عن أبي تميمة عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «من أتى كاهنا» قال موسى في حديث: «فصدقه بما يقول، أو أتى امرأة» قال مسدد: «امرأته حائضا أو أتى امرأة» قال مسدد؛ «امرأته في دبرها فقد برئ مما أنزل اللّه على محمد».

وردت في المطبوع: قرآن ولا شك أنها تصحيف.

زيدت على المطبوع.

=======

المسألة العاشرة (الأسباب المنجية من عذاب القبر)

جوابها أيضا من وجهين: مجمل ومفصل. أما المجمل: فهو تجنب تلك الأسباب التي تقتضي عذاب القبر ومن أنفعها أن يجلس الرجل عند ما يريد النوم للّه ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يوم، ثم يجدد له توبة نصوحا بينه وبين اللّه، فينام على تلك التوبة، ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات في ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلا للعمل مسرورا بتأخير أجله حتى يستقبل ربه، ويستدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع من هذه النومة، ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر اللّه، واستعمال السنن التي وردت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عند النوم حتى يغلبه النوم، فمن أراد اللّه به خيرا وفّقه لذلك ولا قوة إلا باللّه.

و أما الجواب المفصل: فنذكر أحاديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيما ينجي من عذاب القبر.

(فمنها) ما رواه مسلم في صحيحه عن سلمان رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات أجرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان».

(و في جامع الترمذي) من حديث فضالة بن عبيد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل اللّه فإنه ينمي له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر»، قال الترمذي:

هذا حديث حسن صحيح [1].

(و في سنن النسائي) عن [راشد] [2] بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن رجلا قال: يا رسول اللّه، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: «كفى ببارقة [3] السيوف على رأسه فتنة» [4].

و عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:

«للشهيد عند اللّه ست خصال، يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه». رواه ابن ماجه والترمذي وهذا لفظة وقال: هذا حسن صحيح [5].

(و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما) قال: ضرب [6] أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خباءة على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه: ضربت، خبائي على قبر، وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب [7].

(و روينا) في مسند عبد بن حميد عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال الرجل: بلى؟ قال: اقرأ ﴿تَبَـٰرَكَ ٱلَّذِی بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءقَدِيرٌ  ١﴾ [الملك:1] احفظها وعلمها أهلك وولدك وصبيان بيتك وجيرانك، فإنها المنجية، والمجادلة تجادل أو تخاصم يوم القيامة عند ربها لقارئها، وتطلب له إلى ربها أن ينجيه من عذاب النار إذا كانت في جوفه، وينجي اللّه بها صاحبها من عذاب القبر، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي».

(قال) أبو عمر بن عبد البر: وصح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: إن سورة ثلاثين آية شفعت في صاحبها حتى غفر له: (تبارك الذي بيده الملك).

(و في سنن ابن ماجه) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه يرفعه: «من مات مبطونا مات شهيدا، وفي فتنة القبر وغدي وريح عليه برزق من الجنة» [8]. (و في سنن النسائي) عن جامع بن شداد قال: سمعت عبد اللّه بن يشكر يقول: كنت جالسا مع سليمان بن صرد وخالد بن عرفطة، فذكروا أن رجلا مات ببطنة، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهدا جنازته، فقال أحدهما للآخر: أ لم يقل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من قتله بطنه لم يعذب في قبره؟» وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة، حدثني أحمد بن جامع ابن شداد قال أبي. فذكره وزاد فقال الآخر بلى.

(و في الترمذي) من حديث ربيعة بن سيف عن عبد اللّه بن عمرو قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه اللّه فتنة القبر» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وليس إسناده بمتصل ربيعة بن سيف، إنما يروى عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد اللّه بن عمرو، ولا يعرف لربيعة بن سيف سماع من عبد اللّه بن عمرو [9]. انتهى.

و قد روى الترمذي الحديث من حديث ربيعة بن سيف هذا عن عياض بن عقبة الفهري عن عبد اللّه بن عمرو.

و قد رواه أبو نعيم الحافظ عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا ولفظة:

«من مات ليلة الجمعة (أو يوم الجمعة) أجير من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء». تفرد به عمر بن موسى الوجيهي وهو مدني ضعيف.

(و قوله) صلى اللّه عليه وآله وسلم: «كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة».

معناه واللّه أعلم: قد امتحن نفاقه من إيمانه ببارقة السيف على رأسه فلم يفر، فلو كان منافقا لما صبر ببارقة السيف على رأسه، فدل على أن إيمانه هو الذي حمله على بذل نفسه للّه وتسليمها له وهاج من قبله حمية الغضب للّه ورسوله وإظهار هيئة وإعزاز، فهذا قد أظهر صدق ما في ضميره حيث يبرز للقتل، فاستغنى بذلك عن الامتحان في قبره.

(قال) أبو عبد اللّه القرطبي: إذا كان الشهيد لا يفتن فالصديق أجل خطرا وأعظم أجرا أن لا يفتن، لأنه مقدم ذكره في التنزيل على الشهداء، وقد صح في المرابط الذي هو دون الشهيد أنه لا يفتن، فكيف بمن هو أعلى رتبة منه ومن الشهيد.

و الأحاديث الصحيحة ترد هذا القول وتبين أن الصديق يسأل في قبره كما يسأل غيره، وهذا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه رأس الصديقين، وقد قال للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما أخبره عن سؤال الملك في قبره فقال: وأنا على مثل حالتي هذه؟ فقال: «نعم» وذكر الحديث.

و قد اختلف في الأنبياء: هل يسألون في قبورهم على قولين: وهما وجهان في مذهب أحمد وغيره، ولا يلزم من هذه الخاصية التي اختص بها الشهيد أن يشاركه الصديق في حكمها، وإن كان أعلى منه، فخواص الشهداء قد تنتفي عمن هو أفضل منهم وإن كان أعلى منهم درجة.

و أما حديث ابن ماجه: «من مات مريضا مات شهيدا ووقي فتنة القبر» فمن إفراد ابن ماجه، وفي إفراده غرائب ومنكرات، ومثل هذا الحديث مما يتوقف فيه ولا يشهد به على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فإن صح فهو مقيد بالحديث الآخر وهو الذي يقتله بطنه، فإن صح عنه أنه قال: «المبطون شهيد» فيحمل هذا المطلق على ذلك المقيد واللّه أعلم.

و قد جاء فيما ينجي من عذاب القبر حديث فيه الشفاء رواه أبو موسى المديني وبيّن علته في كتابه في الترغيب والترهيب وجعله شرحا له. رواه من حديث الفرج بن فضالة حدثنا أبو جبلة عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ونحن في صفة بالمدينة، فقام علينا فقال: «إني رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلا من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فجاء بره بوالديه فرد ملك الموت عنه، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاء ذكر اللّه فطيّر الشياطين عنه، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم، ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا كلما دنا من حوض منع وطرد فجاءه صيام رمضان فأسقاه وأرواه، ورأيت رجلا من أمتي ورأيت النبيين جلوسا حلقا حلقا، كلما دنا إلى حلقة طرد ومنع، فجاءه غسله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي، ورأيت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن يساره ظلمة ومن فوقه ظلمة وهو متحير فيه، فجاءه حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور، ورأيت رجلا من أمتي وهج يتقي النار وشررها، فجاءته صدقته فصارت سترا بينه وبين النار وظلا على رأسه، ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه، فجاءته صلته لرحمه، فقالت: يا معشر المؤمنين إنه كان وصولا لرحمه فكلوه، فكلمه المؤمنون وصافحوه وصافحهم، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الزبانية فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخله في ملائكة الرحمة، ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه وبينه وبين اللّه حجاب، فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله اللّه عز وجل، ورأيت رجلا من أمتي قد ذهبت صحيفته من قبل شماله، فجاءه خوفه من اللّه عز وجل فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه، ورأيت رجلا من أمتي خف ميزانه فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه، ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم فجاءه رجاؤه من اللّه عز وجل فاستنقذه من ذلك ومضى، ورأيت رجلا من أمتي قد هوى في النار، فجاءته دمعته التي قد بكى من خشية اللّه عز وجل فاستنقذته من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في ريح عاصف، فجاءه حسن ظنه باللّه عز وجل فسكن روعه ومضى، ورأيت رجلا من أمتي يزحف على الصراط يحبو أحيانا ويتعلق أحيانا، فجاءته صلاته فأقامته على قدميه وأنقذته، ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا اللّه ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة». قال الحافظ أبو موسى: هذا حديث حسن جدا رواه عن سعيد بن المسيب وعمر بن ذر وعلي بن زيد بن جدعان.

و نحو هذا الحديث مما قيل فيه: إن رؤيا الأنبياء وحي، فهو على ظاهرها لا كنحو ما روي عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «رأيت كأن سيفي انقطع فأولته كذا وكذا، ورأيت بقرا تنحر، ورأيت كأنا في دار عقبة بن رافع.

و قد روي في رؤياه الطويلة من حديث سمرة في الصحيح ومن حديث علي وأبي إمامة وروايات هؤلاء الثلاثة قريب بعضها من بعض مشتملة على ذكر عقوبات جماعة من المعذبين في البرزخ فأما في هذه الرواية فذكر العقوبة وأتبعها بما ينجي صاحبها من العمل، وراوي هذا الحديث عن ابن المسيب هلال أبو جبلة مدني لا يعرف بغير هذا الحديث، ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه هكذا ذكره الحاكم أبو أحمد والحاكم أبو عبد اللّه أبو جبل (بلا هاء)، وحكياه عن مسلم ورواه عنه الفرج بن فضالة، وهو وسط في الرواية ليس بالقوي ولا المتروك، ورواه عنه بشر بن الوليد الفقيه المعروف بأبي الخطيب كان حسن المذهب جميل الطريقة، وسمعت شيخ الإسلام يعظم أمر هذا الحديث وقال: أصول السنة تشهد له وهو من أحسن الأحاديث.

هامش

أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب ما جاء في فضل من مات مرابطا (4/ 142) برقم 1621.

وردت في المطبوع: رشيد، وما أثبتناه من سنن النسائي.

أي السيوف البارقة، من البروق أي اللمعان، والإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف، والمعنى أن ثباتهم عند القتال وبذل أرواحهم في سبيل اللّه أقوى دليل على صدق إيمانهم وإخلاصهم للّه.

أخرجه النسائي في كتاب الشهيد (2/ 99).

أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب في ثواب الشهيد (4/ 160) برقم 1663 باستثناء عبارة: من دمه.

وردت في المطبوع: رجل من، والتصويب من سنن الترمذي.

أخرجه الترمذي بلفظ مقارب في كتاب فضائل القرآن باب ما جاء في فضل سورة الملك (5/ 151) برقم 2890. انظر الحديث في صفحة 141.

أخرج ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ما جاء فيمن مات مريضا (1/ 515) برقم 1615 عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من مات مريضا مات شهيدا ووقي فتنة القبر وغدي وريح عليه برزقه من الجنة».

قال السندي: قال السيوطي: هذا الحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وأعلّه بإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي فإنه متروك وقال أحمد بن حنبل: إنما هو من مات مرابطا، قال الدارقطني بإسناده عن إبراهيم بن يحيى يقول: حدثت ابن جريج هذا الحديث «من مات مرابطا» فروى عني: «من مات مريضا» وما هكذا حدثته.

أخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء فيمن مات يوم الجمعة (3/ 386) برقم 1074، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى الترمذي.

=============

المسألة الحادية عشرة (سؤال القبر)

و هي أن السؤال في القبر هل هو عام في حق المسلمين والمنافقين والكفار أو يختص بالمسلم والمنافق؟ قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب (التمهيد): والآثار الدالة تدل على أن الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمن أو منافق كان منسوبا إلى أهل القبلة ودين الإسلام بظاهر الشهادة، وأما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه ودينه ونبيّه، وإنما يسأل عن هذا أهل الإسلام، فيثبت اللّه الذين آمنوا ويرتاب المبطلون.

و القرآن والسنّة تدل على خلاف هذا القول، وأن السؤال للكافر والمسلم، قال اللّه تعالى: ﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِی ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِی ٱلۡءَاخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَاۤءُ  ٢٧﴾ [إبراهيم:27] وقد ثبت في الصحيح أنها نزلت في عذاب القبر حين يسأل من ربك وما دينك ومن نبيك.

و في الصحيحين عن أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، أنه قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم»، وذكر الحديث. زاد البخاري: «و أما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول:

لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطرقة من حديد يصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين» هكذا في البخاري، وأما المنافق والكافر فتقدم في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه ابن ماجه والإمام أحمد، كنا في جنازة مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلي في قبورها، فإذا الإنسان دفن وتولى عنه أصحابه جاء ملك وفي يده مطراق فأقعده فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول له: صدقت، فيفتح له باب إلى النار، فيقول: هذا منزلك لو كفرت بربك؛ وأما الكافر والمنافق فيقول له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال: لا دريت ولا اهتديت، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول له: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذ كفرت فإن اللّه أبدلك به هذا، ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق اللّه إلا الثقلين»، فقال بعض الصحابة: يا رسول اللّه ما أحد يقوم على رأسه ملك إلا هيل عند ذلك، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِی ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِی ٱلۡءَاخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَاۤءُ  ٢٧﴾ [إبراهيم:27].

(و في حديث) البراء بن عازب الطويل: «و أما الكافر إذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل عليه الملائكة من السماء معهم مسوح». وذكر الحديث إلى أن قال: «ثم تعاد روحه في جسده في قبره»، وذكر الحديث، وفي لفظ: «فإذا كان كافر جاءه ملك الموت فجلس عند رأسه» فذكر الحديث إلى قوله:

«ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون فلان بأسوإ أسمائه، فإذا انتهى به إلى سماء الدنيا أغلقت دونه، قال: يرمى به من السماء، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج:31] قال:

فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فيجلسانه وينتهرانه فيقولان:

من ربّك؟ فيقول: هاه لا أدري، فيقولون لا دريت، فيقولان: ما هذا النبي الذي بعث فيكم؟ فيقول: سمعت الناس يقولون ذلك، لا أدري. فيقولان له: لا دريت، وذلك قوله تعالى: ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» وذكر الحديث.

و اسم الفاجر في عرف القرآن والسنّة يتناول الكافر قطعا كقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِی نَعِيم  ١٣ وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِی جَحِيم  ١٤﴾ [الانفطار:13–14] وقوله تعالى: ﴿كَلَّاۤ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلۡفُجَّارِ لَفِی سِجِّين  ٧﴾ [المطففين:7] وفي لفظ آخر في حديث البراء: «و إن الكافر إذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل إليه ملائكة شداد: غضاب معهم ثياب من نار وسرابيل من قطران فيحتوشونه، فتنزع روحه كما ينزع السّفود [1] الكثير الشعب من الصوف المبتل، فإذا أخرجت لعنه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء». وذكر الحديث إلى أن قال: «إنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولّوا مدبرين فيقال: يا هذا من ربّك؟ ومن نبيّك؟ فيقول: لا أدري فيقال: لا دريت». وذكر الحديث رواه حماد بن سلمة عن يونس بن خباب، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء.

و في حديث عيسى بن المسيّب، عن عدي بن ثابت، عن البراء، خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، وذكر الحديث إلى أن قال:

إن الكافر إذا كان في دبر من الدنيا وقبل من الآخرة وحضره الموت نزلت عليه ملائكة معهم كفن من نار وحنوط من نار». فذكر الحديث إلى أن قال: «فتردّ روحه إلى مضجعه فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما ويفحصان الأرض بأشعارهما، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيجلسانه، ثم يقولان: يا هذا من ربّك؟ فيقول: لا أدري فينادي من جانب القبر: لا دريت فيضربانه بمرزبّة من حديد لو اجتمع عليها من بين الخافقين لم تقل ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه». وذكر الحديث.

و رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي النضر هاشم بن القسام، حدثنا عيسى بن المسيب، فذكره.

(و في حديث) محمد بن سلمة، عن خصيف، عن مجاهد، عن البراء، قال: كنا في جنازة رجل من الأنصار ومعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكر الحديث إلى أن قال: وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «و إذا وضع الكافر أتاه منكر ونكير فيجلسانه فيقولان له:

من ربّك؟ فيقول: لا أدري، فيقولان له: لا دريت» الحديث وقد تقدم.

و بالجملة فعامة من روى حديث البراء بن عازب قال فيه: «و أما الكافر» بالجزم، وبعضهم قال: «و أما الفاجر»، وبعضهم قال: «و أما المنافق والمرتاب»، وهذه اللفظة من شك بعض الرواة هكذا في الحديث لا أدري أي ذلك قال.

و أما من ذكر الكافر والفاجر فلم يشك، ورواية من لم يشك- مع كثرتهم- أولى من رواية من شك- مع انفراده- على أنه لا تناقض بين الروايتين، فإن المنافق يسأل كما يسأل الكافر والمؤمن فيثبت اللّه أهل الإيمان ويضل اللّه الظالمين وهم الكفار والمنافقون.

(و قد جمع) أبو سعيد الخدري في حديثه الذي رواه أبو عامر العقدي، حدثنا عباد بن راشد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال:

شهدنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جنازة. فذكر الحديث وقال: «و إن كان كافرا أو منافقا يقول له: ما تقول في هذا الرجل: فيقول: لا أدري»، وهذا صريح في أن السؤال للكافر والمنافق، وقول أبي عمر رحمه اللّه: وأما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه ودينه، فيقال له: ليس كذلك بل هو من جملة المسئولين وأولى بالسؤال من غيره.

و قد أخبر اللّه في كتابه أنه يسأل الكافر يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَيَوۡمَ يُنَادِيهِمۡ فَيَقُولُ مَاذَاۤ أَجَبۡتُمُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ  ٦٥﴾ [القصص:65]. وقال تعالى ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسۡـَٔلَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ  ٩٢ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ  ٩٣﴾ [الحجر:92–93] وقال تعالى: ﴿فَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرۡسِلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِينَ  ٦﴾ [الأعراف:6] فإذا سئلوا يوم القيامة فكيف لا يسألون في قبورهم؟! فليس لما ذكره أبو عمر رحمه اللّه وجه.

هامش

هو عود من حديد ينظم فيه اللحم ليشوى وجمعه: سفافيد.

=====

المسألة الثانية عشرة (سؤال منكر ونكير)

و هي أن سؤال منكر ونكير هل هو مختص بهذه الأمة أو يكون لها ولغيرها. هذا موضع تكلّم فيه الناس، فقال أبو عبد اللّه الترمذي: إنما سؤال الميت في هذه الأمة خاصة لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة، فإذا أبوا كفّت الرسل واعتزلوهم، وعولجوا بالعذاب؛ فلما بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم بالرحمة إماما للخلق كما قال تعالى: ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةلِّلۡعَـٰلَمِينَ  ١٠٧﴾ [الأنبياء:107] أمسك عنهم العذاب وأعطي السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف، ثم يرسخ الإيمان في قلبه، فأمهلوا، فمن هاهنا ظهر أمر النفاق، وكانوا يسرّون الكفر ويعلنون الإيمان، فكانوا بين المسلمين في ستر، فلما ماتوا قيض اللّه لهم فتّاني القبر ليستخرجا سرّهم بالسؤال وليميز اللّه الخبيث من الطيّب فـ ﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِی ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِی ٱلۡءَاخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَاۤءُ  ٢٧﴾ [إبراهيم:27].

و خالف في ذلك آخرون منهم عبد الحق الإشبيلي والقرطبي وقالوا: السؤال لهذه الأمة ولغيرها.

و توقف في ذلك آخرون منهم أبو عمر بن عبد البر فقال: وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها»، ومنهم من يرويه «تسأل»، وعلى هذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة خصّت بذلك فهذا أمر لا يقطع عليه.

و قد احتج من خصه بهذه الأمة بقوله صلى اللّه عليه وسلم: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها»، وبقوله: «أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم» وهذا ظاهر في الاختصاص بهذه الأمة، قالوا: ويدل عليه قول الملكين له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول المؤمن: أشهد أنه عبد اللّه ورسوله، فهذا خاص بالنبي صلى اللّه عليه وسلم. وقوله في الحديث الآخر: «إنكم بي ممتحنون وعنّي تسألون».

و قال آخرون: لا يدل هذا على اختصاص السؤال بهذه الأمة دون سائر الأمم، فإن قوله إن هذه الأمة إما أن يراد به أمة الناس كما قال تعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم﴾ [الأنعام:38] وكل جنس من أجناس الحيوان يسمى أمة، وفي الحديث: «لو لا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها» [1] وفيه أيضا حديث النبي الذي قرصته نملة فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى اللّه إليه من أجل أن قرصتك نملة واحدة أحرقت أمة من الأمم تسبّح اللّه.

و إن كان المراد به أمته صلى اللّه عليه وسلم الذي بعث فيهم لم يكن فيه ما ينفي سؤال غيرهم من الأمم. بل قد يكون ذكرهم إخبارا بأنهم مسئولون في قبورهم وأن ذلك لا يختص بمن قبلهم لفضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم.

و كذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم: «أوحي إليّ أنّكم تفتنون في قبوركم».

و كذلك إخباره عن قول الملكين: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ هو إخبار لأمته بما تمتحن به في قبورها، والظاهر- واللّه أعلم- أن كل نبي مع أمته كذلك وأنهم معذّبون في قبورهم بعد السؤال لهم وإقامة الحجة عليهم كما يعذّبون في الآخرة بعد السؤال وإقامة الحجة. واللّه سبحانه وتعالى أعلم.

هامش

أخرجه الترمذي في كتاب الأحكام والفوائد باب ما جاء في قتل الكلاب (4/ 66) برقم 1486 وزاد عليه: «فاقتلوا منها كل أسود بهيم» والكلب الأسود البهيم هو الذي لا يكون فيه شي ء من البياض، وقد كره بعض أهل العلم صيد الكلب الأسود البهيم، وقيل أنه شيطان.

==========

المسألة الثالثة عشرة (سؤال من مات طفلا)

و هي أن الأطفال هل يمتحنون في قبورهم؟ اختلف الناس في ذلك على قولين: هما وجهان لأصحاب أحمد.

و حجة من قال إنهم يسألون أنه يشرع الصلاة عليهم، والدعاء لهم، وسؤال اللّه أن يقيهم عذاب القبر وفتنة القبر (كما ذكر) مالك في موطئه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنه صلى اللّه عليه وسلم صلّى على جنازة صبي فسمع من دعائه: «اللهم قه عذاب القبر» [1]. (و احتجوا) بما رواه علي بن معبد عن عائشة رضي اللّه عنها: أنه مر عليها بجنازة صبي صغير فبكت، فقيل لها: ما يبكيك يا أم المؤمنين؟ فقالت: هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر.

(و احتجوا) بما رواه هناد بن السري، حدثنا أبو معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: إنه كان ليصلّي على المنفوس وما إن عمل خطيئة قط فيقول: «اللهم أجره من عذاب القبر».

قالوا: واللّه سبحانه يكمل لهم عقولهم ليعرفوا بذلك منزلتهم، ويلهمون الجواب عما يسألون عنه.

قالوا: وقد دل على ذلك الأحاديث الكثيرة التي فيها أنهم يمتحنون في الآخرة، وحكاه الأشعري عن أهل السنّة والحديث، فإذا امتحنوا في الآخرة لم يمتنع امتحانهم في القبور.

(قال الآخرون): السؤال إنما يكون لمن عقل الرسول والمرسل فيسأل: هل آمن بالرسول وأطاعه أم لا؟ فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فأما الطفل الذي لا تمييز له بوجه ما فكيف يقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟! ولو رد إليه عقله في القبر فإنه لا يسأل عما لم يتمكن من معرفته والعلم به، ولا فائدة في هذا السؤال، وهذا بخلاف امتحانهم في الآخرة، فإن اللّه سبحانه يرسل إليهم رسولا ويأمرهم بطاعة أمره وعقولهم معهم فمن أطاعه منهم نجا، ومن عصاه أدخله النار، فذلك امتحان بأمر يأمرهم به يفعلونه ذلك الوقت لا أنه سؤال عن أمر مضى لهم في الدنيا من طاعة أو عصيان كسؤال الملكين في القبر.

و أما حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه فليس المراد بعذاب القبر فيه عقوبة الطفل على ترك طاعة أو فعل معصية، فإن اللّه لا يعذب أحدا بلا ذنب عمله، بل عذاب القبر قد يراد به الألم الذي يحصل للميت بسبب غيره، وإن لم يكن عقوبة على عمل عمله، ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه». أي يتألم بذلك ويتوجع منه لا أنه يعاقب بذنب الحي ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾ [فاطر:18] [2]. و هذا كقول النبي صلّى اللّه عليه وسلم: «السفر قطعة من العذاب». فالعذاب أعم من العقوبة، ولا ريب أن في القبر من الآلام والهموم والحسرات ما قد يسري أثره إلى الطفل فيتألم به، فيشرع للمصلي عليه أن يسأل اللّه تعالى له أن يقيه ذلك العذاب. و اللّه أعلم.

هامش

أخرج مالك في موطئه في كتاب الجنائز باب ما يقول المصلي على الجنائز (ص 112) عن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: صليت وراء أبي هريرة على صبي لم يعمل خطيئة قط فسمعته يقول: اللهم أعذه من عذاب القبر. أما أبو داود فقد ذكر في كتاب الجنائز باب الصلاة على الطفل (3/ 528) عن عائشة قالت: مات إبراهيم ابن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

و قد ذكر الخطابي في معالم السنن شارحا هذا الأمر فقال: كان بعض أهل العلم يتأول ذلك على أنه إنما ترك الصلاة عليه لأنه قد استغنى بنبوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن قربة الصلاة كما استغنى الشهداء بقربة الشهادة عن الصلاة عليهم، وقد روى عطاء مرسلا أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صلى على ابنه إبراهيم، وقد روى أبو داود في هذا الباب: حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني عن ابن المبارك عن يعقوب بن القعقاع عن عطاء، قلت: وهذا أولى الأمرين، وإن كان حديث عائشة أحسن اتصالا، وقد روي أن الشمس قد خسفت يوم وفاة إبراهيم، فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم صلاة الخسوف فاشتغل بها عن الصلاة عليه. واللّه أعلم.

أخرج أبو داود في كتاب الجنائز باب في النوح (3/ 494) برقم 3129 عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» فذكر ذلك لعائشة فقال:

و هل- تعني ابن عمر- إنما مر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على قبر فقال: «إن صاحب هذا القبر يعذب وأهله يبكون عليه ثم قرأت: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾ [فاطر:18] قال عن معاوية: على قبر يهودي.

قال الخطابي في معالم السنن: قد يحتمل أن يكون الأمر في هذا على ما ذهبت إليه عائشة، لأنها قد روت (أن ذلك إنما كان في شأن اليهودي) والخبر المفسر أولى من المجمل، ثم احتجت له بالآية، وقد يحتمل أن يكون ما رواه ابن عمر صحيحا من غير أن يكون فيه خلاف الآية، وذلك أنهم كانوا يوصون أهليهم بالبكاء والنوح عليهم، وكان ذلك مشهورا من مذاهبهم، وهو موجود في أشعارهم، كقول القائل وهو طرفة:

إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا أم معبد

وكقول لبيد:

فقوما فقولا بالذي تعلمانه ... ولا تخمشا وجها ولا تحلقا الشعر

وقولا هو المرء الذي لا صديقه ... أضاع ولا خان الأمين ولا عذر

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

ومثل هذا كثير في أشعارهم، وإذا كان كذلك فالميت إنما تلزمه العقوبة في ذلك بما تقدم من أمره إياهم بذلك وقت حياته، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها».

و قولها: وهل ابن عمر، معناه: ذهب وهله إلى ذلك، يقال: وهل الرجل ووهم بمعنى واحد، كل ذلك بفتح الهاء، فإذا قلت: وهل بكسر الهاء كان معناه فزع، وفيه وجه آخر ذهب إليه بعض أهل العلم، قال: وتأويله أنه مخصوص في بعض الأموات الذين وجب عليهم بذنوب اقترفوها، وجرى من قضاء اللّه سبحانه فيهم أن يكون من عذابهم وقت البكاء عليهم، ويكون كقولهم: مطرنا بنوء كذا، أي عند نوء كذا، كذلك قوله: «إن الميت يعذب ببكاء أهله» أي عند بكائهم عليه لاستحقاقه ذلك بذنبه، ويكون ذلك حالا لا سببا لأنا لو جعلناه سببا لكان مخالفا للقرآن، وهو قوله: ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى واللّه أعلم.

====

المسألة الرابعة عشرة (وهي قوله هل عذاب القبر دائم أو منقطع؟)

جوابها أنه نوعان: (نوع دائم) سوى ما ورد في بعض الأحاديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين، فإذا قاموا من قبورهم قالوا: ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا﴾ [يس:52] ويدل على دوامه قوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر:46] ويدل عليه أيضا ما تقدم في حديث سمرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي صلى اللّه عليه وسلم وفيه: «فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة».

و في حديث ابن عباس في قصة الجريدتين لعله يخفّف عنهما ما لم تيبسا، فجعل التخفيف مقيدا برطوبتهما فقط.

و في حديث الربيع عن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة: «ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شي ء، وقد تقدم، وفي الصحيح في قصة الذي لبس بردين وجعل يمشي يتبختر فخسف اللّه به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.

و في حديث البراء بن عازب في قصة الكافر: «ثم يفتح له باب إلى النار فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة». رواه الإمام أحمد، وفي بعض طرقه:

«ثم يخرق له خرقا إلى النار فيأتيه من غمها ودخانها إلى يوم القيامة».

(النوع الثاني) إلى مدة، ثم ينقطع، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفّت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه، ثم يخفف عنه كما يعذب في النار مدة ثم يزول عنه العذاب.

و قد ينقطع عنه العذاب بدعاء، أو صدقة، أو استغفار، أو ثواب حج، أو قراءة تصل إليه من بعض أقاربه أو غيرهم، وهذا كما يشفع الشافع في المعذب في الدنيا فيخلص من العذاب بشفاعته، لكن هذه شفاعة قد لا تكون بإذن المشفوع عنده واللّه سبحانه وتعالى لا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع إذا أراد أن يرحم المشفوع له، ولا تغتر بغير هذا فانه شرك وباطل يتعالى اللّه عنه ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة:255] ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ﴾ [الأنبياء:28] ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ [يونس:3] ﴿وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سبأ:23] ﴿قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ۖ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الزمر:44].

(و قد ذكر) ابن أبي الدنيا حدثني محمد بن موسى الصائغ، حدثنا عبد اللّه بن نافع، قال: مات رجل من أهل المدينة فرآه رجل كأنه من أهل النار فاغتم لذلك، ثم إنه بعد ساعة أو ثانية رآه كأنه من أهل الجنة، فقال: أ لم تكن قلت أنك من أهل النار، قال: قد كان ذلك، إلا أنه دفن معنا رجل من الصالحين فشفع في أربعين من جيرانه فكنت أنا منهم.

(و قال) ابن أبي الدنيا: وحدثنا أحمد بن يحيى قال: حدثني بعض أصحابنا قال: مات أخي فرأيته في النوم فقلت: ما كان حالك حين وضعت في قبرك؟ قال:

أتاني آت بشهاب من نار، فلولا أن داعيا دعا لي لرأيت أنه سيضربني به.

(و قال) عمرو بن جرير: إذا دعا العبد لأخيه الميت أتاه بها ملك إلى قبره، فقال: يا صاحب القبر الغريب هدية من أخ عليك شفيق.

(و قال) بشار بن غالب: رأيت رابعة في منامي، وكنت كثير الدعاء لها، فقالت لي: يا بشار بن غالب هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمرة بمناديل الحرير، قلت: كيف ذلك، قالت: هكذا دعاء المؤمنين الأحياء إذا دعوا للموتى استجيب لهم ذلك الدعاء على أطباق النور وخمر بمناديل الحرير، ثم أتي بها الذي دعى له من الموتى فقيل: هذه هدية فلان إليك.

(قال) ابن أبي الدنيا: وحدثني أبو عبد بن بحير قال: حدثني بعض أصحابنا قال: رأيت أخا لي في النوم بعد موته فقلت: أ يصل إليكم دعاء الأحياء قال: أي واللّه يترفرف مثل النور ثم يلبسه.

و سيأتي إن شاء اللّه تعالى تمام لهذه في جواب السؤال عن انتفاع الأموات بما تهديه إليهم الأحياء.

==========

المسألة الخامسة عشرة (مستقر الأرواح)

و هي أين مستقر الأرواح ما بين الموت إلى يوم القيامة: هل هي في السماء أم في الأرض؟ وهل هي في الجنة أم لا؟ وهل تودع في أجساد غير أجسادها التي كانت فيها فتنعم وتعذب فيها أم تكون مجردة؟

هذه مسألة عظيمة تكلم فيها الناس واختلفوا فيها، وهي إنما تتلقى من السمع فقط، واختلف في ذلك، فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند اللّه في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم، وهذا مذهب أبي هريرة وعبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهم.

و قالت طائفة: هم بفناء [1] الجنة على بابها، يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها.

و قالت طائفة: الأرواح على أفنية قبورها.

و قال مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت.

(و قال) الإمام أحمد في رواية ابنه عبد اللّه: أرواح الكفار في النار وأرواح المؤمنين في الجنة.

(و قال) أبو عبد اللّه بن منده: وقال طائفة من الصحابة والتابعين: أرواح المؤمنين عند اللّه عز وجل ولم يزيدوا على ذلك، قال: روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أن أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت بئر بحضرموت.

و قال صفوان بن عمرو: سألت عامر بن عبد اللّه أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟ فقال: إن الأرض التي يقول اللّه تعالى: ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِی ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِیَ ٱلصَّـٰلِحُونَ  ١٠٥﴾ [الأنبياء:105] قال هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث. وقالوا: هي الأرض التي يورثها اللّه المؤمنين في الدنيا وقال كعب: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت جند إبليس.

و قالت طائفة: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكفار ببئر برهوت.

و قال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض، تذهب حيث شاءت وأرواح الكفار في سجين، وفي لفظ عنه: نسمة المؤمن تذهب في الأرض حيث شاءت.

و قالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله.

و قالت طائفة أخرى منهم ابن حزم: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها.

قال: والذي نقول به في مستقر الأرواح هو ما قاله اللّه عز وجل ونبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا نتعداه، فهو البرهان الواضح وهو أن اللّه عز وجل قال: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَاۤۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ  ١٧٢﴾ [الأعراف:172] وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [الأعراف:11]، فصح أن اللّه تعالى خلق الأرواح جملة، وكذلك أخبر صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، وأخذ اللّه عهدها وشهادتها له بالربوبية وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم وقبل أن يدخلها في الأجساد، والأجساد يومئذ تراب وماء، ثم أقرها حيث شاء هو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت، ثم لا يزال يبعث منها الجملة بعد الجملة فينفخها في الأجساد المتولدة من المنى، إلى أن قال: فصح أن الأرواح أجساد حاملة لأعراضها من التعارف والتناكر وأنها عارفة مميزة فيبلوهم اللّه في الدنيا كما يشاء ثم يتوفاهم فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ليلة أسري به عند سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم وأرواح أهل الشقاوة عن يساره وذلك عند منقطع العناصر ويعجل أرواح الأنبياء والشهداء إلى الجنة.

قال: وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلنا بعينه، قال: وعلى هذا أجمع أهل العلم.

قال ابن حزم وهو قول جميع أهل الإسلام قال: وهذا هو قول اللّه تعالى:

﴿فَأَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَيۡمَنَةِ مَاۤ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَيۡمَنَةِ  ٨ وَأَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَشۡـَٔمَةِ مَاۤ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَشۡـَٔمَةِ  ٩ وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلسَّـٰبِقُونَ  ١٠ أُوْلَـٰۤئِكَ ٱلۡمُقَرَّبُونَ  ١١ فِی جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ  ١٢ ثُلَّةمِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ  ١٣ وَقَلِيلمِّنَ ٱلۡءَاخِرِينَ  ١٤﴾ [الواقعة:8–14] وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ  ٨٨ فَرَوۡحوَرَيۡحَانوَجَنَّتُ نَعِيم  ٨٩﴾ [الواقعة:88–89]، إلى آخرها، فلا تزال الأرواح هنالك حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في الأجساد، ثم برجوعها إلى البرزخ فتقوم الساعة ويعيد اللّه عز وجل الأرواح إلى أجسادها ثانية، وهي الحياة الثانية يحاسب الخلق فريق في الجنة، وفريق في السعير مخلدين أبدا. انتهى.

و قال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم، ونحن نذكر كلامه وما احتج به ونبين ما فيه.

(و قال) ابن المبارك عن ابن جريج فيما قرئ عليه عن مجاهد: ليس هي في الجنة ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها.

و ذكر معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد أنه سأل ابن شهاب عن أزواج المؤمنين فقال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض الجنة تأتي ربها في كل يوم تسلم عليه.

(و قال) أبو عمر بن عبد البر في شرح حديث ابن عمر: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه إلى يوم القيامة، قال: وقد استدل به من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور، وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك واللّه أعلم، لأن الأحاديث بذلك أحسن مجيئا وأثبت نقلا من غيرها.

قال: والمعنى عندي أنها تكون على أفنية قبورها لا على أنها تلزم ولا تفارق أفنية القبور كما قال مالك رحمه اللّه أنه بلغنا أن الأرواح تسرح حيث شاءت.

قال: وعن مجاهد أنه قال: الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك، واللّه أعلم.

و قالت فرقة: مستقرها العدم المحض، وهذا قول من يقول: إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه، فتعدم بموت البدن كما تعدم سائر الأعراض المشروطة بحياته، وهذا قول مخالف لنصوص القرآن والسنّة وإجماع الصحابة والتابعين كما سنذكر ذلك إن شاء اللّه، والمقصود أن عند هذه الفرقة المبطلة أن مستقر الأرواح بعد الموت العدم المحض.

و قالت فرقة: مستقرها بعد الموت أرواح أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الأرواح فتصير النفس السبعية إلى أبدان السباع، والكلبية إلى أبدان الكلاب، والبهيمية إلى أبدان البهائم، والدنية والسفلية إلى أبدان الحشرات، وهذا قول المتناسخة منكري المعاد، وهو قول خارج عن أقوال أهل الإسلام كلهم.

فهذا ما تلخص لي من جمع أقوال الناس في مصير أرواحهم بعد الموت ولا تظفر به مجموعا في كتاب واحد غير هذا البتة، ونحن نذكر ما أخذ هذه الأقوال وما لكل قول وما عليه، وما هو الصواب من ذلك الذي دل عليه الكتاب والسنّة على طريقتنا التي منّ اللّه بها وهو مرجو الإعانة والتوفيق.

هامش

الفناء: هو سعة أمام البيت، وقيل: ما امتد من جوانبه.

====

فصل مكان الروح

فأما من قال هي الجنة: فاحتج بقوله تعالى: ﴿فَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ  ٨٨ فَرَوۡحوَرَيۡحَانوَجَنَّتُ نَعِيم  ٨٩﴾ [الواقعة:88–89]، قال: وهذا ذكره سبحانه عقيب ذكر خروجها من البدن بالموت وقسم الأرواح إلى ثلاثة أقسام:

مقربين: وأخبر أنها في جنة النعيم.

و أصحاب يمين: حكم لها بالإسلام وهو يتضمن سلامتها من العذاب.

و مكذبة ضالة، وأخبر أن لها نزلا من حميم وتصلية جحيم، قالوا: وهذا بعد مفارقتها للبدن قطعا، وقد ذكر سبحانه حالها يوم القيامة في أول السورة فذكر حالها بعد الموت وبعد البعث واحتجوا بقوله تعالى: ﴿يَـٰۤأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ  ٢٧ ٱرۡجِعِيۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةمَّرۡضِيَّة  ٢٨ فَٱدۡخُلِی فِی عِبَـٰدِی  ٢٩ وَٱدۡخُلِی جَنَّتِی  ٣٠﴾ [الفجر:27–30] وقد قال غير واحد من الصحابة والتابعين أن هذا يقال لها عند خروجها من الدنيا يبشرها الملك بذلك، ولا ينافي ذلك قول من قال: إن هذا يقال لها في الآخرة فإنه يقال لها عند الموت وعند البعث وهذه من البشرى التي قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰۤئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِی كُنتُمۡ تُوعَدُونَ  ٣٠﴾ [فصلت:30]. وهذا التنزل يكون عند الموت ويكون في القبر ويكون عند البعث، وأول بشارة الآخرة عند الموت.

و قد تقدم في حديث البراء بن عازب أن الملك يقول لها عند قبضها:

أبشري بروح وريحان، وهذا من ريحان الجنة.

و احتجوا بما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إنما نسمة المؤمن [طير] [1] يعلق في شجرة الجنة حتى يرجعه اللّه إلى [جسده] [2] يوم يبعثه [3]. قال أبو عمرو في رواية مالك هذه بيان سماع الزهري لهذا الحديث من عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وكذا رواه يونس عن الزهري قال: سمعت عبد الرحمن بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه، وكذلك رواه الأوزاعي عن الزهري حدثني عبد الرحمن بن كعب وقد أعل محمد بن يحيى الذهلي هذا الحديث بأن شعيب بن أبي حمزة ومحمد بن أخي الزهري وصالح بن كيسان رووه عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك عن جده كعب فيكون منقطعا، وقال صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن عبد الرحمن أنه بلغه أن كعبا بن مالك كان يحدث، قال الذهلي: وهذا المحفوظ عندنا وهو الذي يشبهه حديث صالح وشعيب وابن أخي الزهري وخالفه في هذا غير من الحفّاظ فحكموا لمالك والأوزاعي، قال أبو عمر: فاتفق مالك ويونس بن يزيد والأوزاعي والحارث بن فضيل على رواية هذا الحديث عن الزهري عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه وصححه الترمذي وغيره.

(و قال) أبو عمرو: لا وجه عندي لما قاله محمد بن يحيى من ذلك ولا دليل عليه، واتفاق مالك ويونس بن زيد والأوزاعي ومحمد بن إسحاق أولى بالصواب والنفس إلى قولهم: وروايتهم أسكن وهم من الحفظ والإتقان بحيث لا يقاس بهم من خالف في هذا الحديث. انتهى.

و قد قال محمد الذهلي: سمعت علي ابن المديني يقول: ولد كعب خمسة:

عبد اللّه، وعبيد اللّه، ومعبد، وعبد الرحمن، ومحمد [4]، قال الذهلي:

فسمع الزهري من عبد اللّه بن كعب، وكان قائد أبيه حين عمي، وسمع من عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب، وروي عن بشير بن عبد الرحمن بن كعب، ولا أراه سمع منه. انتهى.

فالحديث إن كان لعبد الرحمن عن أبيه عن كعب كما قال مالك ومن معه، فظاهر، وإن كان لعبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب عن جده كما قال شعيب ومن معه فنهايته أن يكون مرسلا من هذا الطريق وموصولا من الأخرى والذين وصلوه ليسوا بدون الذين أرسلوه قدرا ولا عددا فالحديث عن صحاح الأحاديث، وإنما لم يخرجه صاحبا الصحيح لهذه العلة، واللّه أعلم.

(قال) أبو عمر: وأما قوله نسمة المؤمن، فالنسمة هاهنا الروح، يدل على ذلك قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحديث نفسه، حتى يرجعه إلى اللّه جسده يوم يبعثه، وقيل: النسمة الروح والنفس والبدن، وأصل هذه اللفظة أعني النسمة الإنسان بعينه، وإنما قيل للروح نسمة واللّه أعلم، لأن حياة الإنسان بروحه، وإذا فارقه عدم أو صار كالمعدوم. والدليل على أن النسمة الإنسان قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «و من أعتق نسمة مؤمنة» وقول علي رضي اللّه عنه: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، وقال الشاعر:

بأعظم منك تقي في الحساب ... إذا النسمات نفضن الغبارا

يعني إذا بعث الناس من قبورهم يوم القيامة، وقال الخليل بن أحمد:

النسمة الإنسان، قال: والنسمة الروح، والنسيم هبوب الريح، وقوله تعالى في شجر الجنة يروى بفتح اللام وهو الأكثر، ويروى بضم اللام والمعنى واحد وهو الأكل والرعي، يقول: تأكل من ثمار الجنة وتسرح بين أشجارها، والعلوقة والعلوق الأكل والرعي، تقول العرب: ما ذاق اليوم علوقا أي طعاما، قال الربيع بن أبي زياد يصف الخيل:

ومجنبات ما يذقن علوقة ... يمصعن بالمهرات والأمهار

وقال الأعشى:

وفلاة كأنها ظهر ترس ... ليس فيها إلا الرجيع علاق

قلت: ومنه قول عائشة: والنساء إذ ذاك خفاف لم يغشهن [5] اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام، وأصل اللفظة من التعليق وهو ما يتعلق بالقلب والنفس من الغذاء.

قال: واختلف العلماء في معنى هذا الحديث، فقال قائلون منهم: أرواح المؤمنين عند اللّه في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم.

قال: واحتجوا بأن هذا الحديث لم يخص فيه شهيدا من غير شهيد.

و احتجوا أيضا بما روي عن أبي هريرة: «أن أرواح الأبرار في عليين وأرواح الفجار في سجين»، وعن عبد اللّه بن عمرو مثل ذلك، قال أبو عمر: وهذا قول يعارضه من السنة ما لا مدفع في صحة نقله، وهو قوله: «إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه إليه يوم القيامة».

و قال آخرون: إنما معنى هذا الحديث في الشهداء دون غيرهم، لأن القرآن والسنّة إنما يدلان على ذلك. أما القرآن فقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِی سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ  ١٦٩﴾ [آل عمران:169]﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [آل عمران:170].

و أما الآثار فذكر حديث أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه من طريق بقي بن مخلد [6] مرفوعا: «الشهداء يغدون ويروحون ثم يكون مأواهم إلى قناديل معلقة بالعرش فيقول لهم الرب تبارك وتعالى: هل تعلمون كرامة أفضل من كرامة أكرمتكموها، فيقولون: لا، غير أنا وددنا أنك عدت أرواحنا في أجسادنا حتى نقاتل مرة أخرى فنقتل في سبيلك». رواه عن هناد عن إسماعيل بن المختار عن المختار عن عطية عنه.

(ثم ساق حديث) ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لما أصيب إخوانكم (يعني يوم أحد) جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب مدلاة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقبلهم قالوا: ومن يبلغ إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب ويزهدوا في الجهاد؟ قال:

فقال اللّه عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل اللّه تعالى: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِی سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ  ١٦٩﴾ [آل عمران:169] والحديث في مسند أحمد وسنن أبي داود. ثم ذكر حديث الأعمش عن عبد اللّه بن مرة عن مسروق قال: سأل عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه عن هذه الآية: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِی سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ  ١٦٩﴾ [آل عمران:169]، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في الجنة في أيها شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربك اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: وأي شي ء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا! فعل بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا». والحديث في صحيح مسلم.

قلت: وفي صحيح البخاري عن أنس أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بنت سراقة أتت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت: يا نبي اللّه ألا تحدثني عن حارثة؟ (و كان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب) فإن كان في الجنة صبرت وإن كان في غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: «يا أم جنان وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى» [7].

ثم ساق: من طريق بقي بن مخلد حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا ابن عيينة عن عبيد اللّه بن أبي يزيد [أنه] [8] سمع ابن عباس يقول: أرواح الشهداء تجول في أجواف طير خضر تعلق في ثمرة الجنة.

ثم ذكر: عن معمر عن قتادة قال: بلغنا أن أرواح الشهداء في صور طير بيض تأكل من ثمار الجنة.

(و من طريق) أبي عاصم النبيل عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد اللّه بن عمرو: أرواح الشهداء في طير كالزراير [9] يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة.

قال أبو عمر: هذه الآثار كلها تدل على أنهم الشهداء دون غيرهم، وفي بعضها في صور طير، وفي بعضها في أجواف طير، وفي بعضها كطير خضر، قال:

و الذي يشبه عندي واللّه أعلم أن يكون القول قول من قال كطير أو صور طير لمطابقته لحديثنا المذكور (يريد حديث كعب بن مالك) وقوله: فيه نسمة المؤمن كطائر، ولم يقل في جوف طائر. قال: وروى عيسى بن يونس حديث ابن مسعود عن الأعمش عن عبد اللّه بن مرة عن مسروق عن عبد اللّه كطير خضر.

قلت: والذي في صحيح مسلم في أجواف طير خضر.

قال أبو عمر: فعلى هذا التأويل كأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: إنما نسمة المؤمن من الشهداء طائر يعلق في شجر الجنة.

قلت: لا تنافي بين قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نسمة المؤمن من طائر يعلق في شجر الجنة»، وبين قوله: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعد، بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار»، وهذا الخطاب يتناول الميت على فراشه والشهيد، كما أن قوله: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة»، يتناول الشهيد وغيره، ومع كونه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي ترد روحه أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها.

و أما المقعد الخاص به والبيت الذي أعد له فإنه إنما يدخله يوم القيامة، ويدل عليه أن منازل الشهداء ودورهم وقصورهم التي أعدّ اللّه لهم ليست هي تلك القناديل التي تأوي إليها أرواحهم في البرزخ قطعا، فهم يرون منازلهم ومقاعدهم من الجنة ويكون مستقرهم في تلك القناديل المعلقة بالعرش، فإن الدخول التام الكامل إنما يكون يوم القيامة، ودخول الأرواح الجنة في البرزخ أمر دون ذلك.

و نظير هذا أهل الشقاء، تعرض أرواحهم على النار غدوا وعشيا، فإذا كان يوم القيامة دخلوا منازلهم ومقاعدهم التي كانوا يعرضون عليها في البرزخ فتنعم الأرواح بالجنة في البرزخ شي ء، وتنعمها مع الأبدان يوم القيامة بها شي ء آخر، فغذاء الروح من الجنة في البرزخ دون غذائها مع بدنها يوم البعث، ولهذا قال:

«تعلق في شجر الجنة» أي تأكل العلقة، وتمام الأكل والشرب واللبس والتمتع فإنما يكون إذا ردت إلى أجسادها يوم القيامة، فظهر أنه لا يعارض هذا القول من السنن شي ء، وإنما تعاضده السنّة وتوافقه.

و أما قول من قال: إن حديث كعب في الشهداء دون غيرهم، فتخصيص ليس في اللفظ ما يدل عليه وهو محل اللفظ العام على أقل مسمياته: فإن الشهداء بالنسبة إلى عموم المؤمنين قليل جدا، والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم علق هذا الجزاء بوصف الإيمان، فهو المقتضي له ولم يعلقه بوصف الشهادة، ألا ترى أن الحكم الذي اختص بالشهداء علق بوصف الشهادة كقوله في حديث المقدام بن معد يكرب: «للشهيد عند اللّه ست خصال، يغفر له في أول دفقة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين، وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه»، فلما كان هذا يختص بالشهيد قال: إن للشهيد ولم يقل إن للمؤمن، كذلك قوله في حديث قيس الجذامي يعطي الشهيد ست خصال، وكذلك سائر الأحاديث والنصوص التي علّق فيها الجزاء بالشهادة.

و أما ما علق فيه الجزاء بالإيمان فإنه يتناول كل مؤمن شهيدا كان أم غير شهيد.

و أما النصوص والآثار التي ذكرت في رزق الشهداء وكون أرواحهم في الجنة فكلها حق، وهي لا تدل على انتفاء دخول أرواح المؤمنين الجنة، ولا سيما الصديقين الذين هم أفضل الشهداء بلا نزاع بين الناس، فيقال لهؤلاء: ما تقولون في أرواح الصديقين هل هي في الجنة أم لا؟.

فإن قالوا أنها في الجنة- لا يسوغ لهم غير هذا القول- فثبت أن هذه النصوص لا تدل على اختصاص أرواح الشهداء بذلك، وإن قالوا: ليست في الجنة لزمهم من ذلك أن تكون أرواح سادات الصحابة كأبي بكر الصديق وأبي بن كعب وعبد اللّه بن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة بن اليمان وأشباههم رضي اللّه عنهم ليست في الجنة، وأرواح شهداء زماننا في الجنة، وهذا معلوم البطلان ضرورة.

فإن قيل: فإذا كان هذا حكما لا يختص بالشهداء فما الموجب لتخصيصهم بالذكر في هذه النصوص؟

قلت: التنبيه على فضل الشهادة وعلو درجتها، وإن هذا مضمون لأهلها ولا بد وأن لهم منه أوفر نصيب، فنصيبهم من هذا النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فراشهم، وإن كان الميت على فراشه أعلى درجة منهم فله نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه.

و يدل على هذا أن اللّه سبحانه جعل أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، فإنهم لما بذلوا أنفسهم للّه حتى أتلفها أعداؤه فيه أعاضهم منها في البرزخ أبدانا خيرا منها تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون نعيمها بواسطة تلك الأبدان أكمل من نعيم الأرواح المجردة عنها، ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير، وتأمل لفظ الحديثين فإنه قال: «نسمة المؤمن طير» فهذا يعم الشهيد وغيره ثم خص الشهيد بأن قال: «و هي في جوف طير» ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير، فصلوات اللّه وسلامه على من يصدق كلامه بعضه بعضا، ويدل على أنه حق من عند اللّه، وهذا الجمع أحسن من جمع أبو عمرو وترجيحة رواية من روى أرواحهم كطير خضر، بل الروايتان حق وصواب، فهي كطير خضر وفي أجواف طير خضر.

هامش

وردت في المطبوع: من طائر، والتصحيح من الموطأ.

وردت في المطبوع: حياة، والتصحيح من الموطأ.

أخرجه الإمام مالك في موطئه في جامع الجنائز (ص 117).

وكلهم محدثون.

أي لم يسمنوا أو يكثر لحمهم.

هو بقي بن مخلد بن يزيد أبو عبد الرحمن الأندلسي القرطبي، الحافظ المفسر، توفي سنة 286 ه- 889 م.

أخرج البخاري في كتاب المغازي باب غزوة بدر (5/ 9) قال: حدثني عبد اللّه بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق عن حميد قال: سمعت أنسا رضي اللّه عنه يقول: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول اللّه قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر واحتسب وإن تك الأخرى ترى ما أصنع؟ فقال: «ويحك أو هبلت؟» أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس».

زيادة على المطبوع لوضوح العبارة.

نوع من العصافير.

===========

فصل أرواح الشهداء

و أما قول مجاهد: ليس هي في الجنة، ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها، فقد يحتج لهذا القول بما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو عن محمود بن لبيد عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليه رزقهم بكرة وعشية».

و هذا لا ينافي كونهم في الجنة، فإن ذلك النهر من الجنة ورزقهم يخرج عليهم من الجنة، فهم أول الجنة وإن لم يصيروا إلى مقاعدهم منها، فمجاهد نفى الدخول الكامل من كل وجه، والتعبير يقصر عن الإحاطة بتمييز هذا من هذا، وأكمل العبارة أدلها على أن المراد عبارة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ثم عبارة أصحابه، وكلما نزلت رأيت الشفاء والهدى والنور، وكلما نزلت رأيت الحيرة والدعاوى والقول بلا علم.

قال أبو عبد اللّه بن منده: وروى موسى بن عبيده عن عبد اللّه بن يزيد عن أم كبشة بنت المعرور قالت: دخل علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فسألناه عن هذه الأرواح؟ فوصفها صفة أبكى أهل البيت، فقال: «إن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر ترعى في الجنة، وتأكل من ثمارها وتشرب من مائها وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، يقولون ربنا ألحق بنا إخواننا وآتنا ما وعدتنا، وإن أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوي إلى حجر في النار، يقولون ربنا لا تلحق بنا إخواننا ولا تؤمنا ما وعدتنا».

و قال الطبراني: حدثنا أبو زرعة الدمشقي، حدثنا عبد اللّه بن صالح، حدثنا معاوية بن صالح عن ضمرة بن صالح، حدثنا معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب، قال: سئل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن أرواح المؤمنين؟ فقال:

«في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت»، قالوا: يا رسول اللّه أرواح الكفار؟

قال: «محبوسة في سجين»، رواه أبو الشيخ عن هشام بن يونس عن عبد اللّه بن صالح ورواه أبو المغيرة عن أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب.

و ذكر: أبو عبد اللّه بن منده من حديث غنجار عن الثوري عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد اللّه بن عمرو قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أرواح المؤمنين في طير خضر كالزرازير تأكل من ثمر الجنة» (و رواه) غيره موقوفا.

و ذكر يزيد الرقاشي عن أنس، وأبو عبد اللّه السامي عن تميم الداري عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا عرج ملك الموت بروح المؤمن إلى السماء استقبله جبرائيل في سبعين ألفا من الملائكة، كل منهم يأتيه ببشارة من السماء سوى بشارة صاحبه، فإذا انتهى به إلى العرش خر ساجدا، فيقول اللّه عز وجل لملك الموت: انطلق بروح عبدي فضعه في سدر مخضود [1] وطلح منضود [2] وظل ممدود [3] وماء مسكوب [4]. رواه بكر بن خنيس عن ضرار بن عمرو عن يزيد وأبي عبد اللّه.

هامش

قال المفسرون: السدر شجر النبق، والمخضود الذي خضد أي قطع شوكه. وفي حديث أخرجه الحاكم والبيهقي أن أعرابيا جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه، إن اللّه تعالى ذكر في الجنة شجرة تؤذي صاحبها! فقال: «و ما هي»؟ قال: السدر، فإن له شوكا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أ ليس اللّه يقول: في سدر مخضود، خضد اللّه شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة، وإن الثمرة من ثمره تفتق عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر».

الطلح: هو شجر الموز، ومعنى منضود أي متراكم قد نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه.

أي في ظل دائم باق ومستمر لا يزول ولا تنسخه الشمس أخرج البخاري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، واقرءوا إن شئتم:

و ظل ممدود».

أي وماء جار دائم لا ينقطع، قال القرطبي: كانت العرب أصحاب بادية، والأنهار في بلادهم عزيزة، لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء، فوعدوا بالجنة بأسباب النزهة، وهي الأشجار وظلالها، والمياه والأنهار وجريانها.

=========

فصل هل الأرواح على أفنية القبور؟

و أما قول من قال: الأرواح على أفنية قبورها، فإن أراد أن هذا أمر لازم لها لا تفارق أفنية القبور أبدا فهذا خطأ ترده نصوص الكتاب والسنّة من وجود كثيرة قد ذكرنا بعضها، وسنذكر منها ما لم تذكره إن شاء اللّه.

و إن أراد أنها تكون على أفنية القبور وقتا، أولها إشراف على قبورها وهي في مقرها فهذا حق ولكن لا يقال مستقرها أفنية القبور.

و قد ذهب إلى هذا المذهب جماعة منهم أبو عمر بن عبد البر، قال في كتابه في شرح حديث ابن عمر: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، وقد استدل به من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك من طريق الأثر، ألا ترى أن الأحاديث الدالة على ذلك ثابتة متواترة وكذلك أحاديث السلام على القبور.

قلت: يريد الأحاديث المتواترة مثل: حديث ابن عمر هذا، ومثل: حديث البراء بن عازب الذي تقدم وفيه: «هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه يوم القيامة»، ومثل حديث أنس أن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أنه ليسمع قرع نعالهم، وفيه أنه يرى مقعده من الجنة والنار، وأنه يفسح للمؤمن في قبره سبعين ذراعا ويضيق على الكافر، ومثل حديث جابر: إن هذه الأمة تبلى في قبورها، فإذا دخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه أتاه ملك (الحديث) وأنه يرى مقعده من الجنة فيقول: دعوني أبشر أهلي، فيقال له: أسكن فهذا مقعدك أبدا، ومثل سائر أحاديث عذاب القبر ونعيمه التي تقدمت، ومثل أحاديث السلام على أهل القبور وخطابهم ومعرفتهم بزيارة الأحياء لهم، وقد تقدم ذكر ذلك كله.

و هذا القول تردده السنّة الصحيحة والآثار التي لا مدفع لها، وقد تقدم ذكره، وكل ما ذكر من الأدلة فهو يتناول الأرواح التي هي في الجنة بالنص وفي الرفيق الأعلى.

و قد بينا أن عرض مقعد الميت عليه من الجنة والنار لا يدل على أن الروح في القبر ولا على فنائه دائما من جميع الوجوه، بل لها إشراف واتصال بالقبر وفنائه، وذلك القدر منها يعرض عليه مقعده، فإن للروح شأنا آخر يكون في الرفيق الأعلى في أعلى عليين، ولها اتصال بالبدن، بحيث إذا سلم المسلم على الميت رد اللّه عليه روحه، فيرد عليه السلام، وهي في الملأ الأعلى، وإنما يغلط أكثر الناس في هذا الموضع حيث يعتقد أن الروح من جنس ما يعد من الأجسام التي إذا شغلت مكانا لم يمكن أن تكون في غيره.

و هذا غلط محض، بل الروح تكون فوق السماوات في أعلى عليين، وترد إلى القبر، فترد السلام وتعلم بالمسلم، وهي في مكانها هناك، وروح رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الرفيق الأعلى، ويردها اللّه سبحانه إلى القبر فترد السلام على من سلم عليه وتسمع كلامه، وقد رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم موسى قائما يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة والسابعة، فإما أن تكون سريعة الحركة والانتقال كلمح البصر، وإما أن يكون المتصل منها بالقبر وفنائه بمنزلة شعاع الشمس وجرمها في السماء، وقد ثبت أن روح النائم تصعد حتى تخترق السبع الطباق، وتسجد للّه بين يدي العرش، ثم ترد إلى جسده في أيسر زمان، وكذلك روح الميت تصعد بها الملائكة حتى تجاوز السموات السبع وتقف بين يدي اللّه، فتجد له فيها، ويقضي فيها قضاء، ويريها الملك ما أعد اللّه لها في الجنة، ثم تهبط فتشهد غسله وحمله ودفنه، وقد تقدم في حديث البراء بن عازب أن النفس يصعد بها حتى توقف بين يدي اللّه فيقول تعالى: «اكتبوا كتاب عبدي في عليين ثم أعيدوه إلى الأرض فيعاد إلى القبر وذلك في مقدار تجهيزه وتكفينه»، فقد صرح به في حديث ابن عباس حيث قال: فيهبطون على قدر فراغه من غسله وأكفانه فيدخلون ذلك الروح بين جسد وأكفانه. و قد ذكر أبو عبد اللّه بن منده من حديث عيسى بن عبد الرحمن، حدثنا ابن شهاب عامر بن سعد عن إسماعيل بن طلحة بن عبيد اللّه عن أبيه قال: أردت مالي بالغابة، فأدركني الليل، فأويت إلى قبر عبد اللّه بن عمر بن حزم، فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها، فجئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ذلك عبد اللّه، أ لم تعلم أن اللّه قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة، فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم، فلا يزال كذلك حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانها الذي كانت به».

ففي هذا الحديث بيان سرعة انتقال أرواحهم من العرش إلى الثرى ثم انتقالها من الثرى إلى مكانها، ولهذا قال مالك وغيره من الأئمة: إن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت، وما يراه الناس من أرواح الموتى ومجيئهم إليهم من المكان البعيد أمر يعلمه عامة الناس ولا يشكون فيه واللّه أعلم.

و أما السلام على أهل القبور وخطابهم فلا يدل على أن أرواحهم ليست في الجنة وأنها على أفنية القبور، فهذا سيد ولد آدم الذي روحه في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى صلى اللّه عليه وآله وسلم يسلم عليه عند قبره ويرد سلام المسلم عليه، وقد وافق أبو عمر رحمه اللّه على أن أرواح الشهداء في الجنة ويسلم عليهم عند قبورهم كما يسلم على غيرهم، كما علمنا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن نسلم عليهم، وكما كان الصحابة يسلمون على شهداء أحد، وقد ثبت أن أرواحهم في الجنة تسرح حيث شاءت كما تقدم، ولا يضيق عقلك عن كون الروح في الملأ الأعلى تسرح في الجنة حيث شاءت وتسمع سلام المسلم عليها عند قبرها وتدنو حتى ترد عليه السلام، وللروح شأن آخر شأن البدن، وهذا جبريل صلوات اللّه وسلامه عليه رآه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وله ستمائة جناح، منها جناحان قد سد بهما ما بين المشرق والمغرب، وكان من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى يضع ركبتيه بين ركبتيه ويديه على فخذيه، وما أظنك يتسع بطنك أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى فوق السموات حيث هو مستقره. وقد دنا من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هذا الدنو فإن التصديق بهذا له قلوب خلقت له وأهلت لمعرفته ومن لم يتسع بطاقة لهذا فهو أضيق أن يتسع للإيمان بالنزول الإلهي إلى سماء الدنيا كل ليلة وهو فوق مساواته على عرشه لا يكون فوقه شي ء البتة، بل هو العالي على كل شي ء وعلوه من لوازم ذاته.

و كذلك دنوه عشية عرفة من أهل الموقف، وكذلك مجيئه يوم القيامة لمحاسبة خلقه، وإشراق الأرض بنوره، وكذلك مجيئه إلى الأرض حين دحاها وسواها ومدها وبسطها وهيأها لما يراد منها. وكذلك مجيئه يوم القيامة حين يقبض من عليها ولا يبقى بها أحد كما قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأصبح ربك يطوف في الأرض وقد خلت عليه البلاد، وهذا هو فوق سماواته على عرشه.

==

فصل الرؤيا

و مما ينبغي أن يعلم أن ما ذكرنا من شأن الروح يختلف بحسب حال من الأرواح من القوة والضعف، والكبر والصغر، فالروح العظيمة الكبيرة ذلك ما ليس لمن هو دونها، وأنت ترى أحكام الأرواح في الدنيا كيف تتفاوت أعظم تفاوت، بحسب تفارق الأرواح وكيفياتها وقواها وإبطائها وإسراعها والمعاونة لها، فالروح المطلقة من أسر البدن وعلائقه وعوائقه التصرف والقوة والنفاذ والهمة وسرعة من الصعود إلى اللّه والتعلق باللّه ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه، فإن كان هذا وهي محبوسة في بدنها فكيف إذا تجردت وفارقته واجتمعت فيها قواها وكانت في أصل شأنها روحا علية زكية كبيرة ذات همة عالية فهذه لها بعد مفارقة البدن شأن آخر وفعل آخر.

و قد تواترت الرؤيا من أصناف بني آدم على فعل الأرواح بعد موتها ما لا تقدر على مثله حال اتصالها بالبدن من هزيمة الجيوش الكبيرة بالواحد والاثنين والعدد القليل ونحو ذلك، وكم قد رئي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ومعه أبو بكر وعمر في النوم قد هزمت أرواحهم عساكر الكفر والظلم، فإذا بجيوشهم مغلوبة مكسورة مع كثرة عددهم [و عدتهم] [1] ضعف المؤمنين وقتلهم.

و من العجب أرواح المؤمنين المتحابين المتعارفين تتلاقى وبينها أعظم مسافة وأبعدها، فتألف وتتعارف، فيعرف بعضها بعضا كأنه جليسه وعشيره، فإذا رآه طابق ذلك ما كان عرفته روحه قبل رؤيته.

(قال) عبد اللّه بن عمرو: إن أرواح المؤمنين تتلاقى على مسيرة يوم، وما رأى أحدهما قط، ورفعه بعضهم إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.

(و قال) عكرمة ومجاهد: إذا نام الإنسان فإن له سببا يجري فيه الروح وأصله في الجسد، فتبلغ حيث شاء اللّه ما دام ذاهبا، فالإنسان نائم، فإذا رجع إلى البدن انتبه الإنسان وكان بمنزلة شعاع الشمس الذي هو ساقط بالأرض فأصله متصل بالشمس.

و قد ذكر أبو عبد اللّه بن منده عن بعض أهل العلم أنه قال: إن الروح تمتد من منخر الإنسان ومركبه وأصله في بدنه، فلو خرج الروح بالكلية لمات، كما أن السراج لو فرق بينه وبين الفتيلة، ألا ترى أن مركب النار في الفتيلة وضوؤها وشعاعها يملأ البيت، فكذلك الروح تمتد من منخر الإنسان في منامه، حتى تأتي السماء وتجول في البلدان وتلتقي مع أرواح الموتى، فإذا أراه الملك الموكل بأرواح العباد ما أحب أن يريه، وكان المرئي في اليقظة عاقلا ذكيا صدوقا لا يلتفت في يقظته إلى شي ء من الباطل رجع إليه روحه فأدى إلى قلبه الصدق مما أراه اللّه عز وجل على حسب خلقه، وإن كان خفيا نزقا يحب الباطل والنظر إليه فإذا نام وأراه اللّه أمرا من خير أو شر رجعت روحه إليه فحيث ما رأى شيئا من مخاريق الشيطان أو الباطل وقفت روحه عليه كما يقظته، فكذلك لا يؤدي إلى قلبه، فلا يعقل ما رأى، لأنه خلط الحق بالباطل، فلا يمكن معبر أن يعبر له وقد خلط الحق بالباطل.

و هذا من أحسن الكلام، وهو دليل على معرفة قائله وبصيرته بالأرواح وأحكامها.

و أنت ترى الرجل يسمع العلم والحكمة وما هو أنفع شي ء له، ثم يمر بباطل ولهو من غناء وشبهة أو زور أو غيره فيصغي إليه، ويفتح له قلبه حتى يتأدى إليه، فيتخبط عليه ذلك الذي سمعه من العلم والحكمة، ويلتبس عليه الحق بالباطل فهكذا شأن الأرواح عند النوم، وأما بعد المفارقة فإنها تعذب بتلك الاعتقادات والشبه الباطلة التي كانت حظها حال اتصالها بالبدن، وينضاف إلى ذلك عذابها بتلك الإرادات والشهوات التي حيل بينهما وبينها ويضاف إلى ذلك عذاب آخر ينشئه اللّه ولبدنها من الأعمال التي اشتركت معه فيها، وهذه هي المعيشة الضنك في البرزخ والزاد الذي تزود به إليه.

و الروح الزكية العلوية المحقة التي لا تحب الباطل ولا تألفه بضد ذلك كله، تنعم بتلك الاعتقادات الصحيحة والعلوم والمعارف التي تلقتها من النبوة وتلك الإرادات والهمم الزكية، وينشئ اللّه سبحانه لها من أعمالها نعيما ينعمها به [في] [2] البرزخ فتصير لها روضة من رياض الجنة ولتلك حفرة من حفر النار.

هامش

وردت في المطبوع: وعدوهم، وهو تصحيف.

زيدت على المطبوع لوضوح العبارة.

====================

====

فصل هل الأرواح في السماء؟

و أما قول من قال: أرواح المؤمنين عند اللّه تعالى ولم يزد على ذلك، فإنه تأدب مع لفظ القرآن حيث يقول اللّه عز وجل: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران:169].

و قد احتج أرباب هذا القول بحجج (منها) ما رواه محمد بن إسحاق الصنعاني حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: إن الميت إذا خرجت نفسه يعرج بها إلى السماء حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها عز وجل، وإذا كان الرجل السوء يعرج بها إلى السماء فإنه لا يفتح لها أبواب السماء فترسل من السماء فتصير إلى القبر. هذا إسناد لا تسأل عن صحته وهو في مسند أحمد وغيره.

و قال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن أبي موسى الأشعري قال: تخرج روح المؤمن أطيب من ريح المسك فينطلق بها الملائكة من دون السماء فيقولون ما هذا؟ فيقولون: هذا فلان ابن فلان كان يعمل كيت وكيت- لمحاسن عمله- فيقولون: مرحبا بكم وبه، فيقبضونها منها، فيصعد بها من الباب الذي كان يصعد منه عمله، فتشرق في السموات ولها برهان كبرهان الشمس حتى ينتهي إلى العرش، وأما الكافر فإذا قبض انطلق بروحه فيقولون ما هذا؟ فيقولون: هذا فلان ابن فلان يعمل كيت وكيت- لمساوئ عمله- فيقولون: لا مرحبا لا مرحبا ردوه إلى أسفل الأرض إلى الثرى.

و قال الملكي بن إبراهيم عن داود بن يزيد الأودي قال أراه عن عامر الشعبي عن حذيفة بن اليمان أنه قال: الأرواح موقوفة عند الرحمن عز وجل تنتظر موعده حتى ينفخ فيها.

و ذكر سفيان بن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه أنه دخل ابن عمر المسجد بعد قتل ابن الزبير وهو مصلوب فأتى أسماء يعزيها فقال لها: عليك بتقوى اللّه والصبر فإن هذه الجثث ليست بشي ء، وإنما الأرواح عند اللّه، فقالت:

و ما يمنعني من الصبر وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.

و ذكر جرير عن الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال: كنا جلوسا إلى كعب والربيع بن خيثم وخالد بن عرعرة في أناس، فجاء ابن عباس فقال: هذا ابن عم نبيكم، قال: فأوسع له فجلس، فقال: يا كعب كل ما في القرآن قد عرفت غير أربعة أشياء فأخبرني عنهن: ما سجين؟ وما عليون؟ وما سدرة المنتهى؟ وما قول اللّه لإدريس ﴿وَرَفَعۡنَـٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا  ٥٧﴾ [مريم:57]؟ قال: أما عليون فالسماء السابعة فيها أرواح المؤمنين، وأما سجين فالأرض السابعة السفلى وأرواح الكفار تحت جسد إبليس، وأما قول اللّه سبحانه لإدريس ورَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا فأوحى اللّه إليه إني رافع لك كل يوم مثل أعمال بني آدم وكلم صديقا له من الملائكة أن يكلم له ملك الموت فأؤخره حتى يزداد عملا، فحمله بين جناحيه فعرج به حتى إذا كان في السماء الرابعة لقيه ملك الموت فكلمه في حاجته فقال: وأين هو؟ قال: هو ذا بين جناحي، قال: فالعجب أني أمرت أن أقبض روحه في السماء الرابعة فقبض روحه. وأما سدرة المنتهى فإنها سدرة على رؤوس حملة العرش ينتهي إليها علم الخلائق ثم ليس لأحد وراءها علم فلذلك سميت سدرة المنتهى.

(قال) ابن منده: ورواه وهب بن جرير عن أبيه، ورواه يعقوب القمي عن شمر، ورواه خالد بن عبد اللّه عن العوام بن حوشب عن القاسم بن عوف عن الربيع بن خيثم قال: كنا جلوسا عند كعب فذكره.

و ذكر يعلى بن عبيد عن الأجلح عن الضحاك قال: إذا قبض روح العبد المؤمن عرج به إلى السماء الدنيا فينطلق معه المقربون إلى السماء الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة حتى ينتهي إلى سدرة المنتهى، قلت للضحاك: لم سميت سدرة المنتهى [قال: لأنه ينتهي] [1] إليها كل شي ء من أمر اللّه عز وجل لا يعدوها، فيقول ربي! عبدك فلان، وهو أعلم به منهم، فيبعث اللّه إليك بصك مختوم يؤمنه من العذاب، وذلك قوله تعالى ﴿كَلَّاۤ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلۡأَبۡرَارِ لَفِی عِلِّيِّينَ  ١٨ وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ  ١٩ كِتَـٰبمَّرۡقُوم  ٢٠ يَشۡهَدُهُ ٱلۡمُقَرَّبُونَ  ٢١﴾ [المطففين:18–21] وهذا القول لا ينافي قول من قال: هم في الجنة، فإن الجنة عند سدرة المنتهى، والجنة عند اللّه، وكأن قائله رأى أن هذه العبارة أسلم وأوفق، وقد أخبر اللّه سبحانه أن أرواح الشهداء عنده، وأخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنها تسرح في الجنة حيث شاءت.

هامش

نقص في المطبوع، وزيدت لوضوح العبارة، والأرجح أنها ساقطة.

====

فصل مكان الأرواح

و أما قول من قال: إن أرواح المؤمنين بالجابية، وأرواح الكفار بحضرموت ببرهوت، فقال أبو محمد بن حزم: هذا من قول الرافضة، وليس كما قال، بل قد قاله جماعة من أهل السنّة.

(قال) أبو عبد اللّه بن منده، وروى عن جماعة من الصحابة والتابعين أن أرواح المؤمنين بالجابية ثم قال: أخبرنا محمد بن محمد بن يونس حدثنا أحمد بن عاصم، حدثنا أبو داود سليمان بن داود، حدثنا همام، حدثني قتادة، حدثني رجل عن سعيد بن المسيب عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال: إن أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية وإن أرواح الكفار تجتمع في سبخة بحضرموت يقال لها برهوت.

ثم ساق من طريق حماد بن سلمة عن عبد الجليل بن عطية عن شهر بن حوشب أن كعبا رأى عبد اللّه بن عمرو وقد تكلب الناس عليه يسألونه فقال لرجل:

سله أين أرواح المؤمنين وأرواح الكفار؟ فسأله، فقال: أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت.

(قال) ابن منده: ورواه أبو داود وغيره عن عبد الجليل ثم ساق من حديث سفيان عن فرات القزاز عن أبي الطفيل عن علي قال: خير بئر في الأرض زمزم، وشر بئر في الأرض برهوت في حضرموت، وخير واد في الأرض واد مكة والوادي الذي أهبط فيه آدم بالهند منه طيبكم، وشر واد في الأرض الأحقاف وهو في حضرموت ترده أرواح الكفار.

قال ابن منده: روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس عن علي: أبغض بقعة في الأرض واد بحضرموت يقال له:

برهوت، فيه أرواح الكفار وفيه ماؤها بالنهار أسود كأنه قيح تأوي إليه الهوام.

ثم ساق من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا علي بن عبد اللّه حدثنا سفيان عن إبان بن تغلب قال: قال رجل بت فيه. يعني وادي برهوت.

فكأنما حشرت فيه أصوات الناس وهم يقولون: يا دومة يا دومة؟ قال إبان: فحدثنا رجل من أهل الكتاب أن دومة هو الملك الذي على أرواح الكفار وقال سفيان:

و سألنا الحضرميين فقالوا: لا يستطيع أحد أن يبيت فيه بالليل.

فهذا جملة ما علمته في هذا القول، فإن أراد عبد اللّه بن عمرو بالجابية التمثيل والتشبيه وأنها تجمع في مكان فسيح يشبه الجابية لسعته وطيب هوائه فهذا قريب، وإن أراد نفس الجابية دون سائر الأرض فهذا لا يعلم إلا بالتوقيت ولعله مما تلقاه عن بعض أهل الكتاب.

======

فصل هل تجتمع الروح في الأرض؟

و أما قول من قال: إنها تجتمع في الأرض التي قال اللّه فيها: ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِی ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِیَ ٱلصَّـٰلِحُونَ  ١٠٥﴾ [الأنبياء:105] فهذا إن كان قاله [في] [1] تفسير الآية فليس هو تفسيرا لها.

و قد اختلف الناس في الأرض المذكورة هنا فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: هي أرض الجنة وهذا قول أكثر المفسرين. وعن ابن عباس قول آخر أنها الدنيا التي فتحها اللّه على أمة محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، وهذا القول هو الصحيح. نظيره قوله تعالى في سورة النور: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [النور:55] وفي الصحيح عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «زويت [2] لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» [3].

و قالت طائفة من المفسرين: المراد بذلك أرض بيت المقدس وهي من الأرض التي أورثها اللّه عباده الصالحين وليست الآية مختصة بها.

هامش

ساقطة من المطبوع.

أي جمعت وقبضت.

أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي.

====

فصل هل الأرواح في عليين؟

و أما قول من قال إن أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة فهذا قول قد قاله جماعة من السلف والخلف، ويدل قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «اللهم الرفيق الأعلى».

و قد تقدم حديث أبي هريرة أن الميت إذا خرجت روحه عرج بها إلى السماء حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة التي فيها عز وجل، وتقدم قول أبي موسى: إنها تصعد حتى تنتهي إلى العرش وقول حذيفة أنها موقوفة عند الرحمن، وقول عبد اللّه بن عمر أن هذه الأرواح عند اللّه، وتقدم قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إن أرواح الشهداء تأوي إلى قناديل تحت العرش، وتقدم حديث البراء بن عازب: أنها تصعد من سماء إلى سماء ويشيعها من كل سماء مقربوها حتى تنتهي بها إلى السماء السابعة، وفي لفظ: إلى السماء التي فيها اللّه عز وجل.

و لكن هذا لا يدل على استقرارها هناك، بل يصعد بها هنالك للعرض على ربها، فيقضي أمره ويكتب كتابه من أهل عليين، أو من أهل سجين، ثم تعود إلى القبر للمسألة، ثم ترجع إلى مقرها التي أودعت فيه، فأرواح المؤمنين في عليين بحسب منازلهم وأرواح الكفار في سجين بحسب منازلهم.

====

فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم

و أما قول من قال: إن أرواح المؤمنين تجتمع ببئر زمزم، فلا دليل على هذا القول من كتاب ولا سنّة يجب التسليم لها، ولا قول صاحب يوثق به، وليس بصحيح، فإن تلك بئر لا تسع أرواح المؤمنين جميعهم، وهو مخالف لما ثبتت به السنة الصريحة من أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة.

و بالجملة: فهذا من أبطل الأقوال وأفسدها وهو أفسد من قول من قال أنها بالجابية فإن ذلك مكان متسع فضاء بخلاف البئر الضيقة.

========

فصل هل الأرواح في البرزخ؟

و أما قول من قال إن أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت فهذا مروي عن سليمان الفارسي، والبرزخ هو الحاجز بين شيئين، وكأن سلمان أراد في أرض بين الدنيا والآخرة مرسلة هناك تذهب حيث شاءت.

و هذا قول قوي، فإنها قد فارقت الدنيا ولم تلج الآخرة، بل هي في برزخ بينهما، فأرواح المؤمنين في برزخ واسع فيه الروح والريحان والنعم، وأرواح الكفار في برزخ ضيق فيه الغم والعذاب قال تعالى: ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون:100]، فالبرزخ هنا ما بين الدنيا والآخرة وأصله الحاجز بين الشيئين.

====

فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم

و أما قول من قال إن أرواح المؤمنين عن يمين آدم وأرواح الكفار عن يساره فلعمر اللّه لقد قال قولا يؤيده الحديث الصحيح، وهو حديث الإسراء، فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم رآهم كذلك، ولكن لا يدل ذلك على تعادلهم في اليمين والشمال، بل يكون هؤلاء عن يمينه في العلو والسعة، وهؤلاء عن يساره في السفل والسجن. و قد قال أبو محمد بن حزم: إن ذلك البرزخ الذي رآه فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ليلة أسري به عند سماء الدنيا قال: وذلك عند منقطع العناصر، قال: وهذا يدل على أنها عنده تحت السماء حتى تنقطع العناصر وهي الماء والتراب والنار والهواء.

و هو دائما يشنع على من قال قولا لا دليل عليه، فأي دليل له على هذا القول من كتاب وسنّة؟ وسيأتي إشباع الكلام على قوله إذ انتهينا إليه إن شاء اللّه تعالى.

فإن قيل: فإذا كانت أرواح أهل السعادة عن يمين آدم، وآدم في السماء الدنيا، وقد ثبت أن أرواح الشهداء في ظل العرش، والعرش فوق السماء السابعة، فكيف تكون عن يمينه، وكيف يراها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هناك في السماء الدنيا؟ فالجواب من وجوه.

أحدهما: أنه لا يمتنع كونها عن يمينه في جهة العلو كما كانت أرواح الأشقياء عن يساره في جهة السفلى.

الثاني: أنه غير ممتنع أن تعرض على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في سماء الدنيا وإن مستقرها فوق ذلك.

الثالث: أنه لم يخبر أنه رأى أرواح السعداء جميعا هناك بل قال: فإذا عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، ومعلوم قطعا أن روح إبراهيم وموسى فوق ذلك في السماء السادسة والسابعة، وكذلك الرفيق إلا على أرواحهم فوق ذلك وأرواح السعداء بعضها أعلى من بعض بحسب منازلهم، كما أن أرواح الأشقياء بعضها أسفل من بعض منازلهم. واللّه أعلم.

==

فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق

و أما قول أبي محمد حزم إن مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها فهذا بناء منه على مذهبه الذي اختاره وهو أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد وهذا فيه قولان للناس، وجمهورهم على أن الأرواح خلقت بعد الأجساد والذين قالوا إنها خلقت قبل الأجساد ليس معهم على ذلك دليل من كتاب ولا سنّة ولا إجماع إلا ما فهموه من نصوص لا تدل على ذلك أو أحاديث لا تصح كما احتج به أبو محمد بن حزم من قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا﴾ [الأعراف:172] الآية وبقوله تعالى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾ [الأعراف:11]، قال فصح أن اللّه خلق الأرواح جملة وهي الأنفس، وكذلك أخبر عليه السلام: «إن الأرواح جنوده مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»، قال وأخذ عز وجل عهدها وشهادتها وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم، وقبل أن يدخلها في الأجساد يومئذ تراب. وقال: لأن اللّه تعالى خلق ذلك بلفظة ثم التي توجب التعقيب والمهلة ثم أقرها سبحانه وتعالى حيث شاء وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت.

و سنذكر ما في هذا الاستدلال عند جواب سؤال السائل عن الأرواح [هل] [1] هي مخلوقة مع الأبدان أم قبلها؟ إذ الغرض هنا الكلام على مستقر الأرواح بعد الموت، وقوله أنها تستقر في البرزخ الذي كانت فيه قبل خلق الأجساد مبني على هذا الاعتقاد الذي اعتقده، وقوله: إن أرواح السعداء عن يمين آدم، وأرواح الكفار الأشقياء عن يساره حق، كما أخبر به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وقوله أن ذلك منقطع العناصر، لا دليل عليه من كتاب ولا سنّة، ولا يشبه أقوال أهل الإسلام، والأحاديث الصحيحة تدل على أن الأرواح فوق العناصر في الجنة عند اللّه، وأدلة القرآن تدل على ذلك، وقد وافق أبو محمد على أن أرواح الشهداء في الجنة، ومعلوم أن الصديقين أفضل منهم، فكيف تكون روح أبي بكر الصديق وعبد اللّه بن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة بن اليمان وأشباههم رضي اللّه عنهم عند منقطع العناصر، وذلك تحت هذا الفلك الأدنى وتحت سماء الدنيا، وتكون أرواح شهداء زماننا وغيرهم فوق العناصر وفوق السموات.

و أما قوله: قد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلنا بعينه، قال: وعلى هذا جميع أهل العلم وهو قول جميع أهل الإسلام.

(قلت) محمد بن نصر المروزي ذكر في كتاب الرد على ابن قتيبة في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف:172]. الآثار التي ذكرها السلف من استخراج ذرية آدم من صلبه، ثم أخذ الميثاق عليهم وردهم في صلبه وأنه أخرجهم مثل الذر وأنه أخرجهم مثل الذر وأنه سبحانه قسمهم إذ ذاك إلى شقي وسعيد وكتب آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وما يصيبهم من خير وشر، ثم قال: قال إسحاق: أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد استنطقهم ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:172] ﴿وْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ﴾ [الأعراف:173]، هذا نص كلامه وهو ما ترى لا يدل على أن مستقر الأرواح أبو محمد حيث تنقطع العناصر بوجه من الوجوه بل ولا يدل على أن الأرواح كائنة قبل خلق الأجساد، بل إنما يدل على أنه سبحانه أخرجها حينئذ فخاطبها، ثم ردها إلى صلب آدم، وهذا القول وإن كان قد قاله من السلف والخلف فالقول الصحيح غيره كما ستقف عليه إن شاء اللّه، إذ ليس الغرض في جواب هذه المسألة الكلام في الأرواح، هل هي مخلوقة قبل الأجساد أم لا، حتى لو سلم لأبي محمد هذا كله لم يكن فيه دليل على أن مستقرها حيث تنقطع العناصر ولا أن ذلك الموضع كان مستقرها أولا.

هامش

زيدت على المطبوع.

===

فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض

و أما قول من قال مستقرها العدم المحض. فهذا قول من قال إنها عرض من أعراض البدن وهو الحياة، وهذا قول ابن الباقلاني ومن تبعه. وكذلك قال أبو الهذيل العلاف: النفس عرض من الأعراض ولم يعينه بأنه الحياة كما عينه ابن الباقلاني، ثم قال: هي عرضي كسائر أعراض الجسم.

و هؤلاء عندهم أن الجسم إذا مات عدمت روحه كما تقدم وسائر أعراضه المشروطة بالحياة، ومن يقول منهم أن العرض لا يبقى زمانين كما يقوله أكثر الأشعرية [1] فمن قولهم أن روح الإنسان الآن هي غير روحه قبل وهو لا ينفك يحدث له روح ثم تغير ثم روح ثم تغير هكذا أبدا فيبدل له ألف روح فأكثر في مقدار ساعة من الزمان فما دونها فإذا مات فلا روح تصعد إلى السماء وتعود إلى القبر وتقبضها الملائكة ويستفتحون لها أبواب السموات ولا تنعم ولا تعذب وإنما ينعم ويعذب الجسد. وإذا شاء اللّه تنعيمه وتعذيبه رد إليه الحياة في وقت يريد نعيمه أو عذابه وإلا فلا أرواح هناك قائمة بنفسها البتة.

و قال بعض أرباب هذا القول ترد الحياة إلى عجب الذنب [2]، فهو الذي يعذب وينعم حسب.

و هذا قول يرده الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة وأدلة العقول والفطن والفطرة، وهو قول من لم نعرف روحه فضلا عن روح غيره، وقد خاطب اللّه سبحانه النفس بالرجوع والدخول والخروج دلت النصوص الصحيحة الصريحة على أنها تصعد وتنزل وتقبض وتمسك وترسل وتستفتح لها أبواب السماء وتسجد وتتكلم، وأنها تخرج تسيل كما تسيل القطرة، وتكفن وتحنط في أكفان الجنة والنار، وأن ملك الموت يأخذها بيده ثم تتناولها الملائكة من يده، ويشم لها كأطيب نفخة مسك أو أنتن جيفة، وتشيع من سماء إلى سماء، ثم تعاد إلى الأرض مع الملائكة، وأنها إذا خرجت تبعها البصر بحيث يراها وهي خارجة. ودل القرآن على أنها تنتقل من مكان إلى مكان حتى تبلغ الحلقوم في حركتها، وجمع ما ذكرنا من جمع الأدلة الدالة على تلاقي الأرواح وتعارفها وأنها جنود مجندة إلى غير ذلك تبطل هذا القول، وقد شاهد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الأرواح ليلة الإسراء عن يمين آدم وشماله، وأخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجرة الجنة، وأرواح الشهداء في حواصل طير خضر، وأخبر تعالى عن أرواح آل فرعون أنها تعرض على النار غدوا وعشيا.

و لما أورد ذلك على ابن الباقلاني لج في الجواب وقال: يخرج على هذا أحد وجهين:

إما بأن يوضع عرض من الحياة في أول جزء من أجزاء الجسم، وإما أن يخلق لتلك الحياة والنعيم والعذاب جسد آخر.

و هذا قول في غاية الفساد من وجوه كثيرة، وأي قول أفسد من قول من يجعل روح الإنسان عرضا من الأعراض تتبدل كل ساعة ألوفا من المرات، فإذا فارقه هذا العرض لم يكن بعد المفارقة روح تنعم ولا تعذب، ولا تصعد ولا تنزل، ولا تمسك ولا ترسل، فهذا قول مخالف للعقل ونصوص الكتاب والسنّة والفطرة، وهو قول من لم يعرف نفسه، وسيأتي ذكر الوجوه الدالّة على بطلان هذا القول في موضعه من هذا الجواب إن شاء اللّه. وهو قول لم يقل به أحد من سلف الأمة ولا من الصحابة والتابعين ولا أئمة الإسلام.

هامش

من ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري، وقد ظهر مذهبه في البصرة، ويعتبر الأشاعرة والماتريدية أصحاب مذهب واحد لأن كلا من المذهبين يكمل الآخر في منهجه وفكره. وتتلخص آراء الأشاعرة بالتالي:

أ- الأخذ بظواهر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في أمور التوحيد، ووصف اللّه عز وجل بما وصف به نفسه في القرآن الكريم وبما ورد على لسان نبيه محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم.

ب- أن أفعال العبد مخلوقة، والعبد لا يقدر على خلق أي شي ء منها.

ج- أن سعداء الناس يرون ربهم يوم القيامة ولكن من غير حلول ولا حدود.

د- أن القرآن الكريم كلام اللّه غير مغير ولا مخلوق ولا حادث ولا مبتدع.

ه- القبيح هو المنهي عنه شرعا، والحسن هو الذي لم ير فيه نهي من الشارع.

و- أن مرتكب الكبيرة يعود أمره إلى اللّه عز وجل فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة وإن شاء عذبه وعاقبه ثم يدخله الجنة.

ز- أن صفات اللّه عز وجل قديمة وزائدة على ذاته.

أي أصل الذنب وهو العصعص في الإنسان.

==============

فصل التناسخ

و أما قول من قال إن مستقرها بعد الموت أبدان أخر غير هذه الأبدان وهذا القول فيه حق وباطل.

فأما الحق: فما أخبر الصادق المصدوق صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الشهداء أنها في حواصل طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش هي كالأوكار للطائر، وقد صرح بذلك في قوله: «جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر».

و أما قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة» يحتمل أن يكون هذا الطائر مركبا للروح كالبدن لها، ويكون ذلك لبعض المؤمنين والشهداء، ويحتمل أن تكون الروح في صورة طائر، وهذا اختيار أبي محمد بن حزم وأبي عمر بن عبد البر، وقد تقدم كلام أبي عمر والكلام عليه، وأما ابن حزم فإنه قال معنى قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نسمة المؤمن طائر يعلق» وهو على ظاهرة لا على ظن أهل الجهل، وإنما أخبر صلى اللّه عليه وآله وسلم أن نسمة المؤمن طائر يعلق بمعنى أنها تطير في الجنة لا أنها تمسخ في صورة الطير.

قال: فإن قيل إن النسمة مؤنثة. قلنا: قد صح عن عربي فصيح أنه قال:

أتتك كتاب فاستخففت بها، فقيل له: أ تؤنث الكتاب؟ قال: أ وليس صحيفة، وكذلك النسمة تذكر كذلك؟ قال: وأما الزيادة التي فيها أنها في حواصل طير خضر فإنها صفة تلك القناديل التي تأوي إليها، والحديثان معا حديث واحد. وهذا الذي قاله في غاية الفساد لفظا ومعنى، فإن حديث نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة غير حديث أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، والذي ذكره محتمل في الحديث الأول، وأما الحديث الثاني فلا يحتمله بوجه، فإنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أخبر أن أرواحهم في حواصل طير، وفي لفظ أجواف طير خضر. وفي لفظ بيض، وإن تلك الطير تسرح في الجنة فتأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش هي لها كالأوكار للطائر، وقوله أن حواصل تلك الطير هي صفة القناديل التي تأوي إليها خطأ قطعا، بل تلك القناديل مأوى لتلك الطير، فها هنا ثلاثة أمور صرح بها الحديث: أرواح وطير هي في أجوافها، وقناديل هي مأوى لتلك الطير، والقناديل مستقرة تحت العرش لا تسرح، والطير تسرح وتذهب وتجيء والأرواح في أجوافها.

فإن قيل: يحتمل أن تجعل نفسها في صورة طير أنها تركب في بدن طير كما قال تعالى:﴿فِيۤ أَیِّ صُورَةمَّا شَاۤءَ رَكَّبَكَ  ٨﴾ [الانفطار:8] ويدل عليه قوله في اللفظ الآخر أرواحهم كطير خضر كذلك رواه ابن أبي شيبة [1] حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد اللّه بن مرة عن مسروق عن عبد اللّه.

قال أبو عمرو الذي يشبه عندي واللّه أعلم أن يكون القول قول من قال كطير أو صورة طير لمطابقته لحديثنا المذكور. يعني حديث كعب بن مالك في نسمة المؤمن.

فالجواب: إن هذا الحديث قد روي بهذين اللفظين والذي رواه مسلم في الصحيح من حديث الأعمش عن مسروق، فلم يختلف حديثهما أنها في أجواف طير خضر.

و أما حديث ابن عباس: فقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا عبد اللّه ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لما أصيب إخوانكم- يعني يوم أحد- جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مدلاة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يتكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد؟ فقال اللّه تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل اللّه تعالى: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِی سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ  ١٦٩﴾ [آل عمران:169]» [2].

و أما حديث كعب بن مالك: فهو في السنن الأربعة ومسند أحمد ولفظه للترمذي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة أو شجر الجنة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح [3]. ولا محذور في هذا، ولا يبطل قاعدة من قواعد الشرع، ولا يخالف نصا من كتاب ولا سنّة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، بل هذا من إتمام إكرام اللّه للشهداء أن أعاضهم من أبدانهم التي مزقوها للّه أبدانا خيرا منها تكون مركبا لأرواحهم ليحصل بها كمال تنعمهم، فإذا كان يوم القيامة رد أرواحهم إلى تلك الأبدان التي كانت في الدنيا.

فإن قيل: فهذا هو القول بالناسخ وحلول الأرواح في أبدان غير أبدانها التي كانت فيها.

قيل: هذا المعنى الذي دلت عليه السنّة الصريحة حق يجب اعتقاده ولا يبطله تسمية المسمى له تناسخا، كما أن إثبات ما دل عليه العقل والنقل من صفات اللّه عز وجل حقائق أسمائه الحسنى حق، لا يبطله تسمية المعطلين له تركيبا وتجسيما، وكذلك ما دل عليه العقل والنقل من إثبات أفعاله وكلامه بمشيئته، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، ومجيئه يوم القيامة للفصل بين عباده، حق لا يبطله تسمية المعطلين له حلول حوادث، كما أن ما دل عليه العقل والنقل علو اللّه على خلقه ومباينته لهم واستوائه على عرشه وعروج الملائكة والروح إليه ونزولها من عنده وصعود الكلم الطيب إليه وعروج رسوله إليه ودنوه منه حتى صار قاب قوسين أو أدنى وغير ذلك من الأدلة حق لا يبطله تسمية الجهمية له حيزا وجهة وتجسيما.

قال الإمام أحمد: «لا نزيل عن اللّه صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين» قال: هذا شأن أهل البدع، يلقبون أهل السنّة وأقوالها بالألقاب التي ينفرون منها الجهال ويسمونها حشوا وتركيبا وتجسيما، ويسمون عرش الرب تبارك وتعالى حيزا وجهة، ليتوصلوا بذلك إلى نفي علوه على خلقه واستوائه على عرشه، كما تسمى الرافضة موالاة أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كلهم ومحبتهم والدعاء لهم نصبا، وكما تسمى القدرية [4] المجوسية إثبات القدر جبرا، فليس الشأن في الألقاب، وإنما الشأن في الحقائق، والمقصود أن تسمية ما دلت عليه [الأحاديث] [5] الصريحة في جعل أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تناسخا لا يبطل هذا المعنى، وإنما التناسخ الباطل ما تقوله أعداء الرسل من الملاحدة وغيرهم الذين ينكرون المعاد، وأن الأرواح تصير بعد مفارقة الأبدان إلى أجناس الحيوان والحشرات والطيور التي تناسبها وتشاكلها، فإذا فارقت هذه الأبدان انتقلت إلى أبدان تلك الحيوانات، فتنعم فيها أو تعذب، ثم تفارقها وتحل في أبدان أخر تناسب أعمالها وأخلاقها.

و هكذا أبدا، فهذا معادها عندهم ونعيمها وعذابها، لا معاد لها عندهم غير ذلك، فهذا هو التناسخ الباطل المخالف لما اتفقت عليه الرسل والأنبياء من أولهم إلى آخرهم، وهو كفر باللّه واليوم الآخر.

و هذه الطائفة يقولون: أن مستقر الأرواح بعد المفارقة [إلى] [6] أبدان الحيوانات التي تناسبها. وهو أبطل قول وأخبثه، ويليه قول من قال: إن الأرواح تعدم جملة الموت، ولا تبقى هناك روح تنعم ولا تعذب، بل النعيم والعذاب يقع على أجزاء الجسد أو جزء منه إما عجب أو غيره، فيخلق اللّه فيه الألم واللذة، إما بواسطة رد الحياة إليه كما قاله بعض أرباب هذا القول، أو بدون رد الحياة كما قاله آخرون منهم، فهؤلاء عندهم: لا عذاب في البرزخ إلا على الأجساد، ومقابلهم من يقول: إن الروح لا تعاد إلى الجسد بوجه ولا تتصل به، والعذاب والنعيم على الروح فقط، والسنّة الصريحة المتواترة ترد قول هؤلاء وهؤلاء، وتبين أن العذاب على الروح والجسد مجتمعين ومنفردين.

فإن قيل: فقد ذكرتم أقوال الناس في مستقر الأرواح ومأخذهم فما هو الراجح من هذه الأقوال حتى نعتقده؟

قيل: الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت. فمنها: أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى وهي أرواح الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم كما رآها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ليلة الإسراء.

و منها: أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو غيره كما في المسند عن محمد بن عبد اللّه بن جحش أن رجلا جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه ما لي إن قتلت في سبيل اللّه؟ قال: «الجنة» فلما ولى قال: «إلا الذي سارني به جبريل آنفا». ومنهم من يكون محبوسا على باب الجنة كما في الحديث الآخر: «رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة».

و منهم: من يكون محبوسا في قبره، كحديث صاحب الشملة التي غلها ثم استشهد، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:

«و الذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه نارا في قبره».

و منهم: من يكون مقره باب الجنة كما في حديث ابن عباس: «الشهداء على بارق نهر باب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية». رواه أحمد.

و هذا بخلاف جعفر بن أبي طالب حيث أبدله اللّه من يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء [7].

و منهم: من يكون محبوسا في الأرض لم تعل روحه إلى الملأ الأعلى، فإنها كانت روحا سفلية أرضية، فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية كما تجامعها في الدنيا، والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبته وذكره والأنس به والتقرب إليه، بل هي أرضية سفلية، لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك، كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة اللّه وذكره والتقرب إليه والأنس به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها، فالمرء مع من أحب في البرزخ ويوم القيامة، واللّه تعالى يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد كما تقدم في الحديث، ويجعل روحه يعني المؤمن مع النسيم الطيب أي الأرواح الطيبة المشاكلة فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وإخوانهم وأصحاب عملها فتكون معهم هناك.

و منها: أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقهم الحجارة، فليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد، بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض.

و أنت إذا تأملت السنن والآثار في هذا الباب وكان لك بها فضل اعتناء عرفت حجة ذلك، ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا فإنها كلها حق يصدق بعضها بعضا، لكن الشأن في فهمها ومعرفة النفس وأحكامها وأن لها شأنا غير شأن البدن، وأنها مع كونها في الجنة فهي في السماء وتنفعل بفناء القبر وبالبدن فيه، وهي أسرع شي ء حركة وانتقالا وصعودا وهبوطا وأنها تنقسم إلى مرسلة ومحبوسة وعلوية وسفلية ولها بعد المفارقة صحة ومرض ولذة ونعيم وألم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير، [فهنالك] [8] الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة، وهنالك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق، وما أشبه حالها في هذا البدن بحال ولد في بطن أمه وحالها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار.

فلهذه الأنفس أربع دور، كل دار أعظم من التي قبلها:

الدار الأولى: في بطن الأم وذلك الحصر والضيق والغم والظلمات الثلاث.

و الدار الثانية: هي الدار التي نشأت فيها وألفتها واكتسبت فيها الخبر والشر وأسباب السعادة والشقاوة.

و الدار الثالثة: دار البرزخ وهي أوسع من هذه الدار وأعظم بل نسبتها إليه كنسبة هذه الدار إلى الأولى.

و الدار الرابعة: دار القرار وهي الجنة أو النار، فلا دار بعدها، واللّه ينقلها في هذه الدار طبقا بعد طبق حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها ولا يليق بها سواها، وهي التي خلقت لها وهيئت للعمل الموصل إليها، ولها في كل دار من هذه الدور حكم وشأن غير شأن الدار الأخرى، فتبارك اللّه فاطرها ومنشئها ومميتها ومحييها ومسعدها ومشقيها الذي فاوت بينها في درجات سعادتها وشقاوتها كما فاوت بينها في مراتب علومها وأعمالها وقواها وأخلاقها. فمن عرفها كما ينبغي شهد أن لا إله إلا اللّه وحده ولا شريك له له الملك كله وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، وله القوة كلها، والقدرة كلها، والعز كله، والحكمة كلها، والكمال المطلق من جميع الوجوه وعرف بمعرفة نفسه صدق أنبيائه ورسله وأن الذي جاؤوا به هو الحق الذي تشهد به العقول وتقر به الفطر وما خالفه فهو الباطل وباللّه التوفيق.

هامش

هو أبو بكر عبد اللّه بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة العبسي الكوفي صاحب المصنف المشهور في الحديث النبوي الشريف، ولد في منتصف القرن الثاني للهجرة وتوفي سنة 235 ه، ذكر البخاري أن وفاته كانت في المحرم.

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الجهاد باب ما ذكر في فضل الجهاد والحث عليه بلفظ:

حدثنا ابن فضيل عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن ابن عباس (زاد فيه:

ابن إدريس) عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهارها وتأكل من ثمارها وتسرح في الجنة حيث شاءت، فلما رأوا حسن مقيلهم ومطعمهم ومشربهم قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما صنع اللّه لنا كي يرغبوا في الجهاد ولا يتكلوا عنه، فقال اللّه تعالى: فإني مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم، ففرحوا واستبشروا بذلك، فذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِی سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ  ١٦٩﴾ [آل عمران:169] إلى قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:171].

أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب ما جاء في ثواب الشهداء (4/ 151) برقم 1641.

تنسب القدرية إلى معبد بن خالد الجهني وتلميذه غيلان الدمشقي، وتتلخص أقوالهم بالتالي:

أ- القدر رديف الاختيار.

ب- نفي الصفات الثبوتية.

ج- خلق القرآن.

د- الإيمان قول وعمل وليس العمل شرطا في الإيمان.

ه- الإمامة تصح لغير القرشي (و هو قول الخوارج) فاعتبروا أنها تصح لكل من آمن بالكتاب والسنّة إذا أجمع المسلمون على إمامته.

و رأى بعض الباحثين أن معبد بن خالد الجهني أستاذ غيلان لم يأخذ أفكاره من القرآن أو من أقوال السلف أو حتى من نفسه بل أخذها من رجل نصراني من أهل العراق يدعى أبا يونس سستويه الأسواري، ومنهم من قال أن معبد قد أخذ آراءه عن أبان بن سمعان اليهودي، وأن أبان أخذ آراءه عن طالوت بن أعصم اليهودي.

ساقطة من المطبوع، والصواب ما أثبتناه.

ساقطة من المطبوع.

استشهد جعفر بن أبي طالب مع موقعة مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، فقد أخرج الترمذي في كتاب المناقب باب مناقب جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه (5/ 612) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «رأيت جعفرا يطير في الجنة مع الملائكة». و أخرج الترمذي أيضا عن البراء بن عازب أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لجعفر بن أبي طالب «أشبهت خلقي وخلقي» وفي الحديث قصة.

وردت في المطبوع: فهناك لك.

========

المسألة السادسة عشر (انتفاع أرواح الموتى بعمل الغير)

و هي: هل تنتفع أرواح الموتى بشي ء من سعي الأحياء أم لا؟

فالجواب: أنها تنتفع من سعي الأحياء بأمرين تجمع عليهما بين أهل السنّة من الفقهاء وأهل الحديث والتفسير.

أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته.

و الثاني: دعاء المسلمين له واستغفارهم له والصدقة والحج على نزاع: ما الذي يصل من ثوابه هل ثواب الإنفاق أو ثواب العمل؟ فعند الجمهور: يصل ثواب العمل نفسه، وعند بعض الحنفية إنما يصل ثواب الإنفاق.

و اختلفوا في العبادة البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر، فمذهب الإمام أحمد وجمهور السلف: وصولها، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة نص على هذا الإمام أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال قال: قيل لأبي عبد اللّه:

الرجل يعمل الشي ء من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه؟ قال: أرجو- أو قال- الميت يصل إليه كل شي ء من صدقة أو غيرها، وقال أيضا: اقرأ آية الكرسي ثلاث مرات، وقل هو اللّه أحد، وقل اللهم، إن فضله لأهل المقابر. والمشهور من مذهب الشافعي ومالك أن ذلك لا يصل.

و ذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام أنه لا يصل إلى الميت شي ء البتة لا دعاء ولا غيره.

فالدليل على انتفاعه بما تسبب إليه في حياته ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عليه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» فاستثناء هذه الثلاث من عمله يدل على أنها منه فإنه هو الذي تسبب إليها.

و في سنن ابن ماجه: من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إنما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، أو ولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أكراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته».

و في صحيح مسلم: أيضا من حديث جرير بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شي ء، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعد من غير أن ينقص من أوزارهم شي ء». وهذا المعنى روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من عدة وجوه صحاح وحسان.

و في المسند: عن حذيفة قال: سأل رجل على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فأمسك القوم، ثم إن رجلا أعطاه فأعطى القوم فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من سنّ خيرا فاستنّ به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا، ومن سنّ شرا فاستنّ به كان عليه وزره من أوزار من تبعه غير منتقض من أوزارهم شيئا».

و قد دل على هذا قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها»، لأنه أول من سنّ القتل فإذا كان هذا في العذاب والعقاب ففي الفضل والثواب أولى وأخرى.

=======

فصل الدليل على انتفاع روح الميت

والدليل على انتفاعه بغير ما تسبب فيه، القرآن والسنّة والإجماع وقواعد الشرع.

أما القرآن: فقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ [الحشر:10] فأثنى اللّه سبحانه عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء.

و قد يمكن أن يقال: إنما انتفعوا باستغفارهم لأنهم سنوا لهم الإيمان بسبقهم إليه، فلما اتبعوهم فيه كانوا كالمستنين في حصوله لهم. لكن قد دل على انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة.

و في السنن من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء».

و في صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك قال: صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: «اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر أو من عذاب النار» [1].

و في السنن: عن واثلة بن الأسقع قال: صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على رجل من المسلمين فسمعته يقول: «اللهم إن فلانا ابن فلان في ذمتك وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، فاغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم».

و هذا كثير في الأحاديث، بل هو المقصود بالصلاة على الميت وكذلك الدعاء له بعد الدفن.

و في السنن: من حديث عثمان بن عفان رضي اللّه عنه قال: كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل».

و كذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم (كما في صحيح مسلم) من حديث بريدة بن الخصيب قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء اللّه بكم للاحقون أسأل اللّه لنا ولكم العافية» [2].

و في صحيح مسلم: أن عائشة رضي اللّه عنه سألت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: كيف تقول إذا استغفرت لأهل القبور؟ قال: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم اللّه المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء اللّه بكم للاحقون» [3].

و في صحيحه: عنها أيضا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خرج في ليلتها من آخر الليل إلى البقيع فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» [4]. و دعاء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للأموات فعلا وتعليما، ودعاء الصحابة والتابعين والمسلمين عصرا بعد عصر أكثر من أن يذكر وأشهر من أن ينكر، وقد جاء: أن اللّه يرفع درجة العبد في الجنة فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال:

بدعاء ولدك لك.

هامش

أخرجه مسلم في كتاب الجنائز باب الدعاء للميت في الصلاة (3/ 59).

أخرجه مسلم في كتاب الجنائز باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها (3/ 65).

أخرجه مسلم في كتاب الجنائز باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها (3/ 63) من ضمن حديث طويل وآخره ما ذكره ابن القيم رحمه اللّه.

أخرجه مسلم في كتاب الجنائز باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها (3/ 63) عن عطاء بن يسار عن عائشة أنها قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم (كلما كان ليلتها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم) يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول ... (الحديث).

=======

فصل وصول ثواب الصدقة

و أما وصول ثواب الصدقة (ففي الصحيحين) عن عائشة رضي اللّه عنها أن رجلا أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه إن أمي افتلتت نفسها [1] ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أ فلها أجر إن تصدقت عنها؟

قال: «نعم» [2].

و في صحيح البخاري: عن عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها- فأتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم- فقال: يا رسول اللّه: إن أمي توفيت وأنا غائب عنها أ ينفعها إن تصدقت به عنها؟ قال:

«نعم»، قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها [3].

و في صحيح مسلم: عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رجلا قال للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: إن أبي مات وترك مالا ولم يوص، فهل يكفئ عنه أن أتصدق عنه؟ قال: «نعم».

و في السنن ومسند أحمد عن سعد بن عبادة أنه قال: يا رسول اللّه إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل؟ قال: «الماء» فحفر بئرا وقال: هذه لأم سعد.

و عن: عبد اللّه بن عمرو أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر خمسة وخمسين، وأن عمرا سأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: «أما أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك». رواه الإمام أحمد.

===========

فصل وصول ثواب الصوم

وأما وصول ثواب الصوم (ففي الصحيحين) عن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» [1].

(و في الصحيحين) أيضا عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه أمي ماتت وعليها صوم شهر أ فأقضيه عنها؟ [فقال: «لو كان على أمك دين أكنت قاضيه»؟ قال: نعم] [2] قال:

«نعم فدين اللّه أحق أن يقضى» [3].

و في رواية: جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت:

يا رسول اللّه إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أ فأصوم عنها؟ قال: «أ رأيت لو كان على أمك دين فقضيته أ كان يؤدي ذلك عنها»؟ قالت: نعم، قال: «فصومي عن أمك».

و هذا اللفظ للبخاري وحده تعليقا [4].

و عن بريدة رضي اللّه عنه: قال: بينما أنا جالس عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ أتته امرأة فقال: إني تصدقت على أمي بجارية وأنها ماتت؟

فقال: «وجب أجرك [5] وردها عليك الميراث» قالت: يا رسول اللّه أنه كان عليها صوم شهر أ فأصوم عنها؟ قال: «صومي عنها»، قالت: إنها لم تحج قط أ فأحج عنها؟ قال: «حجي عنها». رواه مسلم. وفي لفظ: صوم شهرين.

و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن نجاها اللّه أن تصوم شهرا، فنجاها اللّه فلم تصم حتى ماتت، فجاءت ابنتها أو أختها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأمرها أن تصوم عنها. رواه أهل السنن والإمام أحمد. وكذلك روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم وصول ثواب بدل الصوم وهو الإطعام.

ففي السنن عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا». رواه الترمذي وابن ماجه. قال الترمذي: ولا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه والصحيح عن ابن عمر من قوله موقوفا [6].

و في سنن أبي داود عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: إذا مرض الرجل في رمضان ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عنه قضاء، وإن [كان عليه] [7] نذر قضى عنه وليه [8].

هامش

أخرجه مسلم في كتاب الصيام باب قضاء الصيام عن الميت (3/ 155).

ساقطة من الأصل.

أخرجه مسلم في كتاب الصيام باب قضاء الصيام عن الميت (3/ 156).

وأخرجه مسلم كذلك بلفظه في كتاب الصيام باب قضاء الصيام عن الميت (3/ 156).

أي ثبت لك أجر بالصلة، وأنت لم ترجعي بهبتك لها، وإنما الميراث قد أعادها وأرجعها إليك، وهذا الأمر ليس بيدك بل هو أمر اللّه تعالى الذي جعل لك نصيبا في ميراثها فأرجعها إليك ميراثا.

أخرجه الترمذي في كتاب الزكاة باب ما جاء من الكفارة (3/ 96) برقم 718، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الصيام باب من مات وعليه صيام رمضان قد فرط فيه (1/ 558) برقم 1757 بلفظ: «من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين».

و قد اختلف العلماء في مسألة قضاء الصيام عن الميت، فقال أحمد وإسحاق: يصام عن الميت، وقال مالك والشافعي وسفيان: لا يصوم أحد عن أحد.

ساقطة من المطبوع.

أخرجه أبو داود في كتاب الصوم باب فيمن مات وعليه صيام (2/ 792) برقم 2401.

=====

فصل وصول ثواب الحج

و أما وصول ثواب الحج ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أ فأحج عنها؟ قال: «حجي عنها، أ رأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا اللّه، فاللّه أحق بالقضاء» [1].

و قد تقدم حديث بريدة وفيه أن أمي لم تحج أ فأحج عنها؟ قال حجي عنها.

و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: [أمرت] [2] امرأة سنان بن سلمة الجهني [أن يسأل] [3] رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن أمها ماتت ولم تحج، أ فيجزئ أن تحج عنها؟ قال: «نعم لو كان على أمها دين فقضته عنها أ لم يجزئ عنها [فلتحج عن أمها] [4]. رواه النسائي [5].

و روي أيضا عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن امرأة سألت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن [أبيها] [6] مات ولم يحج قال: «حجي عن [أبيك]» [7].

و روي أيضا عنه قال: قال رجل: يا رسول اللّه إن أبي مات ولم يحج أ فأحج عنه؟ قال: «أ رأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه»؟ قال: نعم، قال: «فدين اللّه أحق» [8]. وأجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمته ولو كان من أجنبي أو من غير تركته، وقد دل عليه حديث أبي قتادة حيث ضمن الدينارين عن الميت، فلما قضاهما قال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «الآن بردت جلدته».

و أجمعوا على أن الحي إذا كان له في ذمة الميت حق من الحقوق فأحله منه أن ينفعه ويبرأ منه كما يسقط من ذمة الحي. فإذا سقط من ذمة الحي بالنص والإجماع على إمكانه أدائه؟؟؟؟؟ نفسه ولو لم يرض به بل رده، فسقوطه من ذمة الميت بالإبراء حيث لا يتمكن من أدائه أولى وأحرى، وإذا انتفع بالإبراء والإسقاط فكذلك ينتفع بالهبة والإهداء. ولا فرق بينهما، فإن ثواب العمل حق المهدي الواهب فإذا جعله للميت انتقل إليه، كما أن ما على الميت من الحقوق من الدين وغيره وهو محض حق الحي فإذا أبرأه وصل الابراء إليه وسقط من ذمته فكلاهما حق للحي، فأي نص أو قياس أو قاعدة من قواعد الشرع يوجب وصول أحدهما ويمنع وصول الآخر.

هذه النصوص متظاهرة على وصول ثواب الأعمال إلى الميت إذا فعلها الحي عنه، وهذا محض القياس، فإن الثواب حق للعامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك، كما لم يمنع من هبة ماله في حياته وإبرائه له من بعد موته.

و قد نبه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بوصول ثواب الصوم الذي هو مجرد ترك ونية تقوم بالقلب لا يطلع عليه إلا اللّه وليس بعمل الجوارح، وعلى وصول ثواب القراءة التي هي عمل باللسان تسمعه الأذن وتراه العين بطريق الأولى.

و يوضحه أن الصوم نية محضة وكف النفس عن المفطرات، وقد أوصل اللّه ثوابه إلى الميت، فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية بل لا تفتقر إلى النية، فوصول ثواب الصوم إلى الميت فيه تنبيه على وصول سائر الأعمال.

و العبادات قسمان: مالية، وبدنية. وقد نبّه الشارع بوصول ثواب الصدقة على وصول ثواب سائر العبادات المالية، ونبه بوصول ثواب الصوم على وصول سائر العبادات البدنية، وأخبر بوصول ثواب الحج المركب من المالية والبدنية، فالأنواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار وباللّه التوفيق.

أدلة المانعين:

قال المانعون من الوصول قال اللّه تعالى: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَـٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ  ٣٩﴾ [النجم:39] وقال: ﴿وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [يس:54] وقال: ﴿هَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة:286]. وقد ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعد [9]. فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب إليه في الحياة وما لم يكن قد تسبب إليه فهو منقطع عنه. و أيضا فحديث أبي هريرة رضي اللّه عنه المتقدم وهو قوله: «إن مما يلحق الميت من عمله وحسناته بعد موته علما نشره». فالحديث يدل على أنه إنما ينتفع بما كان قد تسبب فيه.

و كذلك حديث أنس يرفعه: «سبع يجري على العبد أجرهم وهو في قبره بعد موته: من علّم علما، أو أكرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا صالحا يستغفر له بعد موته».

و هذا يدل على أن ما عدا ذلك لا يحصل له منه ثواب وإلا لم يكن لحصر معنى.

قالوا: والإهداء حوالة، والحوالة إنما تكون بحق لازم، والأعمال لا توجب الثواب، وإنما هو مجرد تفضل اللّه وإحسانه، فكيف يحيل العبد على مجرد الفضل الذي لا يجب على اللّه، بل إن شاء آتاه وإن لم يشأ لم يؤته، وهو نظير حوالة الفقير على من يرجو أن يتصدق عليه، ومثل هذا لا يصح إهداؤه وهبته، كصلة ترجى من ملك لا يتحقق حصولها.

قالوا: وأيضا فالإيثار بأسباب الثواب مكروه، وهو الإيثار بالقرب، فكيف الإيثار بنفس الثواب الذي هو غاية، فإذا كره الإيثار بالوسيلة فالغاية أولى وأحرى.

و كذلك كره الإمام أحمد التأخر عن الصف الأول، وإيثار القبر به، لما فيه من الرغبة عن سبب الثواب، قال أحمد في رواية حنبل: وقد سئل عن الرجل يتأخر عن الصف الأول ويقدم أباه في موضعه قال: ما يعجبني، يقدر أن يبر أباه بغير هذا.

(قالوا) وأيضا لو ساغ الإهداء إلى الميت لساغ نقل الثواب والإهداء إلى الحي. وأيضا لو ساغ ذلك لساغ لهذا نصف الثواب وربعه وقيراط منه.

و أيضا لو ساغ ذلك لساغ إهداؤه بعد أن يعمله لنفسه، وقد قلتم: إنه لا بد أن ينوي حال الفعل إهداءه إلى الميت، وإلا لم يصل إليه، فإذا ساغ له نقل الثواب فأي فرق بين أن ينوي قبل الفعل أو بعده.

و أيضا لو ساغ الإهداء أساغ إهداء ثواب الواجبات على الحي، كما يسوغ إهداء ثواب التطوعات التي يتطوع بها.

قالوا: وإن التكاليف امتحان وابتلاء لا تقبل البدل، فإن المقصود منها عين المكلف العامل المأمور المنهي، فلا يبدل المكلف الممتحن بغيره، ولا ينوب غيره في ذلك، إذ المقصود طاعته هو نفسه وعبوديته، ولو كان ينتفع بإهداء غيره له من غير عمل منه لكان أكرم الأكرمين أولى بذلك، وقد حكم سبحانه أنه لا ينتفع إلا بسبعة وهذه سنته تعالى في خلقه وقضاؤه كما هي سنته في أمره وشرعه، فإن المريض لا ينوب عنه غيره في شراب الدواء، والجائع والظمآن والعاري لا ينوب عنه غيره في الأكل والشرب واللباس، قالوا: ولو نفعه عمل غيره لنفعه توبته عنه.

قالوا: ولهذا لا يقبل اللّه إسلام أحد عن أحد ولا صرته عن صرته فإذا كان رأس العبادات لا يصح إهداء ثوابه فكيف فروعها.

قال: وأما الدعاء فهو سؤال ورغبة إلى اللّه أن يتفضل على الميت ويسامحه ويعفو عنه، وهذا إهداء ثواب عمل الحي إليه.

قال المقتصرون على وصول العبادات التي تدخلها النيابة كالصدقة والحج والعبادات نوعان:

نوع لا تدخله النيابة بحال، كالإسلام والصلاة وقراءة القرآن والصيام، فهذا النوع يختص ثوابه بفاعله لا يتعداه ولا ينقل عنه، كما أنه في الحياة لا يفعله أحد عن أحد، ولا ينوب فيه عن فاعله غيره.

و نوع تدخله النيابة كرد الودائع وأداء الديون وإخراج الصدقة والحج، فهذا يصل ثوابه إلى الميت، لأنه يقبل النيابة ويفعله العبد عن غيره في حياته، فبعد موته بالطريق الأولى والأخرى.

قالوا: وأما حديث من مات وعليه صيام صام عنه وليه. فجوابه من وجوه:

أحدهما: ما قاله مالك في موطئه قال: لا يصوم أحد عن أحد، قال: وهو أمر مجمع عليه عندنا لا خلاف فيه.

الثاني: إن ابن عباس رضي اللّه عنهما هو الذي روى حديث الصوم عن الميت، وقد روى عنه النسائي:

(أخبرنا) محمد بن عبد الأعلى، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حجاج الأحوال، حدثنا أيوب بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: «لا يصلي أحد عن أحد».

الثالث: أنه حديث اختلف في إسناده هكذا قال صاحب المفهم في شرح مسلم.

الرابع: أنه معارض بنص القرآن كما تقدم من قوله تعالى: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَـٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ  ٣٩﴾ [النجم:39].

الخامس: أنه معارض بما رواه النسائي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة».

السادس: أنه معارض بحديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من مات وعليه صوم رمضان يطعم عنه».

السابع: أنه معارض بالقياس الجلي عن الصلاة والإسلام والتوبة فإن أحدا لا يفعلها عن أحد.

قال الشافعي فيما تكلم به على خبر ابن عباس لم يسم ابن عباس: ما كان نذر أم سعد، فاحتمل أن يكون نذر حج أو عمرة أو صدقة فأمره بقضائه عنها، فأما من نذر صلاة أو صياما ثم مات فإنه يكفر عنه في الصوم ولا يصام عنه ولا يصلى عنه ولا يكفر عنه في الصلاة ثم قال: فإن قيل أ فروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه أمر أحدا أن يصوم عن أحد؟ قيل: نعم، روى ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم. فإن قيل: فلم لا تأخذ به؟ قيل:

حديث الزهري عن عبيد اللّه عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نذرا ولم يسمه مع حفظ الزهري وطول مجالسة عبيد اللّه لابن عباس، فلما جاء غيره عن رجل عن ابن عباس بغير ما في حديث عبيد اللّه أشبه أن لا يكون محفوظا.

فإن قيل: فتعرف الرجل الذي جاء بهذا الحديث، فغلط عن ابن عباس، قيل نعم: روى أصحاب ابن عباس عن ابن عباس أنه قال لابن الزبير: أن الزبير حل من متعة الحج، فروى هذا عن ابن عباس أنها متعة للنساء، وهذا غلط فاحش.

فهذا الجواب عن فعل الصوم. وأما فعل الحج فإنما يصل منه ثواب الإنفاق، وأما أفعال المناسك فهي كأفعال الصلاة إنما تقع فاعلها.

(قال) أصحاب الوصول: ليس في شي ء مما ذكرتم ما يعارض أدلة الكتاب والسنّة، واتفاق سلف الأمة، ومقتضى قواعد الشرح، ونحن نجيب عن كل ما ذكرتموه بالعدل والإنصاف.

أما قوله تعالى: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَـٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ  ٣٩﴾ [النجم:39] فقد اختلفت طرق الناس في المراد بالآية. فقالت طائفة المراد بالإنسان هاهنا الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له بالأدلة التي ذكرناها. قالوا وغاية ما في هذا التخصيص وهو جائز إذ دل عليه الدليل.

و هذا الجواب ضعيف جدا ومثل هذا العام لا يراد به الكافر وحده بل هو المسلم والكافر وهو كالعام الذي قبله وهو قوله تعالى ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾ [فاطر:18]. و السياق كله من أوله إلى آخره كالصريح في إرادة العموم لقوله تعالى:

﴿وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ  ٤٠ ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَاۤءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ  ٤١﴾ [النجم:40–41] وهذا يعم الشر والخير قطعا، ويتناول البر والفاجر، والمؤمن والكافر، كقوله تعالى: ﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرا يَرَهُۥ  ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةشَرࣰّا يَرَهُۥ  ٨﴾ [الزلزلة:7–8] وكقوله في الحديث الإلهي: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» وهو كقوله تعالى:﴿يَـٰۤأَيُّهَا ٱلۡإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحا فَمُلَـٰقِيهِ  ٦﴾ [الانشقاق:6] ولا تغتر بقول كثير من المفسرين في لفظ الإنسان في القرآن، الإنسان هاهنا أبو جهل، والإنسان هاهنا عقبة ابن أبي معيط، والإنسان هاهنا الوليد بن المغيرة، فالقرآن أجل من ذلك، بل الإنسان هو الإنسان من حيث هو من غير اختصاص بواحد بعينه، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَفِی خُسۡرٍ  ٢﴾ [العصر:2] و﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُود  ٦﴾ [العاديات:6] و﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا  ١٩﴾ [المعارج:19] و﴿كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَيَطۡغَىٰۤ  ٦ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ  ٧﴾ [العلق:6–7] و﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم:34] و﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب:72] فهذا شأن الإنسان من حيث ذاته ونفسه، وخروجه عن هذه الصفات بفضل ربه وتوفيقه له ومنته عليه، لا من ذاته، فليس له من ذاته إلا هذه الصفات، وما به من نعمة فمن اللّه وحده، فهو الذي حبب إلى عبده الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، وهو الذي كتب في قلبه الإيمان، وهو الذي يثبت أنبيائه ورسله وأولياءه على دينه، وهو الذي يصرف عنهم السوء والفحشاء. وكان يرتجز بين يدي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:

واللّه لو لا اللّه ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا[10]

و قد قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [يونس:100] وقال تعالى ﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [المدثر:56]. ﴿وَمَا تَشَاۤءُونَ إِلَّاۤ أَن يَشَاۤءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِينَ  ٢٩﴾ [التكوير:29] فهو رب جميع العالم ربوبية شاملة لجميع ما في العالم من ذوات وأفعال وأحوال.

و قالت طائفة: الآية إخبار بشرع من قبلنا، وقد دل شرعنا على أنه له ما سعى وما سعى له، وهذا أيضا أضعف من الأول أو من جنسه، فإن اللّه سبحانه أخبر بذلك إخبار مقرر له محتج به، لا إخبار مبطل له، ولهذا قال ﴿أَمۡ لَمۡ يُنَبَّأۡ بِمَا فِی صُحُفِ مُوسَىٰ  ٣٦﴾ [النجم:36] فلو كان هذا باطلا في هذه الشريعة يخبر به إخبار مقرر له محتج به.

و قالت طائفة: اللام بمعنى على، أي: وليس على الإنسان إلا ما سعى.

و هذا أبطل من القولين الأولين، فإنه قلب موضوع الكلام إلى ضد معناه المفهوم منه، ولا يسوغ مثل هذا ولا تحتمله اللغة، وأما نحو: (و لهم اللعنة) فهي على بابها، أي نصيبهم وحظهم وأما أن العرب تعرف في لغاتها: لي درهم بمعنى علي درهم فكلا.

و قالت طائفة في الكلام حذف تقديره: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَـٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ  ٣٩﴾ [النجم:39] أو سعى له وهذا أيضا من النمط الأول، فإنه حذف ما لا يدل السياق عليه بوجه وقول على اللّه وكتابه بلا علم.

و قالت طائفة أخرى: الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور:21] وهذا منقول عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، وهذا ضعيف أيضا، ولا يرفع حكم الآية بمجرد قول ابن عباس رضي اللّه عنهما ولا غيره أنها منسوخة، والجمع بين الآيتين غير متعذر ولا ممتنع، فإن الأبناء تبعوا الآباء في الآخرة كما كانوا تبعا لهم في الدنيا، وهذه التبعية هي من كرامة الآباء وثوابهم الذي نالوه بسعيهم، وأما كون الأبناء لحقوا بهم في الدرجة بلا سعي منهم، فهذا ليس هو لهم، وإنما هو للآباء، أقر اللّه أعينهم بإلحاق ذريتهم بهم في الجنة، وتفضل على الأبناء بشي ء لم يكن لهم، كما تفضل بذلك على الولدان، والحور العين، والخلق الذين ينشئهم للجنة بغير أعمال، والقوم الذين يدخلهم الجنة بلا خير قدموه ولا عمل عملوه، فقوله تعالى: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةوِزۡرَ أُخۡرَىٰ  ٣٨﴾ [النجم:38] وقوله: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَـٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ  ٣٩﴾ [النجم:39] آيتان محكمتان يقتضيهما عدل الرب تعالى وحكمته وكماله المقدس، والعقل والفطرة شاهدان بهما، فالأول يقتضي أنه لا يعاقب بجرم غيره، والثانية يقتضي أنه لا يفلح إلا بعمله وسعيه، فالأولى تؤمن العبد من أخذه بجريرة غيره كما يفعله ملوك الدنيا، والثانية تقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب، فتأمل حسن اجتماع هاتين الآيتين.

و نظيره قوله تعالى: ﴿مَّنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِی لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةوِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولا  ١٥﴾ [الإسراء:15] فحكم سبحانه لأعدائه بأربعة أحكام هي غاية العدل والحكمة:

أحدها: إن هدى العباد بالإيمان والعمل الصالح لنفسه لا لغيره.

الثاني: إن ضلاله بفوات ذلك وتخلفه عنه على نفسه لا على غيره.

الثالث: أن أحدا لا يؤاخذ بجريرة غيره [11].

الرابع: أنه لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه برسله، فتأمل ما في ضمن هذه الأحكام الأربعة من حكمته تعالى وعدله وفضله، والرد على أهل الغرور والأطماع الكاذبة، وعلى أهل الجهل باللّه وأسمائه وصفاته.

قالت طائفة أخرى: المراد بالإنسان هاهنا الحي دون الميت، وهذا أيضا من النمط الأول في الفساد.

و هذا كله من سوء التصرف في اللفظ العام، وصاحب هذا التصرف لا ينقذ تصرفه في دلالات الألفاظ وحملها على خلاف موضوعها، وما يتبادر إلى الذهن منها، وهو تصرف فاسد قطعا يبطله السياق والاعتبار وقواعد الشرع وأدلته وعرفه، وسبب هذا التصرف السيئ أن صاحبه يعتقد قولا ثم يرد كلما دل على خلافه بأي طريق اتفقت له، فالأدلة المخالفة لما اعتقده عنده من باب الصائل لا يبالي بأي شي ء دفعه، وأدلة الحق لا تتعارض ولا تتناقض بل يصدق بعضها بعضا.

و قالت طائفة أخرى: وهو جواب أبي الوفاء بن عقيل قال: الجواب الجيد عندي أن يقال: الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير، وتودد إلى الناس، فترحموا عليه وأهدوا له العبادات، وكان كذلك أثر سعيه، كما قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه». ويدل عليه قوله في الحديث الآخر:

«إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به من بعده، وصدقة جارية عليه، أو ولد صالح يدعو له».

و من هنا قول الشافعي: إذا بذل له ولده طاعة الحج كان ذلك سببا لوجوب الحج عليه، حتى كأنه في ماله زاد وراحلة، بخلاف بذل الأجنبي.

و هذا جواب متوسط يحتاج إلى تمام، فإن العبد بإيمانه وطاعته للّه ورسوله قد سعى في انتفاعه بعمل إخوانه المؤمنين من عمله، كما ينتفع بعملهم في الحياة مع عمله، فإن المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها، كالصلاة في جماعة، فإن كل واحد منهم تضاعف صلاته إلى سبعة وعشرين ضعفا لمشاركة غيره له في الصلاة، فعمل غيره كان سببا لزيادة أجره، كما أن عمله سبب لزيادة أجر الآخر، بل قد قيل: إن الصلاة يضاعف ثوابها بعود المصلين، وكذلك اشتراكهم في الجهاد والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وقد قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه [12]. ومعلوم أن هذا بأمور الدين أولى منه بأمور الدنيا، فدخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم. وقد أخبر اللّه سبحانه عن حملة العرش ومن حوله أنهم يستغفرون للمؤمنين ويدعون لهم. وأخبر عن دعاء رسله واستغفارهم للمؤمنين كنوح وإبراهيم ومحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ..

فالعبد بإيمانه قد تسبب إلى وصول هذا الدعاء إليه فكأنه من سعيه. يوضحه أن اللّه سبحانه جعل الإيمان سببا لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم، فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه، وقد دل على ذلك قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعمرو بن العاص: «إن أباك لو كان أقر بالتوحيد نفعه ذلك» يعني العتق الذي فعل عنه بعد موته. فلو أتى بالسبب لكان قد سعى في عمل يوصل إليه ثواب العتق. وهذه طريقة لطيفة حسنة جدا.

و قالت طائفة أخرى: القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى، فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره، وإن شاء أن يبقيه لنفسه، وهو سبحانه لم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى، وكان شيخنا يختار هذه الطريقة ويرجحها.

هامش

أخرج البخاري في كتاب الإيمان والنذور باب من مات وعليه نذر (7/ 233) قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة عن أبي بشر قال: سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: أتى رجل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال له: إن أختي نذرت أن تحج وأنها ماتت؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟» قال: نعم، قال: «فاقض اللّه فهو أحق بالقضاء».

ساقطة من المطبوع.

وردت في المطبوع: سألت.

ساقطة من المطبوع.

أخرجه النسائي في باب الحج عن الميت الذي لم يحج (5/ 116).

وردت في المطبوع: ابنها والتصحيح من النسائي.

وردت في المطبوع: ابنك والتصحيح من النسائي. والحديث أخرجه النسائي في باب الحج عن الميت الذي لم يحج (5/ 116).

أخرجه النسائي في باب قضاء الحج بقضاء الدين (5/ 118).

أخرجه مسلم في كتاب الوصية باب ما يخلف الإنسان من الثواب بعد وفاته وأخرجه أبو داود في كتاب الوصايا باب ما جاء في الصدقة على الميت برقم 2880 وأخرجه الترمذي في كتاب الأحكام باب في الوقف برقم 1376.

قال الخطابي في معالم السنن عن هذا الحديث قال: فيه دليل على أن الصوم والصلاة وما دخل في معناهما من عمل الأبدان لا تجري فيها النيابة، وقد يستدل به من يذهب إلى أن من حج عن ميت فإن الحج في الحقيقة يكون للحاج دون المحجوج عنه، وإنما يلحقه الدعاء ويكون له الأجر في المال الذي أعطي إن كان حج عنه بمال.

أخرج أبو نعيم في الدلائل عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ينقل معنا التراب يوم الأحزاب وقد وارى التراب بياض بطنه وهو يقول:

اللهم لو لا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا

و رفع صوته: أبينا، أبينا.

انظر دلائل النبوة (3/ 413).

أي لا يؤاخذ أي إنسان بما فعله غيره، لأن كل إنسان مؤاخذ بما يفعله هو: وكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ.

أخرجه البخاري في كتاب المظالم باب نصر المظلوم، وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، وأخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم.

==

فصل نفي عقوبة العبد بعمل غيره

و كذلك قوله تعالى ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة:286] وقوله ﴿وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [يس:54] على أن هذه الآية أصرح في الدلالة على أن سياقها إنما ينفي عقوبة العبد بعمل غيره وأخذه بجريرته، فإن اللّه سبحانه قال ﴿فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسشَيۡـࣰٔا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ  ٥٤﴾ [يس:54] فنفى أن يظلم بأن يزاد عليه في سيئاته أو ينقص من حسناته أو يعاقب بعمل غيره، ولم ينف أن ينتف بعمل غيره، ولا على وجه الجزاء، فإن انتفاعه بما يهدي إليه ليس جزاء على عمله، وإنما هي صدقة تصدق اللّه بها عليه وتفضل بها عليه من غير سعي منه، بل وهبه ذلك على يد بعض عباده لا على وجه الجزاء.

=======

فصل الرد على الاستدلال بانقطاع العمل

وأما استدلالكم بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا مات العبد انقطع عمله» فاستدلال ساقط، فإنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يقل: انقطع انتفاعه، وإنما أخبر عن انقطاع عمله، وأما عمل غيره فهو لعامله، فإن وهبه له فقد وصل إليه ثواب عمل العامل لا ثواب عمله، فالمنقطع شي ء والواصل إليه شي ء آخر، وكذلك الحديث الآخر وهو قوله: «إن مما يلحق الميت من حسناته وعمله» فلا ينفي أن يلحقه غير ذلك من عمل غيره وحسناته.

=====

فصل الرد على أن الإهداء حوالة

وأما قولكم الإهداء حوالة، والحوالة إنما تكون بحق لازم، فهذه حوالة المخلوق على المخلوق.

وأما حوالة المخلوق على الخالق فأمر آخر لا يصح قياسها على حوالة العبيد بعضهم على بعض، وهل هذا إلا من أبطل القياس وأفسده، والذي يبطله إجماع الأمة على انتفاعه بأداء دينه وما عليه من الحقوق، وإبراء المستحق لذمته والصدقة والحج عنه، والنص الذي لا سبيل إلى رده ودفعه، وكذلك الصوم، وهذه الأقيسة الفاسدة لا تعارض نصوص الشرع وقواعده.

=====

فصل الرد على من قال أن الإيثار مكروه

وأما قولكم الإيثار بسبب الثواب مكروه وهو مسألة للإيثار بالقرب، فكيف الإيثار بنفس الثواب الذي هو الغاية، فقد أجيب عنه بأجوبة:

أحدها: إن حال الحياة حال لا يوثق فيها بسلامة العاقبة، لجواز أن يرتد الحي، فيكون قد آثر بالقربة غير أهلها، وهذا قد آمن بالموت.

فإن قيل: والمهدى إليه أيضا، قد لا يكون مات على الإسلام باطنا فلا ينتفع بما يهدي إليه، وهذا سؤال في غاية البطلان، فإن الإهداء له من جنس الصلاة عليه، والاستغفار له، والدعاء له، فإن كان أهلا وإلا انتفع به الداعي وحده.

الجواب الثاني: إن الإيثار بالقرب يدل على قلة الرغبة فيها، والتأخر عن فعلها، فلو ساغ الإيثار بها لأفضى إلى التقاعد والتكاسل والتأخر، بخلاف إهداء ثوابها فإن العامل يحرص عليها لأجل ثوابها لينتفع به أو ينفع به أخاه المسلم فبينهما فرق ظاهر.

الجواب الثالث: إن اللّه سبحانه يحب المبادرة والمسارعة إلى خدمته والتنافس فيها، فإن ذلك أبلغ في العبودية، فإن الملوك تحب المسارعة والمنافسة في طاعتها وخدمتها، فالإيثار بذلك مناف لمقصود العبودية، فإن اللّه سبحانه أمر عبده بهذه القربة إما إيجابا وإما استحبابا، فإذا آثر بها ترك ما أمره وولاه غيره، بخلاف ما إذا فعل ما أمر به طاعة وقربة ثم أرسل ثوابه إلى أخيه المسلم وقد قال تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد:21] وقال: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة:148] ومعلوم أن الإيثار بها ينافي الاستباق إليها والمسارعة.

و قد كان الصحابة يسابق بعضهم بعضا بالقرب، ولا يؤثر الرجل منهم غيره بها، قال عمر: واللّه ما سابقني أبو بكر إلى خير إلا سبقني إليه- حتى قال: واللّه لا أسابقك إلى خير أبدا.

و قد قال تعالى: ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين:26] يقال: نافست في الشي ء منافسة ونفاسا إذا رغبت فيه على وجه المباراة، ومن هذا قولهم شي ء نفيس أي: هو أهل أن ينافس فيه ويرغب فيه، وهذا أنفس ما لي أي أحبه إلي، وأنفسني فلان في كذا، أي أرغبني فيه، وهذا كله ضد الإيثار به والرغبة عنه.

====

فصل الرد على أنه لو ساغ الإهداء للميت لجاز للحي

وأما قولكم لو ساغ الإهداء إلى الميت لساغ إلى الحي فجوابه من وجهين!

أحدهما: أنه قد ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، قال القاضي: وكلام أحمد لا يقتضي التخصيص بالميت، فإنه قال يفعل الخير ويجعل نصفه لأبيه وأمه لم يفرق. واعترض عليه أبو الوفاء بن عقيل وقال: هذا فيه بعد، وهو تلاعب بالشرع، وتصرف في أمانة اللّه، وإسجال على اللّه سبحانه بثواب على عمل يفعله إلى غيره، وبعد الموت قد جعل لنا طريقا إلى إيصال النفع كالاستغفار والصلاة على الميت.

ثم أورد على نفسه سؤالا وهو فإن قيل: أ ليس قضاء الدين وتحمل الكل حال الحياة كقضائه بعد الموت فقد استوى ضمان الحياة وضمان الموت في أنهما يزيلان المطالبة عنه، فإذا وصل قضاء الديون بعد الموت وحال الحياة فاجعلوا ثواب الإهداء واصلا حال الحياة بعد الموت.

و أجاب عنه بأنه: لو صح هذا وجب أن تكون الذنوب تكفر عن الحي بتوبة غيره عنه ويندفع عنه مآثم الآخرة بعمل غيره واستغفاره.

قلت: وهذا لا يلزم بل طرد لك انتفاع الحي بدعاء غيره له، واستغفاره له، وتصدقه عنه، وقضاء ديونه، وهذا حق، وقد أذن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في أداء فريضة الحج عن الحي المعضوب والعاجز وهما حيان.

و قد أجاب غيره من الأصحاب بأن حال الحياة لا نثق بسلامة العاقبة خوفا أن يرتد المهدى له فلا ينتفع بما يهدى إليه.

قال ابن عقيل: وهذا عذر باطل بإهداء الحي فإنه لا يؤمن أن يرتد ويموت فيحبط عمله كله ومن جملته ثواب ما أهدي إلى الميت.

قلت: هذا لا يلزمهم، وموارد النص والإجماع تبطله وترده، فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أذن في الحج والصوم عن الميت، وأجمع الناس على براءة ذمته من الدين إذا قضاه عنه الحي مع وجود ما ذكر من الاحتمال.

و الجواب أن يقال: ما أهداه من أعمال البر إلى الميت فقد صار ملكا له، فلا يبطل بردة فاعله بعد خروجه عن ملكه، كالتصرفات التي تصرفها قبل الردة من عتق وكفارة، بل لو حج عن معضوب ثم ارتد بعد ذلك لم يلزم المعضوب أن يقيم غيره بحج، فإنه لا يؤمن في الثاني والثالث ذلك.

على أن الفرق بين الحي والميت أن الحي ليس بمحتاج كحاجة الميت إذ يمكنه إن يباشر ذلك العمل أو نظيره، فعليه اكتساب الثواب بنفسه وسعيه بخلاف الميت.

و أيضا فإنه يقضي إلى اتكال بعض الأحياء على بعض، وهذه مفسدة كبيرة، فإن أرباب الأموال إذا فهموا ذلك واستشعروه استأجروا من يفعل ذلك عنهم، فتصير الطاعات معاوضات، وذلك يفضي إلى إسقاط العبادات والنوافل، ويصير ما يتقربه به إلى اللّه يتقرب به إلى الآدميين، فيخرج عن الإخلاص، فلا يحصل الثواب لواحد منهما.

و نحن نمنع من أخذ الأجرة عن كل قربة، ونحبط بأخذ الأجر عليها كالقضاء، والفتيا، وتعليم العلم، والصلاة، وقراءة القرآن وغيرها، فلا يثبت اللّه عليها إلا المخلص الذي أخلص العمل لوجهه، فإذا فعله للأجرة لم يثب عليه الفاعل ولا المستأجر، فلا يليق بمحاسن الشرع أن تجعل العبادات الخالصة له معاملات يقصد بها المعاوضات والأكساب والدنيوية. وفارق قضاء الديون وضمانها فإنها حقوق الآدميين ينوب بعضهم فيها عن بعض، فلذلك جازت في الحياة وبعد الموت.

====

فصل هل يسوغ إهداء نصف الثواب أو ربعه

و أما قولكم لو ساغ ذلك لساغ إهداء نصف الثواب وربعه إلى الميت فالواجب من وجهين:

أحدهما: منع الملازمة فإنكم لم تذكروا عليها دليلا إلا مجرد الدعوى.

الثاني: التزام ذلك والقول به نص عليه للإمام أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال، ووجه هذا أن الثواب ملك له، فله أن يهديه جميعه، وله أن يهدي بعضه. ويوضحه أنه لو أهداه إلى أربعة مثلا يحصل لكل منهم ربعه، فإذا أهدى الربع وأبقى لنفسه الباقي جاز كما لو أهداه إلى غيره.

فصل

و أما قولكم لو ساغ ذلك لساغ إهداؤه بعد أن يعمله لنفسه وقد قلتم أنه لا بد أن ينوي حال الفعل إهداؤه إلى الميت وإلا لم يصل.

فالجواب: إن هذه المسألة غير منصوصة عن أحمد ولا هذا الشرط في كلام المتقدمين من أصحابه وإنما ذكره المتأخرون كالقاضي وأتباعه.

قال ابن عقيل: إذا فعل طاعة من صلاة وصيام وقراءة قرآن وأهداها بأن يجعل ثوابها للميت المسلم فإنه يصل إليه ذلك وينفعه بشرط أن يتقدم نية الهدية على الطاعة أو تقارنها.

و قال أبو عبد اللّه بن حمدان في رعايته ومن تطوع بقربة من صدقة وصلاة وصيام وحج وعمرة وقراءة وعتق وغير ذلك من عبادة بدنية تدخلها النيابة وعبادة مالية وجعل جميع ثوابها أو بعضه لميت مسلم، حتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ودعا له أو استغفر له أو قضى ما عليه من حق شرعي، أو واجب تدخله النيابة نفعه ذلك ووصل إليه أجره، وقيل إن نواه حال فعله أو قبله وصل إليه وإلا فلا.

و سر المسألة أن أوان شرط حصول الثواب أن يقع لمن أهدي له أولا ويجوز أن يقع العامل ثم ينتقل عنه إلى غيره، فمن شرط أن ينوي قبل الفعل أو الفراغ منه وصوله، قال: لو لم ينوه وقع الثواب للعامل فلا يقبل انتقاله عنه إلى غيره فإن الثواب يترتب على العمل ترتب أثر على مؤثرة، ولهذا لو أعتق عبدا عن نفسه كان ولاؤه له، فلو نقل ولاؤه إلى غيره بعد العتق لم ينتقل، بخلاف ما لو أعتقه عن الغير فإن ولاءه يكون للمعتق عنه، وكذلك لو أدى دينا عن نفسه ثم أراد بعد الأداء أن يجعله عن غيره لم يكن له ذلك، وكذلك لو حج أو صام أو صلى لنفسه ثم بعد ذلك أراد أن يجعل ذلك عن غيره لم يملك ذلك، ويؤيد هذا أن الذين سألوا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ذلك لم يسألوه عن إهداء ثواب العمل بعده، وإنما سألوه عما يفعلونه عن الميت، كما قال سعيد: أ ينفعها إن تصدق عنها؟ ولم يقل أن أهدي لها ثواب ما تصدقت به عن نفسي، وكذلك قول المرأة الأخرى: أ فأحج عنها؟ وقول الرجل الآخر: أ فأحج عن أبي؟ فأجابهم بالإذن في الفعل عن الميت لا بإهداء ثواب ما عملوه لأنفسهم إلى موتاهم، فهذا لا يعرف أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم سئل عنه قط، ولا يعرف عن أحد من الصحابة أنه فعله وقال: اللهم أجعل لفلان ثواب عملي أو ثواب ما عملته لنفسي.

فهذا سر الاشتراط وهو أفقه، ومن لم يشترط ذلك يقول: الثواب للعامل، فإذا تبرع به وأهداه إلى غيره كان بمنزلة ما يهديه إليه من ماله.

=======

فصل الرد على جواز إهداء ثواب الواجبات

وأما قولكم لو ساغ الإهداء لساغ إهداء ثواب الواجبات التي تجب على الحي، فالجواب أن هذا الإلزام محال على أصل من شرط في الوصول نية الفعل عن الميت، فإن الواجب لا يصح أن يفعله عن الغير، فإن هذا واجب على الفاعل يجب عليه أن ينوي به القربة إلى اللّه.

و أما من لم يشترط نية الفعل عن الغير، فهل يسوغ عنده أن يجعل للميت ثواب فرض من فروضه؟ فيه وجهان قال أبو عبد اللّه بن حمدان، وقيل: إن جعل له ثواب فرض من الصلاة أو صوم وغيرهما جاز وأجزأ فاعله.

قلت: وقد نقل عن جماعة أنهم جعلوا ثواب أعمالهم من فرض ونقل للمسلمين وقالوا: نلقى اللّه بالفقر والإفلاس المجرد والشريعة لا تمنع من ذلك، فالأجر ملك العامل، فإن شاء اللّه أن يجعله لغيره فلا حجر عليه في ذلك واللّه أعلم.

======

فصل الرد على القول أن التكاليف امتحان وابتلاء

وأما قولكم إن التكاليف امتحان وابتلاء لا تقبل البدن إذ المقصود منها عين المكلف العامل إلى آخره.

فالجواب عنه أن ذلك لا يمنع إذن الشارع للمسلم أن ينفع أخاه بشي ء من عمله، بل هذا من تمام إحسان الرب ورحمته لعباده، ومن كمال هذه الشريعة التي شرعها لهم التي مبناها على العدل والإحسان والتعارف، والرب تعالى أقام ملائكته وحملة عرشه يدعون لعباده المؤمنين ويستغفرون لهم ويسألونه لهم أن يقيهم السيئات، وأمر خاتم رسله أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات ويقيمه يوم القيامة مقاما محمودا ليشفع في العصاة من أتباعه وأهل سنته، وقد أمره تعالى أن يصلي على أصحابه في حياتهم وبعد مماتهم، وكان يقوم على قبورهم فيدعو لهم.

و قد استقرت الشريعة على أن المأثم الذي على الجميع بترك فروض الكفايات يسقط إذا فعله من يحصل المقصود بفعله ولو واحد. وأسقط سبحانه الارتهان وحرارة الجلود في القبر بضمان الحي دين الميت وأدائه عنه، وإن كان ذلك الوجوب امتحانا في حق المكلف، وأذن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحج والصيام عن الميت، وإن كان الوجوب امتحانا في حقه. وأسقط عن المأموم سجود السهو بصحة صلاة الإمام وخلوها من السهو، وقراءة الفاتحة بتحمل الإمام لها، فهو يتحمل عن المأموم سهوه وقراءته وسترته لقراءة الإمام وسترته قراءة لمن خلفه وسترة له، وهل الإحسان إلى المكلف بإهداء الثواب إليه إلا تأس بإحسان الرب تعالى واللّه يحب المحسنين.

و الخلق عباد اللّه، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله، وإذ كان سبحانه يحب من ينفع عياله بشربة ماء ومذقة لبن وكسرة خبز فكيف من ينفعهم في حال ضعفهم وفقرهم وانقطاع أعمالهم وحاجتهم إلى شي ء يهدى إليهم وأحوج ما كانوا إليه، فأحب الخلق إلى اللّه ما ينفع عياله في هذه الحال.

و لهذا جاء أثر عن بعض السلف أنه من قال كل يوم سبعين مرة: رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات حصل له من الأجر بعدد كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة، ولا تستبعد هذا فإنه إذا استغفر لإخوانه فقد أحسن إليهم واللّه لا يضيع أجر المحسنين.

======

فصل الرد على القول بأنه لو نفعه العمل لنفعته التوبة

وأما قولكم إنه لو نفعه عمل غيره لنفعه توبته عنه وإسلامه عنه.

فهذه الشبهة تورد على صورتين:

صورة تلازم يدعى فيها اللزوم بين الأمرين، ثم يبين انتفاء اللازم فينتفي ملزومه، وصورتها هكذا: لو نفعه عمل الغير عنه إسلامه وتوبته عنه لكن لا ينفعه ذلك فلا ينفعه عمل الغير.

والصورة الثانية: أن يقال: لا ينتفع بإسلام الغير وتوبته عنه فلا ينتفع بصلاته وصيامه وقراءته عنه.

و معلوم أن هذا التلازم والإقران باطل قطعا.

أما أولا: فلأنه قياس مصادم لما تظاهرت به النصوص واجتمعت عليه الأمة.

أما ثانيا: فلأنه جمع بين ما فرق اللّه بينه، فإن اللّه سبحانه فرق بين إسلام المرء عن غيره وبين صدقته وحجه وعتقه عنه، فالقياس المسوى بينهما من جنس قياس الذين قاسوا الميتة على المذكى والربا على البيع.

و أما ثالثا: فإن اللّه سبحانه جعل الإسلام سببا لنفع المسلمين بعضهم بعضا في الحياة وبعد الموت، فإذا لم يأت بسبب انتفاعه بعمل المسلمين لم يحصل له ذلك النفع، كما قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعمرو: «إن أباك لو كان أقر بالتوحيد فصمت أو تصدقت عنه نفعه ذلك».

و هذا كما جعل سبحانه الإسلام سببا لانتفاع العبد مما عمل من خير. فإذا فاته هذا السبب لم ينفعه خير عمله ولم يقبل منه، كما جعل الإخلاص والمتابعة سببا لقبول الأعمال، فإذا فقد لم تقبل الأعمال، وكما جعل سائر شروط الصلاة سببا لصحتها، فإذا فقدت فقدت الصحة، وهذا شأن سائر الأسباب مع مسبباتها الشرعية والعقلية والحسية، فمن سوى بين [محالين] [1] وجود السبب وعدمه فهو مبطل.

و نظير هذا الهوس أن يقال: لو قبلت الشفاعة في العصاة لقبلت في المشركين. ولو خرج أهل الكبائر من الموحدين من النار لخرج الكفار منها، وأمثال ذلك من الأقيسة التي هي من نجاسات معد أصحابها ورجيع أفواههم.

و بالجملة: فالأولى بأهل العلم الإعراض عن الاشتغال بدفع هذه الهذيانات لو لا أنهم قد سودوا بهما صحف الأعمال والصحف التي بين الناس.

هامش

وردت في المطبوع: حالين.

=======

فصل الرد على القول بأن العبادات نوعان

وأما قولكم العبادات نوعان: نوع تدخله النيابة فيصل ثواب إهدائه إلى الميت، ونوع لا تدخله فلا يصل ثوابه.

فهذا هو نفس المذهب والدعوى، فكيف تحتجون به، ومن أين لكم هذا الفرق؟ فأي كتاب أم أي سنة، أم أي اعتبار دل عليه حتى يجب المصير إليه.

و قد شرع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الصوم عن الميت مع أن الصوم لا تدخله النيابة وشرع للأمة أن ينوب بعضهم عن بعض في أداء فرض الكفاية، فإذا فعله واحد تاب عن الباقين في فعله وسقط عنهم المأثم، وشرع لقيم الطفل الذي لا يعقل أن ينوب عنه في الإحرام وأفعال المناسك وحكم له بفعل نائبه.

و قد قال أبو حنيفة رحمه اللّه: يحرم الرفقة عن المغمى عليه، فجعلوا إحرام رفقته بمنزلة إحرامه. وجعل الشارع إسلام الأبوين بمنزلة إسلام أطفالهما، وكذلك إسلام السابي والمالك على القول المنصوص، فقد رأيت كيف عدت هذه الشريعة الكاملة أفعال البر من فاعلها إلى غيرهم، فكيف يليق بها أن تحتجر على العبد أن ينفع والديه ورحمة إخوانه من المسلمين في أعظم أوقات حاجاتهم بشي ء من الخير والبر يفعله ويجعل ثوابه لهم، وكيف يتحجر العبد واسعا أو يحجر على من لم يحجر عليه الشارع في ثواب عمله أو يصرف منه ما شاء من المسلمين، والذي أوصل ثواب الحج والصدقة والعتق هو بعينه الذي يوصل ثواب الصيام والصلاة والقراءة والاعتكاف، وهو إسلام المهدى إليه وتبرع المهدي وإحسانه وعدم حجر الشارع عليه في الإحسان، بل ندبه إلى الإحسان بكل طريق، وقد تواطأت رؤيا المؤمنين وتواترت أعظم تواتر على إخبار الأموات لهم بوصول ما يهدونه إليهم من قراءة وصلاة وصدقة وحج وغيره، ولو ذكرنا ما حكي لنا من أهل عصرنا وما بلغنا عمن قبلها من ذلك لطال جدا.

و قال قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر [1]» فاعتبر صلى اللّه عليه وآله وسلم تواطؤ رؤيا المؤمنين وهذا كما يعتبر تواطؤ روايتهم لما شاهدوه، فهم لا يكذبون في روايتهم ولا في رؤياهم إذا تواطأت.

هامش

وفي رواية مسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر» انظر صحيح مسلم باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها (3/ 170).

=====

فصل من مات وعليه صيام

و أما رد حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو قوله: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»، بتلك الوجوه التي ذكرتموها، فنحن ننتصر لحديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ونبين موافقته للصحيح من تلك الوجوه، وأما الباطل فيكفينا بطلانه من معارضته للحديث الصحيح الصريح الذي لا تغمز قناته، ولا سبيل إلى مقابلته إلا بالسمع والطاعة والإذعان والقبول، وليس لنا بعده الخيرة، بل الخيرة وكل الخيرة في التسليم له والقول به ولو خالفه من بين المشرق والمغرب.

فأما قولكم: نرده بقول مالك في موطئه: لا يصوم أحد عن أحد. فمنازعوكم يقولون: بل نرد قول مالك هذا بقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، فأي الفريقين أحق بالصواب وأحسن ردا.

و أما قوله: وهو أمر مجمع عليه عندنا لا خلاف فيه. فمالك رحمه اللّه لم يحك إجماع الأمة من شرق الأرض وغربها، وإنما حكم قول أهل المدينة فيما بلغه، ولم يبلغه خلاف بينهم، وعدم اطلاعه رحمه اللّه على الخلاف في ذلك لا يكون مسقطا لحديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، بل لو أجمع عليه أهل المدينة كلهم لكان الأخذ بحديث المعصوم أولى من الأخذ بقول أهل المدينة الذين لم تضمن لنا العصمة في قولهم دون الأمة، ولم يجعل اللّه ورسوله أقوالهم حجة يجب الرد عند التنازع إليها، بل قال اللّه تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء:59].

و إن كان مالك وأهل المدينة قد قالوا: لا يصوم أحد عن أحد، فقد روى الحكم بن عيينة وسلمة بن كهيل عن سعد بن جبير عن ابن عباس أنه أفتى في قضاء رمضان [أن] [1] يطعم عنه وفي النذر يصام عنه.

و هذا مذهب الإمام أحمد وكثير من أهل الحديث وهو قول أبي عبيد، وقال أبو ثور: يصام عنه النذر وغيره، وقال الحسن بن صالح في النذر: يصوم.

هامش

زيدت على المطبوع للسياق.

=========

فصل قول ابن عباس في حديث الصوم

و أما قولكم [أن] [1] ابن عباس هو راوي حديث الصوم عن الميت، وقد قال: لا يصوم أحد عن أحد، فغاية هذا أن يكون الصحابي قد أفتى بخلاف ما رواه، وهذا لا يقدح في روايته، فإن روايته معصومة وفتواه غير معصومة، ويجوز أن يكون نسي الحديث أو تأوله أو اعتقد له معارضا راجحا في ظنه أو لغير ذلك من الأسباب. على أن فتوى ابن عباس غير معارضة للحديث، فإنه أفتى في رمضان أن لا يصوم أحد عن أحد، وأفتى في النذر أنه يصام عنه. وليس هذا بمخالف لروايته بل حمل الحديث على النذر.

ثم إن حديث: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»، هو ثابت من رواية عائشة رضي اللّه عنها، فهب أن ابن عباس خالفه فكان ما ذا؟ فخلاف ابن عباس لا يقدح في رواية أم المؤمنين، بل رد قول ابن عباس برواية عائشة رضي اللّه عنها أولى من رد روايتها بقوله.

و أيضا فإن ابن عباس رضي اللّه عنهما قد اختلف عنه في ذلك، وعنه روايتان، فليس إسقاط الحديث للرواية المخالفة له عنه أولى من إسقاطها بالرواية الأخرى بالحديث.

هامش

زيدت على المطبوع للسياق.

====

فصل الزعم أن الحديث اختلف في إسناد

وأما قولكم أنه حديث اختلف في إسناده فكلام مجازف لا يقبل قوله، فالحديث صحيح ثابت متفق على صحته رواه صاحبا الصحيح، ولم يختلف في إسناده.

قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه». وصححه الإمام أحمد وذهب إليه وعلق الشافعي القول به على صحته، وقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في الصوم عن الميت شي ء، فإن كان ثابتا صيم عنه كما يحج عنه. وقد ثبت بلا شك، فهو مذهب الشافعي، كذلك قال غير واحد من أئمة أصحابه، قال البيهقي بعد حكايته هذا اللفظ عن الشافعي: قد ثبت جواز القضاء عن الميت برواية سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء، وعن عكرمة عن ابن عباس، وفي رواية أكثرهم أن امرأة سألت فأشبه أن تكون غير قصة أم سعد، وفي رواية بعضهم: «صومي عن أمك» وسيأتي تقرير ذلك عند الجواب عن كلامه رحمه اللّه.

و قولكم أنه معارض بنص القرآن وهو قوله: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَـٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ  ٣٩﴾ [النجم:39] إساءة أدب في اللفظ وخطأ عظيم في المعنى، وقد أعاذ اللّه رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم أن تعارض سنته نصوص القرآن، بل تعاضدها وتؤيدها، وباللّه ما يصنع التعصب ونصرة التقليد، وقد تقدم من الكلام على الآية ما فيه كفاية، وبينا أنها لا تعارض بينها وبين سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بوجه، وإنما يظن التعارض من سوى الفهم، وهذه طريقة وخيمة ذميمة وهي رد السنن الثابتة بما يفهم من ظاهر القرآن، والعلم كل العلم تنزيل السنن على القرآن، فإنها مشقة منه، ومأخوذة عمن جاء به، وهي بيان له لا أنها مناقضة له.

و قولكم أنه معارض بما رواه النسائي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه كل يوم مد من حنطة». فخطأ قبيح، فإن النسائي رواه هكذا (أخبرنا) محمد بن عبد الأعلى، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حجاج الأحول، حدثنا أيوب بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: «لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مد من حنطة». هكذا رواه قول ابن عباس لا قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بقول ابن عباس، ثم يقدم عليه مع ثبوت الخلاف عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يقل هذا الكلام قط وكيف يقوله.

و قد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» وكيف يقوله وقد قال في حديث بريدة الذي رواه مسلم في صحيحه أن امرأة قالت له: أمي ماتت وعليها صوم شهر؟ قال: «صومي عن أمك».

و أما قولكم أنه معارض بحديث ابن عمر رضي اللّه عنهما، من مات وعليه صوم رمضان يطعم عنه. فمن هذا النمط فإنه حديث باطل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

قال البيهقي: حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من مات وعليه صوم رمضان يطعم عنه». لا يصح، ومحمد بن الرحمن كثير الوهم، وإنما رواه أصحاب نافع عن نافع عن ابن عمر رضي اللّه عنهما من قوله.

و أما قولكم أنه معارض بالقياس الجلي على الصلاة والإسلام والتوبة فإن أحدا لا يفعلها عن أحد.

فلعمر اللّه أنه لقياس جلي البطلان والفساد لرد سنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الصحيحة الصريحة له وشهادتها ببطلانه، وقد أوضحنا الفرق بين قبول الإسلام عن الكافر بعد موته، وبين انتفاع المسلم بما يهديه إليه أخوه المسلم من ثواب صيام أو صدقة أو صلاة، ولعمر اللّه أن الفرق بينهما أوضح من أن يخفى، وهل في القياس أفسد من قياس انتفاع المسلم بعد موته بما يهديه إليه أخوه المسلم من ثواب عمله على قبول الإسلام عن الكافر بعد موته أو قبول التوبة عن المجرم بعد موته.

========

فصل جواز القضاء عن الميت

وأما كلام الشافعي رحمه اللّه في تغليط راوي حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما أن نذر أم سعد كان صوما، فقد أجاب عنه أنصر الناس له هو البيهقي، ونحن نذكر كلامه بلفظه، قال في (كتاب المعرفة) بعد أن حكى كلامه:

قد ثبت جواز القضاء عن الميت برواية سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، وفي رواية أكثرهم أن امرأة سألت فأشبه أن تكون غير قصة أم سعد، وفي رواية بعضهم: «صومي عن أمك»، قال: وتشهد له بالصحة رواية عبد اللّه بن عطاء المدني قال: حدثني عبد اللّه بن بريدة الأسلمي عن أبيه قال: كنت عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأتته امرأة فقال: يا رسول اللّه إني كنت تصدقت بوليدة على أمي فماتت وبقيت الوليدة قال: «قد وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث»، قالت: فإنها ماتت وعليها صوم شهر؟ قال:

«صومي عن أمك»، قالت: وإنها ماتت ولم تحج؟ قال: «فحجي عن أمك». رواه مسلم في صحيحه من أوجه عن عبد اللّه بن عطاء. انتهى.

قلت: وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه إن أمي ماتت وعليها صيام شهر أ فأقضيه عنها؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لو كان عليها دين كنت أ قاضيه عنها؟» قال: نعم. قال: «فدين اللّه أحق أن يقضى».

و رواه أبو خيثمة حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن الأعمش. فذكره. و رواه النسائي عن قتيبة بن سعد حدثنا عبثر عن الأعمش. فذكره.

فهذا غير حديث أم سعد إسنادا ومتنا: فإن قصة أم سعد رواها مالك عن الزهري عن عبيد اللّه بن عبد بن عتبة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن سعد بن عبادة استفتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: إن أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم اقضه عنها. هكذا أخرجاه في الصحيحين.

فهب أن هذا هو المحفوظ في هذا الحديث أنه نذر مطلق لم يسم فهل يكون هذا في حديث الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير على أن ترك استفصال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لسعد في النذر هل كان صلاة أو صدقة أو صياما مع أن الناذر قد ينذر هذا.

و هذا يدل على أنه لا فرق بين قضاء نذر الصيام والصلاة وإلا لقال له ما هو النذر فإن النذر إذا انقسم إلى قسمين نذر يقبل القضاء عن الميت ونذر لا يقبله، لم يكن من استفصال.

==

فصل أقوال أهل العلم في الصوم عن الميت

و نحن نذكر أقوال أهل العلم في الصوم عن الميت لئلا يتوهم أن في المسألة إجماعا بخلافه.

قال عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما: يصام عنه في النذر ويطعم عنه في قضاء رمضان، وهذا مذهب الإمام أحمد.

و قال أبو ثور: يصام عنه في النذر والفرض، وكذلك قال داود بن علي وأصحابه يصام عنه نذرا كان أو فرضا.

و قول الأوزاعي: يجعل وليه مكان الصوم صدقة، فإن لم يجد صام عنه، وهذا قول سفيان في إحدى الروايتين عنه.

و قال أبو عبيد القاسم بن سلام: يصام عنه النذر ويطعم عنه في الفرض.

و قال الحسن: إذا كان عليه صيام شهر فصام عنه ثلاثون رجلا يوما واحدا جاز.

=====

فصل الرد على القول بأن ثواب النفقة بالحج يصل فقط

وأما قولكم أنه يصل إليه في الحج ثواب النفقة دون أفعال المناسك فدعوى مجردة بلا برهان السنّة تردها، فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «حج عن أبيك»، وقال للمرأة: «حجي عن أمك»، فأخبر أن الحج نفسه عن الميت، ولم يقل أن الإنفاق هو الذي يقع عنه.

و كذلك قال للذي سمعه يلبي عن شبرمة: «حج عن نفسك. ثم حج عن شبرمة».

و لما سألته المرأة عن الطفل الذي معها فقالت: أ لهذا تحج؟ قال: «نعم»، ولم يقل إنما له ثواب الإنفاق، بل أخبر أن له حجا، مع أنه لم يفعل شيئا، بل وليه ينوب عنه في أفعال المناسك:

ثم إن النائب عن الميت قد لا ينفق شيئا في حجته غير نفقة معلقة، فما الذي يجعل نفقة ثواب نفقة مقامه للمحجوج عنه، وهو لم ينفقها على الحج بل تلك نفقة أقام أو سافر، فهذا القول ترده السنّة والقياس واللّه أعلم.

========

فصل التلفظ بإهداء العمل

فإن قيل: فهل تشترطون في وصول الثواب أن يهديه بلفظه أم يكفي في وصوله مجرد نية العامل أن يهديها إلى الغير.

قيل السنّة: لم تشترط التلفظ بالإهداء في حديث واحد بل أطلق صلى اللّه عليه وآله وسلم الفعل عن الغير كالصوم والحج والصدقة ولم يقل لفاعل ذلك وقل اللهم هذا عن فلان ابن فلان واللّه سبحانه يعلم نية العبد وقصده بعلمه فإن ذكره جاز وإن ترك ذكره واكتفى بالنية والقصد وصل إليه ولا يحتاج أن يقول اللهم إني صائم غدا عن فلان ابن فلان، ولهذا واللّه أعلم اشترط من اشترط نية الفعل عن الغير قبله ليكون واقعا بالقصد عن الميت.

فأما إذا فعله لنفسه ثم نوى أن يجعل ثوابه للغير لم يصر للغير بمجرد النية كما لو نوى أن يهب أو يعتق أو يتصدق لم يحصل ذلك بمجرد النية.

و مما يوضح ذلك أنه لو بنى مكانا أن يجعله مسجدا أو مدرسة أو ساقية ونحو ذلك صار وقفا بفعله مع النية ولم يحتج إلى لفظ.

و كذلك لو أعطى الفقير مالا بنية الزكاة سقطت عنه الزكاة وإن لم يتلفظ بها.

و كذلك لو أدى عن غيره دينا حيا كان أو ميتا سقط من ذمته وإن لم يقل هذا عن فلان.

فإن قيل: فهل يتعين عليه تعليق الإهداء بأن يقول: اللهم إن كنت قبلت هذا العمل وأثبتني عليه فاجعل ثوابه لفلان أم لا؟

قيل: لا يتعين ذلك لفظا ولا قصدا بل لا فائدة في الشرط فإن اللّه سبحانه إنما يفعل هذا، سواء شرطه أو لم يشرطه. فلو كان سبحانه يفعل غير هذا بدون الشرط كان في الشرط فائدة.

و أما قوله: اللهم إن كنت أثبتني على هذا فاجعل ثوابه لفلان، فهو بناء على أن الثواب يقع للعامل ثم ينتقل منه إلى من أهدى له، وليس كذلك بل إذا قوي حال الفعل أنه عن فلان وقع الثواب أولا عن المعمول له كما لو أعتق عبده عن غيره لا تقول إن الولاء يقع للمعتق ثم ينتقل منه إلى المعتق عنه فهكذا هذا.

و باللّه التوفيق.

فإن قيل: فما الأفضل أنه يهدي إلى الميت؟ قيل: الأفضل ما كان أنفع في نفسه، فالعتق عنه والصدقة أفضل من الصيام عنه، وأفضل الصدقة ما صادفت حاجة من المتصدق عليه وكانت دائمة مستمرة، ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أفضل الصدقة سقي الماء» وهذا موضع يقل فيه الماء ويكثر فيه العطش وإلا فسقي الماء على الأنهار لا يكون أفضل من إطعام الطعام عند الحاجة، وكذلك الدعاء والاستغفار له إذا كان يصدق من الداعي وإخلاص وتضرع فهو في موضعه أفضل من الصدقة عنه، كالصلاة على الجنازة والوقوف لدعاء على قبره.

و بالجملة فأفضل ما يهدي إلى الميت العتق والصدقة والاستغفار له والدعاء له والحج عنه.

و أما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعا بغير أجرة فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج.

فإن قيل: فهذا لم يكن معروفا في السلف ولا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصها على الخير ولا أرشدهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إليه، وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والصيام فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه لكانوا يفعلونه.

فالجواب أن مردود هذا السؤال إن كان معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء والاستغفار.

قيل له ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب [القراءة] [1] واقتضت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب هذه الأعمال وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات، وإن لم يعترف بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنّة والإجماع وقواعد الشرع.

و أما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك في السلف فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على من يقرأ ويهدي إلى الموتى، ولا كانوا يعرفون ذلك البتة، وكانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم، ولا كان أحدهم يشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لفلان الميت بل ولا ثواب هذه الصدقة والصوم.

ثم يقال لهذا القائل: لو كلفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال: اللهم ثواب هذا الصوم لفلان لعجزت، فإن القوم كانوا أحرض شي ء على كتمان أعمال البر فلم يكونوا ليشهدوا على اللّه بإيصال ثوابها إلى أمواتهم.

فإن قيل: فرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أرشدهم إلى الصوم والصدقة والحج دون القراءة.

قيل هو صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم فهذا سأله عن الحج عن ميتة فأذن له، وهذا سأله عن الصيام عنه فأذن له، وهذا سأله عن الصدقة فأذن له، ولم يمنعهم مما سوى ذلك.

و أي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك بين وصول ثواب القراءة والذكر.

و القائل أن أحدا من السلف لم يفعل ذلك قائل ما لا علم له به، فإن هذه شهادة على نفي ما لم يعلمه، فما يدريه أن السلف كانوا يفعلون ذلك ولا يشهدون من حضرهم عليه، بل يكفي اطلاع علّام الغيوب على نياتهم ومقاصدهم لا سيما والتلفظ بنيّة الإهداء لا يشترط كما تقدم.

و سر المسألة أن الثواب ملك للعامل، فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله اللّه إليه، فما الذي خص من هذا ثواب قراءة القرآن، وحجر على العبد أن يوصله إلى أخيه، وهذا عمل سائر الناس حتى المنكر في سائر الأعصار والأمصار من غير نكير من العلماء.

فإن قيل: فما تقولون في الإهداء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم؟

قيل: من الفقهاء المتأخرين من استحبه ومنهم لم يستحبه ورآه بدعة، فإن الصحابة لم يكونوا يفعلونه، وأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم له أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شي ء، لأنه هو الذي دل أمته على كل خير وأرشدهم ودعاهم إليه، ومن دعا إلى هدى فله من الأجر مثل من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شي ء، وكل هدى وعلم فإنما نالته أمته على يده فله مثل أجر من اتبعه أهداه إليه أو لم يهده. واللّه أعلم.

هامش

وردت في المطبوع القرآن

======

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نور الدغاء

  قلت المدون سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القديرالمقتدرالملك القدوس السلام المؤمن ال...