دعائي لربي

 

قلت المدون سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القديرالمقتدرالملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني أسألك أن تَشفني شفاءا لا يغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تيسر لي أمري وأن تحلل عُقَدْ لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك يا ربي اللهم آمين .

الثلاثاء، 13 سبتمبر 2022

5. تابع الروح من اول هل الصورة العقلية مجردة؟ الي الاخر}ْ


هل الصورة العقلية مجردة؟
قولكم في الوجه الثالث: أن الصور العقلية الكلية مجردة وتجريدها إنما هو سبب الأخذ لها وهو القوة العقلية.
جوابه أن يقال: ما الذي تريدون بهذه الصورة العقلية الكلية؟ أ تريدون به أن المعلوم حصل في ذات العلم، أو أن العلم به حصل في ذات العالم؟ فالأول ظاهر للإحالة، والثاني حق، إلا أنه لا يفيدكم شيئا، لأن الأمر الكلي المشترك بين الأشخاص الإنسانية هو الإنسانية لا العلم بها، والإنسانية لا وجود لها في الخارج كلية، والوجود في الخارج للمعينات فقط، والعلم تابع للمعلوم، فكما أن المعلوم معين فالعلم به معين لكنه صورة منطبقة على أفراد كثيرة، فليس في الذهن ولا في الخارج صورة غير منقسمة البتة. وقد غلط في هذا الموضع طوائف من العقلاء لا يحصيهم إلا اللّه تعالى، فالصورة الكلية التي يثبتونها ويزعمون أنها حالة في النفس فهي صورة شخصية موصوفة بعوارض شخصية، فهب أن هذه الصورة العقلية حالة في جوهر وليس بجسم ولا جسماني فإنها غير مجردة من العوارض.
فإن قلتم، مرادنا بكونها مجردة النظر إليها من حيث هي هي مع قطع النظر عن تلك العوارض.
قيل لكم: فلم لا يجوز أن تكون الصورة الحالة في المحل الجسماني منقسمة، وإنما تكون مجردة إذا نظرنا إليها من حيث هي هي بقطع النظر عن عوارضها.
=====
القوى العقلية والإدراكات
قولكم في الرابع: أن العقلية تقوى على أفعال غير متناهية ولا شي ء هنا من القوى الجسمانية كذلك، فجوابه أنا لا نسلم أنها تقوى على أفعال غير متناهية.
و قولهم: أنها تقوى على إدراكات لا تتناهى، والإدراكات أفعال. مقدمتان كاذبتان، فإن إدراكاتها ولو بلغت ما بلغت فهي متناهية، فلو كان لها بكل نفس ألف إدراك لتناهت إدراكاتها في الإدراكات والمعارف إلى حد لا يمكنها أن تزيد عليه شيئا كما قال تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف:76] إلى أن ينتهي العلم إلى من هو بكل شي ء عليم، فهو اللّه الذي لا إله إلا هو وحده، وذلك من خصائصه التي لا يشاركه فيها سواه.
فإن قلتم: لو انتهى إدراكها إلى حد لا يمكنها المزيد عليه لزم انقلاب الشي ء من الإمكان الذاتي، قلنا: فهذا بعينه لو صح دل على أن القوة الجسمانية تقوى على أفعال غير متناهية، وذلك يوجب سقوط الشبهة وبطلانها.
و أيضا فإن قوة التخيل والتفكر والتذكر تقوى على استحضار المخيلات والمذكرات إلى غير نهاية مع أنها عندكم قوة جسمانية.
فإن قلتم: لا نسلم أنها تقوى على ما لا يتناهى قيل لكم: هكذا يقول خصومكم في القوة العاقلة سواء.
و أما كذب المقدمة الثانية فإن الإدراك ليس بفعل، فلا يلزم من تناهي فعلها تناهي إدراكها، وقد صرحتم بأن الجوهر العقلي قابل لصورة المعلوم، لا أنها فاعل لها، والشي ء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا عندكم. وقد صرحتم بأن الأجسام يمتنع عليها أفعال لا نهاية لها، ولا يمتنع عليها مجهولات وانفعالات لا تتناهى، وقد أورد ابن سيناء على هذه الشبهة سؤالا فقال: أ ليس النفس الفلكية المباشرة لتحريك الفلك قوة جسمانية مع أن الحركات الفلكية غير متناهية؟ وأجاب عنها:
بأنها وإن كانت قوة جسمانية إلا أنها تستمد الكمال من العقل المفارق، فلهذا السبب قدرت على أفعال غير متناهية.
فنقول: فإذا كان الأمر عندك كذلك فلم لا يجوز أن يقال: النفس الناطقة تستمد الكمال والقوة من فاطرها ومنشئها الذي له القوة جميعا، فلا جرم تقوى مع كونها جسمانية على ما لا يتناهى فإذا قلت بذلك وافقت الرسل والعقل ودخلت مع زمرة المسلمين وفارقت العصبة المبطلين [1].
====
الإدراك
قولكم في الخامس: لو كانت القوة للعاقلة حالة في آلة جسمانية لوجب أن تكون دائمة الإدراك لتلك الآلة أو ممتنعة الإدراك لها. فهو مبني على أصلكم الفاسد أن الإدراك عبارة عن صورة مساوية للمدرك في القوة المدركة. ثم لو سلمنا لكم ذلك الأصل لم يفدكم شيئا فإن حصول تلك الصورة يكون شرطا لحصول الإدراك، فأما أن يقول أو يقال أن الإدراك عين حصول تلك الصورة فهذا لا يقوله عاقل، فلم لا يجوز أن يقال القوة العقلية حالة في جسم مخصوص، ثم إن القوة الناطقة قد تحصل لها حالة إضافية تسعى بالشعور والإدراك فحينئذ تصير القوة العاقلة مدركة لتلك الآلة، وقد لا توجد تلك الحالة الإضافية فتصير غافلة عنها، وإذا كان هذا ممكنا سقطت تلك الشبهة رأسا. ثم نقول أ تدعون أنا إذا عقلنا شيئا فإن الصورة الحاضرة في العقل مساوية لذلك المعقول من جميع الوجوه والاعتبارات أو لا يجب حصول هذه المساواة من جميع الوجوه. فالأول لا يقوله عاقل وهو أظهر من أن يحتج لفساده، وإذا علم أنه لا تجب المساواة من جميع الوجوه لم يلزم من حدوث صورة أخرى في القلب أو الدماغ اجتماع الممثلين.
و أيضا فالقوة العاقلة حالة في جوهر القلب أو الدماغ، والصورة الحادثة حالة في القوة العاقلة، فإحدى الصورتين محل القوة العاقلة، وأيضا فنحن إذا رأينا المسافة الطويلة والبعد الممتد فهل يتوقف هذا الإبصار على ارتسام صورة المرثي في عين الرائي أو لا يتوقف؟ فإن توقف لزم اجتماع المثلين، لأن القوة الباصرة عندكم جسمانية فهي في محل له حجم ومقدار فإذا حصل فيه حجم المرئي ومقداره لزم اجتماع المثلين، وإذا جاز هناك فلم يجوز مثله في مسألتنا؟ وإذا كان إدراك الشي ء لا يتوقف على حصول صورة المرئي في الرائي بطل قولكم أن إدراك القلب والدماغ يتوقف على حصول صورة القلب والدماغ في القوة العاقلة.
و أيضا فقولكم لو كانت القوة العقلية حالة في جسم لوجب أن تكون دائمة للإدراك لذلك الجسم لكن إدراكنا لقلبنا ودماغنا غير دائم فهذا إنما يلزم من يقول إنها حالة في القلب أو الدماغ، وأما من يقول أنها حالة في جسم مخصوص وهو النفس وهي مشابكة للبدن فهذا الإلزام غير وارد عليه فإنه يقول النفس جسم مخصوص والإنسان أبدا عالم بأنه جسم مخصوص ولا يزول ذلك عن عقله إلا إذا عرضت له الغفلة فسقطت الشبهة التي عولتم عليها كل تقدير.
====
فصل
قولكم في السادس: إن كل أحد يدرك نفسه، الإدراك عبارة عن حصول ماهية المعلوم عند العالم وهذا إنما يصح إذا كانت النفس غنية عن المحل إلى آخره.
جوابه. أن ذلك مبني على الأصل المتقدم وهو أن العلم عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في نفس العالم، وهذا باطل من وجوه كثيرة مذكورة في مسألة العلم، حتى لو سلم ذلك فالصورة المذكورة شرط في حصول العلم لا أنها نفس العلم.
و أيضا فهذه الشبهة مع ركاكة ألفاظها وفساد مقدماتها منقوضة فإننا إذا أخذنا حجرا أو خشبة قلنا هذا جوهر قائم بنفسه، هذا حاضره عند ذاته فيجب في هذه الجمادات أن تكون عالمة بذواتها.
و أيضا فجميع الحيوانات مدركة لذواتها فلو كان كون الشي ء مدركا لذاته يقتضي كون ذاته جوهرا مجردا لزم كون نفوس الحيوانات بأسرها جواهر مجردة وأنتم لا تقولون بذلك.
=====
الخيالات
قولكم في السابع: الواحد منا يتخيل بحرا من زئبق وجبلا من ياقوت إلى آخره وهو شبهة أبي البركات البغدادي، فشبهة داحضة جدا فإنها مبنية على أن تلك المتخيلات أمور موجودة وأنها منطبعة في النفس الناطقة انطباع النفس في محله ومعلوم قطعا أن هذه المتخيلات لا حقيقة لها في ذاتها وإنما الذهن يفرضها تقديرا وليست منطبعة في النفس فإن العلوم الخارجية لا تتطبع صورها في النفس فكيف بالخيالات المعدومة؟ فهذه منه مخصة ولا يمنع من وقوع التمييز بين الأعدام المضافة، فإن العقل يميز بين عدم السمع وعدم البصر وعدم الشم وغير ذلك ولا يلزم من هذا التمييز كون هذه الأعدام موجودة، بل يميز بين أنواع المستحيلات التي لا يمكن وجودها البتة، ثم نقول إذا عقل حلول الأشكال والمقادير فيما كان مجردا على الحجمية والمقدار من كل الوجوه أ فلا يعتل حلول العلم بالشكل العظيم والمقدار العظيم في الجسم الصغير؟ وأيضا فإذا كان عدم الانطباق من جميع الوجوه لا يمنع من حلول الصورة والشكل في الجوهر المجرد فعدم انطباق العظيم على الصغير أولى أن لا يمنع من حلول الصورة العظيمة في المحل الصغير.
و أيضا فإن سلفكم من الأوائل أقاموا الدليل على أن انطباع الصورة الحالة في الجوهر المجرد محال وذكروا له وجوها.
=======
حال البدن والقوة العقلية
قولكم في الثامن: لو كانت القوة العقلية جسدانية لضعفت في زمن الشيخوخة وليس كذلك. جوابه في وجوه:
الوجه الأول: لم لا يجوز أن يقال القدر المحتاج إليه من صحة البدن في كمال القوة العقلية مقدار معين، وأما كمال حال البدن في الصحة فإنه غير معتبر في كمال حال القوة العقلية، وإذا احتمل ذلك لم يبعد أن يقال ذلك القدر المحتاج إليه باق إلى آخر الشيخوخة فبقي العقل إلى آخرها.
الوجه الثاني: أن الشيخ لعله إنما يمكنه أن يستمر في الإدراكات العقلية على الصحة أن عقله يبقى ببعض الأعضاء التي يتأخر الفساد والاستحالة إليها فإذا انتهى إليها الفساد والاستحالة فسد عقله وإدراكه.
الوجه الثالث: أنه لا يمتنع أن يكون بعض الأمزجة أوفق لبعض القوى، فلعل مزاج الشيخ أوفق للقوة العقلية فلهذا السبب تقوى فيه القوة العاقلة.
الوجه الرابع: أن المزاج إذا كان في غاية القوة والشدة كانت سائر القوى قوية فتكون القوة الشهوانية والغضبية قوية جدا وقوة هذه القوى تمنع العقل من الاستكمال، فإذا حصلت الشيخوخة وحصل الضعف حصل بسبب الضعف ضعف في هذه القوى المانعة للعقل من الاستكمال وحصل في العقل أيضا ضعف ولكن بعد ما حصل في العقل من الضعف حصل ذلك في أضداده فينجبر النقصان من أحد الجانبين بالنقصان من الجانب الآخر فيقع الاعتدال.
الوجه الخامس: أن الشيخ حفظ العلوم والتجارب الكثيرة ومارس الأمور ودربها وكثرت تجاربه، وهذه الأحوال تعينه على وجوه الفكر وقوة النظر فقام [مقام] [1] النقصان الحاصل بسبب ضعف البدن والقوى.
الوجه السادس: أن كثرة الأفعال بسبب حصول الملكات الراسخة فصارت الزيادة الحاصلة بهذا الطريق جابرا للنقصان الحاصل بسبب اختلال البدن.
الوجه السابع: أنه قد ثبت في الصحيح عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «يهرم ابن آدم وتشب فيه خصلتان، الحرص وطول الأمل» [2]. والواقع شاهد لهذا الحديث مع أن الحرص والأمل من القوى الجسمانية والصفات الخيالية، ثم إن ضعف البدن لم يوجب ضعف هاتين الصفتين فعلم أنه لا يلزم من اختلال البدن وضعفه ضعف الصفات البدنية.
الوجه الثامن: إنا نرى كثيرا من الشيوخ يصيرون إلى الخرف وضعف العقل بل هذا هو الأغلب، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ [النحل:70] فالشيخ في أرذل عمره يصير كالطفل أو أسوأ حالا منه، وأما من لم يحصل له ذلك فإنه لا يرد إلى أرذل العمر.
الوجه التاسع: أنه لا تلازم بين قوة البدن وقوة النفس ولا بين ضعفه وضعفها، فقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف النفس جبانا خوارا، وقد يكون ضعيف البدن قوي النفس فيكون شجاعا مقداما على ضعف بدنه.
الوجه العاشر: أنه لو سلم لكم ما ذكرتم لم يدل على كون النفس جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه، ولا هي في البدن ولا خارجة عنه، لأنها إذا كانت جسما صافيا مشرقا سماويا مخالفا للأجسام الأرضية لم تقبل الانحلال والذبول والتبدل، كما تقبله الأجسام المتحللة الأرضية، فلا يلزم من حصول الانحلال والذبول في هذا البدن حصولهما في جوهر النفس.
هامش
زيدت على المطبوع لسياق العبارة.
أخرجه الترمذي بلفظ: «يهرم ابن آدم ويشب منه اثنان، الحرص على المال والحرص على العمر».
و بلفظ آخر عن الترمذي: «قلب الشيخ شاب على حب اثنتين، طول الحياة وكثرة المال».
انظر سنن الترمذي كتاب الزهد باب ما جاء في قلب الشيخ الشاب (4/ 493) الأرقام: 2338 و2339 و2455.
و انظر صحيح مسلم كتاب الزكاة باب كراهة الحرص على الدنيا، وانظر سنن ابن ماجه كتاب الزهد باب الأمد والأجل.
===========
فصل
قولكم في التاسع: إن القوة العقلية غنية في أفعالها عن الجسم وما كان غنيا من الجسم في أفعاله كان غنيا عنه في ذاته إلى آخره. جوابه أن يقال: لا يلزم من ثبوت حكم في قوة جسمانية ثبوت مثل ذلك الحكم في جميع القوى الجسمانية وليس معكم غير الدعوى المجردة والقياس الفاسد.
و أيضا فالصور والأعراض محتاجة إلى محلها وليس احتياجها إلى تلك المحال إلا لمجرد ذواتها ولا يلزم من استقلالها بهذا الحكم استغناؤها في ذواتها عن تلك المحال فلا يلزم من كون الشي ء مستقلا بانقضاء حكم من الأحكام أن يكون مستغنيا في ذاته عن المحل. واللّه أعلم.
========
الرد على القول بأن القوة الجسمانية تتعب
قولكم في العاشر: إن القوة الجسمانية تكل [1] بكثرة الأفعال ولا تقوى على القوي بعد الضعف إلى آخره.
جوابه: أن القوة الخيالية جسمانية ثم إنها تقوى على تخيل الأشياء العظيمة مع تخيلها الأشياء الحقيرة فإنها يمكنها أن تتخيل الشعلة الصغيرة مثال ما تخيل الشمس والقمر.
أيضا فإن الأبصار القوية القاهرة تمنع أبصار الأشياء الضعيفة؟ فكذلك تقول العقول العظيمة العالية تمنع تعقل المعقولات الضعيفة فإن المستغرق في معرفة جلال رب الأرض والسموات وأسمائه وصفاته يمتنع عليه في تلك الحال الفكر في ثبوت الجوهر الفرد وحقيقته.
هامش
التعب الشديد حتى يصل إلى درجة الإعياء.
======
فصل
قولكم في الحادي عشر: إنا إذا حكمنا بأن السواد مضاد البياض وجب أن يحصل في الذهن ماهية السواد والبياض معا والبداهة حاكمة بأن اجتماعهما في الجسم محال.
جوابه: أن هذا مبني على أن من أدرك شيئا فقد حصل في ذات المدرك صورة مساوية للمدرك، وهذا باطل، واستدلالكم على صحته بانطباع الصورة في المرآة باطل، فإن المرآة لم ينطبع فيها شي ء البتة كما يقوله جمهور العقلاء من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم، والقول بالانطباع باطل من وجوه كثيرة ثم تقول إذا كنتم قد قلتم إن المنطبع في النفس عند إدراك السواد والبياض رسومهما ومثالهما لا حقيقتهما فلم لا يجوز حصول رسوم هذه الأشياء في المادة الجسمانية؟
=====
الرد على أن محل الإدراكات جسم
قولكم في الثاني عشر: أنه لو كان محل الإدراكات جسما وكل جسم منقسم لم يمنع أن يقوم بعض أجزاء الجسم علم بالشي ء، وبالجزء الآخر منه جهل به فيكون الإنسان عالما بالشي ء جاهلا به في وقت واحد.
جواب: أن هذه الشبهة منتقضة على أصولكم فإن الشهوة والغضب والتخيل من الأحوال الجسمانية عندكم ومحلها منتقض فلزمكم أن تجوزوا قيام الشهوة والغضب بأحد الجزأين وضدهما بالجزء الآخر فيكون مشتهيا للشي ء نافرا عنه غضبان عليه غير غضبان في وقت واحد.
=============
فصل
قولكم في الثالث عشر: إن المادة الجسمانية إذا حصلت فيها نقوش مخصوصة امتنع فيها حصول مثلها والنفوس البشرية بضد ذلك. إلى آخره.
جوابه: إن غاية هذا أن يكون قياسا ممتازا بغير جامع وذلك لا يفيد الظن فضلا عن اليقين فإن النقوش العقلية هي العلوم والإدراكات والنقوش الجسمانية هي الأشكال والصور، ولا ريب أن العلوم مخالفة بحقائقها للصور والأشكال ولا يلزم من ثبوت حكم في نوع من أنواع الماهيات ثبوته فيما يخالف ذلك النوع.
===========
===
فصل
قولكم في الرابع عشر: لو كانت النفس جسما لكان بين تحريك المحرك رجله وبين إراداته للحركة زمان. إلى آخره.
جوابه: أن النفس مع الجسد لا تخلو من ثلاثة أحوال، إما أن تكون لابسة لجميعه من خارج كالثوب، أو تكون في موضع واحد كالقلب والدماغ أو تكون سارية في جميع أجزاء الجسد، وعلى كل تقدير من هذه التقادير فتحريكها لما نريد تحريكه يكون مع إراداتها لذلك بلا زمان كإدراك البصر لما لا يلاقيه وإدراك السمع والشم والذوق، وإذا قطع العضو لم ينقطع ما كان من جسم النفس متخللا لذلك العضو سواء كانت لابسة له من داخل أو من خارج بل تفارق العضو الذي بطل حسه في الوقت وتتقلص عنه بلا زمان ويكون مفارقتها لذلك العضو كمفارقة الهواء للإناء إذا ملئ ماء، وأما إن كانت النفس ساكنة في موضع واحد من البدن لم يلزم أن تبين مع العضو المقطوع، وأما إن كانت لابسة للبدن من خارج لم يلزم أن يكون بين إرادتها لتحريكه ونفس التحريك زمان بل يكون فعلها حينئذ في تحريك الأعضاء كفعل المغناطيس في الحديد وإن لم يلاصقه.
ثم نقول هذا الهذيان الذي شغلتم به الزمان وارد عليكم بعينه فإنها عندكم غير متصلة بالبدن ولا منفصلة عنه ولا داخلة فيه ولا خارجة عنه فيلزمكم مثل ذلك.
=======
فصل
قولكم في الخامس عشر: لو كانت جسما لكانت منقسمة، ولصح عليها أن تعلم بعضها وتجهل بعضها فيكون الإنسان عالما ببعض نفسه جاهلا بالبعض الآخر.
جوابه: أن هذه الشبهة مركبة من مقدمتين تلازمية واستثنائية والمنع واقع في كلا المتقدمتين أو إحداهما فلا نسلم أنها لو كانت جسما لصح أن تعلم بعضها وتجبل بعضها، فإن النفس بسيطة غير مركبة من هذه العناصر ولا من الأجزاء المختلفة فمتى شعرت بذاتها شعرت بجهلها، فهذا منع المقدمة التلازمية.
و أما الاستثنائية فلا نسلم أنها لا يصح أن تعلم بعضها حال غفلتها عن البعض الآخر ولم تذكروا على بطلان ذلك شبهة فضلا عن دليل، ومن المعلوم أن الإنسان قد يشعر بنفسه من بعض الوجوه دون كلها ويتفاوت الناس في ذلك فمنهم من يكون شعوره بنفسه أتم من غيره بدرجات كثيرة وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ [الحشر:19] فهؤلاء نسوا نفوسهم لا من جميع الوجوه بل من الوجه الذي به مصالحها وكمالها وسعاداتها وإن لم ينسوها من الوجه الذي منه شهوتها وحظها وإراداتها فأنساهم مصالح نفوسهم أن يفعلوها ويطلبوها، وعيوبها ونقائصها أن يزيلوها ويجتنبوها وكمالها الذي خلقت له أن يعرفوه ويطلبوه، فهم جاهلون بحقائق أنفسهم من هذه الوجهة وإن كانوا عالمين بها من وجوه.
===========
فصل
قولكم في السادس عشر: لو كانت النفس جسما لوجب ثقل البدن بدخولها فيه لأن من شأنه الجسم إذا زدت عليه جسما آخر أن يثقل به.
فهذه شبهة في غاية الثقافة والمحتج بها أثقل وليس كل جسم زيد عليه جسم آخر ثقله فهذه الخشبة تكون ثقيلة فإذا زيد عليها جسم النار خفت جدا وهذا الظرف يكون ثقيلا فإذا دخله جسم الهواء خف. وهذا إنما يكون في الأجسام الثقال التي تطلب المركز والوسط بطبعها وهي تتحرك بالطبع إليه، وأما الأجسام التي تتحرك بطبعها إلى العلو فلا يعرض لها ذلك بل الأمر فيها بالضد من تلك الأجسام الثقال بل إذا أضيفت إلى جسم ثقيل أكسبته الخفة وقد أخذ هذا المعنى بعضهم فقال:
ثقلت زجاجات أتينا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح
خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخفف الأرواح
==========
فصل
قولكم في السابع عشر: لو كانت النفس جسما لكانت على صفات سائر الأجسام التي لا تخلو منها من الخفة والثقل والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والنعومة والخشونة. إلى آخره. شبهة فاسدة وحجة داحضة فإنه لا يجب اشتراك الأجسام في جميع الكيفيات والصفات وقد فاوت اللّه سبحانه بين صفاتها وكيفياتها وطبائعها فمنها ما يرى بالبصر ويلمس باليد، ومنها ما لا يرى ولا يلمس، ومنها ما له لون ومنها ما لا لون له، ومنها ما لا يقبل الحرارة والبرودة، ومنها ما لا يقبله، على أن النفس من الكيفيات المختصة بها ما لا يشاركها فيها البدن ولها خفة وثقل وحرارة وبرودة ويبس ولين يحبسها وأنت تجد الإنسان في غاية الثقالة وبدنه نحيل جدا وتجده في غاية الخفة وبدنه ثقيل وتجد نفسا لينة وادعة ونفسا يابسة قاسية، ومن له حس سليم يشم رائحة بعض النفوس كالجيفة المنتنة ورائحة بعضها أطيب من ريح المسك وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا مر في طريق بقي أثر رائحته في الطريق ويعرف أنه مر بها وتلك رائحة نفسه وقلبه، وكانت رائحة عرقه من أطيب شيء وذلك تابع لطيب نفسه وبدنه وأخبر وهو أصدق البشر أن الروح عند المفارقة يوجد لها رائحة كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض أو كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، ولو لا الزكام الغالب لشم الحاضرون ذلك على أن كثيرا من الناس يجسد ذلك وقد أخبر به غير واحد ويكفي فيه خبر الصادق المصدوق، وكذلك أخبر بأن أرواح المؤمنين مشرقة وأرواح الكفار سود.
و بالجملة فكيفيات النفوس أظهر من أن ينكرها إلا من هو من أجل الناس بها.
======
فصل
قولكم في الثامن عشر: لو كانت النفس جسما لوجب أن تقع تحت جميع الحواس أو تحت حاسة منها. إلى آخره.
فجوابه: منع اللزوم فإنكم لم تذكروا عليه شبهة فضلا عن دليل، ومنع انتقاء اللازم فإن الروح تدرك بالحواس فتلمس وترى وتشم لها الرائحة الطيبة والخبيثة كما تقدم هم النفوس المستفيضة ولكن لا نشاهد نحن ذلك وهذا الدليل لا يمكن ممن يصدق الرسل أن يحتج به فإن الملك جسم ولا يقع تحت حاسة من حواسنا، وكذلك الجن والشياطين أجسام لطاف لا تقع تحت حاسة من حواسنا، والأجسام مفاوتة في ذلك تفاوتا كثيرا، فمنها ما يدرك بأكثر الحواس، ومنها ما لا يدرك بأكثرها، ومنها ما يدرك بحاسة واحدة، ومنها ما لا ندركه نحن في الغالب وإن أدرك في بعض الأحوال لكونه لم يخلق لنا إدراكه أو لمانع يمنع من إدراكه أو للطفه عن إدراك حواسنا، فما عدم اللون من الأجسام لم يدرك بالبصر كالهواء والنار في عنصرها، وما عدم الرائحة لم يدرك بالشم كالنار والحصا والزجاج.
و أيضا فالروح هي المدركة لمدارك هذه الحواس بواسطة آلائها فالنفس هي الحاسة المدركة وإن لم تكن محسوسة والأعراض محسوسة والنفس محسة بها، وهي القابلة لأعراضها المتعاقبة عليها من الفضائل والرذائل كقبول الأجرام لأعراضها المتعاقبة عليها، وهي المتحركة باختيارها المحركة للبدن قسرا وقهرا.
و هي مؤثرة في البدن متأثرة به تألم وتلد وتفرح وتحزن وترضى وتغضب وتنعم وتيأس وتحب وتكره وتذكر وتنسى وتصعد وتنزل وتعرف وتنكر، وآثارها من أدل الدلائل على وجودها كما أن آثار الخالق سبحانه دالة على وجوده وعلى كماله فإن دلالة الأثر على مؤثرة ضرورية.
و تأثيرات النفوس بعضها في بعض أمر لا ينكره ذو حس سليم ولا عقل مستقيم ولا سيما عند تجردها نوع تجرد عن العلائق والعوائق البدنية فإن قواها تتضاعف وتتزايد بحسب ذلك ولا سيما عند مخالفة هواها وحملها على الأخلاق العالية من العفة والشجاعة والعدل والسخاء وتجنبها سفساف الأخلاق ورذائلها وسافلها فإن تأثيرها في العالم يقوى جدا تأثيرا بعجز عنه البدن وأعراضه أن تنظر إلى حجر عظيم فتشقه أو حيوان كبير فتتلفه أو إلى نعمة فتزيلها وهذا أمر قد شاهدته الأمم عن اختلاف أجناسها وأديانها وهو الذي سمى إصابة العين فيضيفون الأثر إلى العين وليس لها في الحقيقة وإنما هو للنفس المتكيفة ردية سمية، وقد تكون بواسطة نظر العين وقد لا تكون بل يوصف له الشيء من بعيد فتتكيف عليه لنفسه بتلك الكيفية فتفسده وأنت ترى تأثير النفس في الأجسام صفرة وحمرة وارتعاشا بمجرد مقابلتها لها وقوتها وهذه وأضعافها آثار خارجة عن تأثير البدن وأعراضه فإن البدن لا يؤثر إلا فيما لاقاه وماسه تأثيرا مخصوصا ولم تزل الأمم تشهد تأثير الهمم الفعّالة في العالم وتستعين بها وتحذر أثرها، وقد أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يغسل عائن مغابنه ومواضع القذر منه، ثم يصب ذلك الماء على المعين فإنه يزيل عنه تأثير نفسه فيه، وذلك بسبب أمر طبيعي اقتضته حكمة اللّه سبحانه، فإن النفس الأمّارة لها بهذه المواضع تعلق وألف والأرواح [1][2] الخبيثة الخارجية تساعدها وتألف هذه المواضع غالبا للمناسبة بينها وبينها فإذا غسلت بالماء طفئت تلك النارية منها كما يطفأ الحديد المحمى بالماء فإذا صب ذلك الماء على المصاب طفا عنه تلك النارية التي وصلت إليه من العائن وقد وصف الأطباء الماء الذي يطفأ فيه الحديد لآلام وأوجاع معروفة، وقد جرب الناس من تأثير الأرواح بعضها في بعض عند تجردها في المنام عجائب تفوت الحصر وقد نبهنا على بعضها فيما مضى فعالم الأرواح عالم آخر أعظم من عالم الأبدان وأحكامه وآثاره أعجب من آثار الأبدان بل كل ما في العالم من الآثار الإنسانية فإنما هي من تأثير النفوس بواسطة البدن فالنفوس والأبدان يتعاونان على التأثير تعاون المشتركين في الفعل وتنفرد النفس بآثار لا يشاركها فيها البدن ولا يكون للبدن تأثير لا تشاركه فيه النفس.
هامش
أي الذي يصيب الناس بعينه.
بطن الفخذ، وهي قرب مانة.
==
فصل
قولكم في التاسع عشر: لو كانت النفس جسما لكانت ذات طول وعرض وعمق وشكل وسطح وهذه المقادير لا تقوم إلا بمادة إلى آخره.
جوابه: أنا نقول قولكم هذه المقادير لا تقوم إلا بمادة قلنا وكان ما ذا والنفس لها مادة خلقت منها وجعلت على شكل معين وصورة معينة.
قولكم: مادتها إن كانت نفسا لزم اجتماع نفسين وإن كانت غير نفس كانت مرتبة من بدن وصورة.
قلنا: مادتها ليست نفسا كما أن مادة الإنسان ليست إنسانا ومادة الجن ليست جنا ومادة الحيوان ليست حيوانا.
قولكم: يلزم كون النفس مركبة من بدون وصورة. مقدمة كاذبة وإنما يلزم كون النفس مخلوقة من مادة ولها صورة معينة وهكذا نقول سواء ولم تذكروا على بطلان هذا شبهة فضلا عن حجة ظنية أو قطعية.
======
فصل
قولكم في الوجه العشرين: أن خاصة الجسم أن يقبل التجزي وأن الجزء الصغير منه ليس كالكبير فلو قبلت التجزي فكل جزء منها إن كان نفسا لزم أن يكون للإنسان نفوس كثيرة وإن لم يكن المجموع نفسا.
جوابه: إن أردتم أن كل جسم يقبل التجزي في الخارج فكذب ظاهر فإن الشمس والقمر والكواكب لا تقبل ذلك ولا يلزم أن كل جسم يصح عليه التجزي والتبعيض في الخارج، أما على قول نفاة الجوهر الفرد فظاهر وأما على قول مثبتيه فإنه عدهم جوهر متحيز لا يصح عليه قبول الانقسام، سلمنا أنها تقبل الانقسام فأي شيء يلزم من ذلك؟
قولكم: إن كل جزء من تلك الأجزاء نفسا لزم اجتماع نفوس كثيرة في الإنسان.
قلنا: إنما يلزم ذلك لو انقسمت النفس بالفعل إلى نفوس كثيرة وهذا محال.
قولكم: وإن لم يكن كل جزء نفسا لم يكن المجموع نفسا. مقدمة كاذبة منتقضة فكم ماهية ثبت لها حكم عند اجتماع أجزائها فإن ذلك الحكم كماهية البيت والإنسان والعشرة وغيرها.
=========
فصل
قولكم في الوجه الحادي والعشرون: أن الجسم يحتاج في قوامه وبقائه وحفظه إلى نفس أخرى ويلزم التسلل.
جوابه: أنه لا يلزم من افتقار البدن إلى نفس تحفظه افتقار النفس إلى نفس تحفظها وهل ذلك إلا بمجرد دعوة كاذبة مستند إلى قياس قد تبين بطلانه فإن كل جسم لا يصير إلى نفس تحفظه كأجسام المعادن وجسم الهواء والماء والنار والتراب وأجسام سائر الجمادات.
فإن قلتم: إن هذه ليست أحياء ناطقة بخلاف النفس فإنها حية ناطقة.
قلنا: فحينئذ يبقى الدليل هكذا أن كل جسم حي ناطق يحتاج في حفظه وقيامه إلى نفس تقوم به. وهذه دعوى مجردة وهي كاذبة فإن الجن والملائكة أحياء ناطقون وليسوا مفتقرين في قيامهم إلى أرواح أخرى تقوم بهم.
فإن قلتم: وكلامنا معكم في الجن والملائكة فإنهم ليسوا بأجسام متحيزة.
قلنا: للكلام مع من يؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله. وأما من كفر بذلك فالكلام معه في النفس ضائع، وقد كفر بفاطر النفس ومبدعها وملائكته وما جاءت به رسله وكان تاركا ما دل عليه العيان مع دليل الإيمان فإن الآثار المشهودة في العالم من تأثيرات الملائكة والجن بإذن ربهم لا يمكن إنكارها، ولا هي موجودة بنفسها، ولا تقدر عليها القوى البشرية.
==
فصل
قولكم في الثاني والعشرين: لو كانت جسما لكان اتصالها بالبدن إن كان على سبيل المداخلة لزم تداخل الأجسام وإن كان على سبيل الملاصقة والمجاورة للإنسان الواحد جسمان متلاصقان أحدهما يرى والآخر لا يرى.
جوابه من وجوه:
أحدها: أن تداخل الأجسام المحال أن يتداخل جسمان كثيفان إحداهما في الآخر بحيث يكون حيزهما واحدا وأما أن يدخل جسم لطيف في كثيف يسري فيه فهذا ليس بمحال.
الثاني: أن هذا باطل بصور كثيرة منها دخول الماء في العود والسحاب ودخول النار في الحديد ودخول الغذاء في جميع أجزاء البدن ودخول الجن في المصروع فالروح للطافتها لا يمتنع عليها مشابكة البدن والدخول في جميع أجزائه.
الثالث: أن حيز النفس البدن وحيزه مكانه المفصل عنه وهذا ليس بتداخل ممتنع فإذا فارقته صار لها حيز آخر غير حيزه وحينئذ فلا يتداخلان بل يصير لكل منهما حيز يخصه، وبالجملة فدخول الروح في البدن ألطف من دخول الماء في الثرى والدهن في البدن، فهذه الشبهة الفاسدة لا يعارض بها ما دل عليها نصوص الوحي والأدلة العقلية. وباللّه التوفيق.
===============
المسألة العشرون (وهي هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران؟)
فاختلف الناس في ذلك.
فمن قائل: أن مسماهما واحد وهم الجمهور.
ومن قائل: أنهما متغايران، ونحن نكشف سر المسألة بحول اللّه وقوته فنقول النفس تطلق على أمور:
أحدها: الروح قال الجوهري النفس الروح يقال خرجت نفسه قال أبو خراش:
نجا سالما والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزر
أي يحفن سيف ومئزر (و النفس والدم) يقال سالت نفسه وفي الحديث ما لا نفسه له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه (و النفس الجسد).
قال الشاعر:
نبئت أن بني تميم أدخلوا ... أبناءهم تامور النفس المنذر
والتامور الدم (و النفس العين) يقال أصابت فلانا أي عين.
قلت: ليس كما قال بل النفس هاهنا الروح ونسبة الإضافة إلى العين وسع لأنها تكون بواسطة النظر المصيب والذي أصابه إنما هو نفس العائن كما تقدم.
قلت: والنفس في القرآن تطلق على الذات بجملتها كقوله تعالى:
﴿فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ﴾ [النور:61] وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ [النحل:111] وقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ ٣٨﴾ [المدثر:38] وتطلق على الروح وحدها كقوله تعالى: ﴿يَـٰۤأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧﴾ [الفجر:27] وقوله تعالى: ﴿أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ﴾ [الأنعام:93] وقوله تعالى: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ﴾ [النازعات:40] وقوله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف:53].
وأما الروح فلا تطلق على البدن بانفراده ولا مع النفس، وتطلق الروح على القرآن الذي أوحاه اللّه تعالى إلى رسوله قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى:52].
وعلى الوحي الذي يوحيه إلى أنبيائه ورسله قال تعالى: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ [غافر:15] وقال تعالى: ﴿يُنَزِّلُ ٱلۡمَلَـٰۤئِكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۤ أَنۡ أَنذِرُوۤاْ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ ٢﴾ [النحل:2] وسمى ذلك روحا لما يحصل به من الحياة النافعة فإن الحياة بدونه لا تنفع صاحبها البتة بل حياة الحيوان البهيم خير منها وأسلم عاقبة.
وسميت الروح روحا لأن بها حياة البدن وكذلك سميت الريح لما يحصل بها من الحياة وهي من ذوات الواو ولهذا تجمع على أرواح. قال الشاعر:
إذا هبت الأرواح من نحو أرضكم ... وجدت لمسرها على كبدي بردا
ومنها الروح والريحان والاستراحة، فسميت النفس روحا لحصول الحياة بها وسميت نفسا إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها، وإما من تنفس الشيء إذا خرج فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفسا، ومنه النفس بالتحريك، فإن العبد كلما نام خرجت منه فإذا استيقظ رجعت إليه فإذا مات خرجت خروجا كليا فإذا دفن عادت إليه فإذا سئل خرجت فإذا بعث رجعت إليه.
فالفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات، وإنما سمي الدم نفسا لأن خروجه الذي يكون معه الموت يلازم خروج النفس وأن الحياة لا تتم به كما تتم إلا بالنفس فلهذا قال:
تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل
ويقال فاضت نفسه وخرجت نفسه وفارقت نفسه كما يقال خرجت روحه وفارقت ولكن الفيض الاندفاع وهلة واحدة ومنه الإفاضة وهي الاندفاع بكثرة وسرعة لكن أفاض إذا رفع باختياره وإراداته وفاض إذا اندفع قسرا وقهرا فاللّه سبحانه هو الذي يقضيها عند الموت فتفيض هي.
===========
فصل
وقالت: فرقة أخرى من أهل الحديث والفقه والتصوف: الروح غير النفس، قال مقاتل بن سليمان: للإنسان حياة وروح ونفس فإذا نام خرجت نفسه التي يعقل بها الأشياء ولم تفارق الجسد بل تخرج كحبل ممتد له شعاع فيرى الرؤيا بالنفس التي خرجت منه وتبقى الحياة والروح في الجسد فيه يتقلب ويتنفس فإذا حرك رجعت إليه أسرع من طرفة عين فإذا أراد اللّه عز وجل أن يميته في المنام أمسك تلك النفس التي خرجت، وقال أيضا إذا نام خرجت نفسه فصعدت إلى فوق فإذا رأت الرؤيا رجعت فأخبرت الروح ويخبر الروح فيصبح يعلم أنه قد رأى كيت وكيت.
قال أبو عبد اللّه بن منده: ثم اختلفوا في معرفة الروح والنفس فقال بعضهم النفس طينية نارية والروح نورية روحانية.
و قال: بعضهم الروح لاهوتية [1] والنفس ناسوتية [2] وأن الخلق بها ابتلى.
و قالت طائفة: وهم أهل الأثر أن الروح غير النفس، والنفس غير الروح وقوام النفس بالروح، والنفس صورة العبد، والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها ولا عدو أعدى لابن آدم من نفسه، فالنفس لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها، والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها، وجعل الهوى تبعا للنفس، والشيطان تبع النفس والهوى، والملك مع العقل والروح، واللّه تعالى يمدهما بإلهامه وتوفيقه.
و قال بعضهم: الأرواح من أمر اللّه أخفي حقيقتها وعلمها على الخلق.
و قال بعضهم: الأرواح نور من اللّه وحياة من حياة اللّه.
ثم اختلفوا في الأرواح هل تموت بموت الأبدان والأنفس أو لا تموت؟
فقالت طائفة: الأرواح لا تموت ولا تبلى.
و قالت جماعة: الأرواح على صورة الخلق لها أيد وأرجل وأعين وسمع وبصر ولسان.
و قالت طائفة: للمؤمن ثلاثة أرواح، وللمنافق والكافر روح واحدة.
و قال بعضهم للأنبياء والصديقين خمس أرواح.
و قال بعضهم: الأرواح روحانية خلقت من الملكوت، فإذا صفت رجعت إلى الملكوت.
قلت: أما الروح التي تتوفى وتقبض فهي روح واحدة، وهي النفس. وأما ما يؤيد اللّه به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح كما قال تعالى:
﴿أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ [المجادلة:22] وكذلك الروح الذي أيد بها روحه المسيح ابن مريم كما قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [المائدة:110] وكذلك الروح التي يلقيها على من يشاء من عباده هي غير الروح التي في البدن.
و أما القوى التي في البدن فإنها تسعى أيضا أرواحا فيقال الروح الباصر والروح السامع والروح الشام، فهذه الأرواح قوى مودعة في البدن تموت بموت الأبدان، وهي غير الروح التي لا تموت بموت البدن ولا تبلى كما يبلى، ويطلق الروح على أخص من هذا كله وهو قوة المعرفة باللّه والإنابة إليه ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فإذا فقدتها الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه، وهي الروح التي يؤيد بها أهل ولايته وطاعته، ولهذا يقول الناس فلان فيه روح، وفلان ما فيه روح وهو قصبة فارغة ونحو ذلك.
فللعلم روح، وللإحسان روح، وللإخلاص روح، وللمحبة والإنابة روح، وللتوكل والصدق روح، والناس متفاوتون في هذه الأرواح أعظم تفاوت منهم من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانيا، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضيا بهيميا، واللّه المستعان.
هامش
أي إلهية.
أي إنسانية.
===
المسألة الحادية والعشرون (وهي هل النفس واحدة أم ثلاث؟)
فقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاث أنفس، نفس مطمئنة، ونفس لوّامة، ونفس أمّارة، وأن منهم من تغلب عليه هذه ومنهم من تغلب عليه الأخرى، ويحتجون على ذلك بقوله تعالى: ﴿يَـٰۤأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧﴾ [الفجر:27] وبقوله تعالى: ﴿لَاۤ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَـٰمَةِ ١ وَلَاۤ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ ٢﴾ [القيامة:1–2] وبقوله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف:53] والتحقيق أنها نفس واحدة ولكن لها صفات فتسمى باعتبار كل صفة باسم فتسمى مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته ومحبته وللإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به والسكون إليه.
فإن سمة محبته وخوفه ورجائه منها قطيع النظر عن محبة غيره وخوفه ورجائه، فيستغني بمحبته عن حب ما سواه وبذكره عن ذكر ما سواه وبالشوق إليه وإلى لقائه عن الشوق إلى ما سواه، فالطمأنينة إلى اللّه سبحانه حقيقة ترد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه، وترد قلبه الشارد إليه حتى كأنه جالس بين يديه؟ يسمع به ويبصر به ويتحرك به ويبطش به، فتسري تلك الطمأنينة في نفسه وقلبه ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة تجذب روحه إلى اللّه ويلين جلده وقلبه ومفاصله إلى خدمته والتقرب إليه ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقة إلا باللّه وبذكره وهو كلامه الذي أنزله على رسوله كما قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ ٢٨﴾ [الرعد:28].
فإن طمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج عنه، وهذا لا يتأتى بشي ء سوى اللّه تعالى وذكره البتة، وأما ما عداه فالطمأنينة إليه وبه غرور والثقة به عجز قضى اللّه سبحانه وتعالى قضاء لا مرد له أن من اطمأن إلى شي ء سواه أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته كائنا من كان، بل لو اطمأن إلى سواه أغراضها بسهام البلاء ليعلم عباده وأولياؤه أن المتعلق بغيره مقطوع، والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع.
و حقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة أن تطمئن في باب معرفة أسمائه وصفاته ونعوت كماله إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله فتتلقاه بالقبول. والتسليم، والإذعان، وانشراح الصدر له؛ وفرح القلب به.
فإنه معرف من معرفات الرب سبحانه إلى عبده على لسان رسوله، فلا يزال القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه، وتكلمه بالوحي بشاشة قلبه، فينزل عليه نزول الماء الزلال على القلب الملتهب بالعطش، فيطمئن إليه، ويسكن إليه، ويفرح به، ويلين له قلبه ومفاضله حتى كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل، بل يصير ذلك لقلبه بمنزلة رؤية الشمس في الظهيرة أمينة فلو خالفه في ذلك من بين شرق الأرض وغربها لم يلتفت إلى خلافهم.
و قال: إذا استوحش من الغربة قد كان الصديق الأكبر مطمئنا بالإيمان وحده وجميع أهل الأرض يخالفه وما نقص ذلك من طمأنينته شي ء. فهذا أول درجات الطمأنينة ثم لا يزال يقوى كلما سمع بآية متضمنة لصفة من صفات ربه.
و هذا أمر لا نهاية له فهذه الطمأنينة أصل أصول الإيمان التي عليه بناؤه ثم يطمئن إلى خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ وما بعدها من أحوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك كله عيانا وهذا حقيقة اليقين الذي وصف به سبحانه وتعالى أهل الإيمان حيث قال: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة:4] فلا يحصل الإيمان بالآخرة حتى يطمئن القلب إلى ما أخبر اللّه سبحانه به عنها طمأنينة إلى الأمور التي لا يشك فيها ولا يرتاب.
فهذا هو المؤمن حقا باليوم الآخر كما في حديث حارثة أصبحت مؤمنا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال «عرفت نفسي عن الدنيا وأهلها وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وإلى أهل الجنة يتزاورون فيها وأهل النار يعذبون فيها» فقال: عبد نور اللّه قلبه.
==
فصل الطمأنينة
و الطمأنينة إلى صفات الرب تعالى وصفاته نوعان: طمأنينة إلى الإيمان بها وإثباتها واعتقادها. وطمأنينة إلى ما تقتضيه وتوجيه من آثار المعبودية، مثاله الطمأنينة إلى القدر وإثباته والإيمان به يقتضي الطمأنينة إلى مواضع الأقدار التي لم يؤمر العبد بدفعها ولا قدرة له على دفعها فيسلم لها ويرضى بها ولا يسخط ولا يشكو ولا يضطرب إيمانه فلا ييأس على ما فاته ولا يفرح بما أتاه لأن المصيبة فيه مقدرة قبل أن تصل إليه وقبل أن يخلق كما قال تعالى: ﴿مَاۤ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيۤ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَاۤۚ إِنَّ ذَ ٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرࣱ ٢٢﴾ [الحديد:22]﴿لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [الحديد:23] وقال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن:11] قال غير واحد من السلف هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند اللّه فيرضى ويسلم، فهذه طمأنينة إلى أحكام الصفات وموجباتها وآثارها في العالم وهي قدر زائد على الطمأنينة بمجرد العلم بها واعتقادها. وكذلك سائر الصفات وآثارها ومتعلقاتها كالسمع والبصر والعلم والرضا والغضب والمحبة فهذه طمأنينة للإيمان.
و أما طمأنينة الإحسان فهي الطمأنينة إلى أمره امتثالا وإخلاصا ونصحا فلا يقدم على أمره إرادة ولا هوى ولا تقليدا فلا يساكن شبهة تعارض خبره ولا شهوة تعارض أمره بل إذا مرت به أنزلها منزلة الوساوس التي لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يجدها، فهذا كما قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صريح الإيمان، وعلامة هذه الطمأنينة أن يطمئن من قلق المعصية وانزعاجها إلى سكون التوبة وحلاوتها وفرحتها ويسهل عليه ذلك بأن يعلم أن اللذة والحلاوة والفرحة في الظفر بالتوبة. وهذا أمر لا يعرفه إلا من ذاق الأمرين وباشر قلبه آثارهما فالتوبة طمأنينة تقابل ما في المعصية من الانزعاج والقلق ولو فتش العاصي عن قلبه لوجد حشوه المخاوف والانزعاج والقلق والاضطراب وإنما يواري عنه شهود ذلك سكر الغفلة والشهوة فإن لكل شهوة سكرا يزيد على سكر الخمر وكذلك الغضب له سكرا أعظم من سكر الشراب.
و لهذا ترى العاشق والغضبان يفعل ما لا يفعله شارب الخمر. وكذلك يطمئن من قلق الغفلة والإعراض إلى سكون الإقبال على اللّه حلاوة ذكره وتعلق الروح بحبه ومعرفته فلا طمأنينة للروح بدون هذا أبدا ولو أنصفت نفسها لرأتها إذا فقدت ذلك في غاية الانزعاج والقلق والاضطراب ولكن يواريها السكر فإذا كشف الغطاء تبين له حقيقة ما كان فيه.  
=======

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نور الدغاء

  قلت المدون سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القديرالمقتدرالملك القدوس السلام المؤمن ال...