دعائي لربي

 

قلت المدون سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القديرالمقتدرالملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني أسألك أن تَشفني شفاءا لا يغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تيسر لي أمري وأن تحلل عُقَدْ لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك يا ربي اللهم آمين .

الثلاثاء، 13 سبتمبر 2022

العواصم من القواصم - ط دار التراث المؤلف أبو بكر بن العربي المالكي{نسخة وورد من مشكاة}

 

 (1)
تأليف: القاضي أبي بكر العربي (468ـ 543 هـ )

... ...
العواصم من القواصم
... ... ... في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي
... ... ... صلى الله عليه وسلم
... ... ...
... ... ... ... ... تأليف
... ... ... ... القاضي أبي بكر العربي
... ... ... ... ... (468ـ 543 هـ )
... ... ... ... حققه وعلق على حواشيه
... ... ... ... محب الدين الخطيب
... ... ... ... ( 1303 ـ 1389هـ )
... ... رسالة تقدير ( من محب الدين الخطيب إلى رئاسة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمملكة العربية السعودية )
... ... وقع هذا الكتاب من أولياء الله وأنصار دينه وأحباب محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار موقع التقدير والرضا ، كما وقع من مبغضي الصحابة وشانئيهم موقع السخط والغيط
... ومن رسائل التقدير والتشجيع التي تلقيناها رسالة كريمة يراها القارئ في الصحفة التالية وهي صادرة عن ركن من أركان بيت العلم والهدى في الأرض المباركة أدام الله النفع بها )
... ... ... ...
[ ثم نقل صورة من الخطاب لم يتيسر نشره ]
... ... ... ********
( ناشر الكتاب على الشبكة الإنترنتية يسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذا العمل في ميزان حسنات من ساهم في نشره وطبعه وتوزيعه والدلالة عليه وأن يغفر له ولوالديه ولمن قال آمين )
... ...
[ نص الكتاب ] بسم الله الرحمن الرحيم
... وصلى الله وسلم على محمد وآله
قال صالح بن عبد الملك بن سعيد :
... قرأت على الإمام محمد أبي بكر بن العربي رضي الله عنه قال :
... الحمد لله رب العالمين ، اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم . وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنك حميد مجيد .

... اللهم نستمد بك المنحة ، كما نستدفع بك المحنة ، ونسألك العصمة ، كما نستوهب منك الرحمة .
... ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، ويسر لنا العلم كما علمتنا ، وأوزعنا شكر ما آتيتنا ، وانهج لنا سبيلا يهدي إليك إليك ، وأنت على كل شئ قدير . ...
... ... ...
... ... قاصمة الظهر
... بعد أن استأثر الله بنبيه صلى الله عليه وسلم ـ وقد أكمل له ولنا دينه ، وأتم عليه وعلينا نعمته ، كما قال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} وما من شئ في الدنيا يكمل إلا وجاءه النقصان ، ليكون الكمال الذي يراد به وجه الله خاصة ، وذلك العمل والدار الآخرة ، فهي دار الله الكاملة . قال أنس :" ما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا " .
... واضطربت الحال ، ثم تدارك الله الإسلام ببيعة أبي بكر ، فكان موت النبي صلى الله عليه وسلم ( قاصمة الظهر ) ومصيبة العمر :

... فأما عليٌ فاستخفى في بيته مع فاطمة (1) وأما عثمان فسكت .
__________
(1) لأن فاطمة وجدت على أبي بكر لما أصر على العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا نورث ما تركناه صدقة " وسيأتي تفصيل ذلك في ص 48ـ 50 ، فعاشت فاطمة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر متعزلة في بيتها ومعها علي كرم الله وجهه قال الحافظ ابن كثير في البداية ( 6/333) : " فلما مرضت جاءها الصديق فدخل عليها فجعل يترضاها فرضيت . == == رواه البيهقي من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي ثم قال : وهذا مرسل حسن بإسناد صحيح . وقال البخاري "ك64ب38ج5ص8283) من حديث عروة عن عائشة : " فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها ، وكان لعلي من الناس وجه في حياة فاطمة ، فلما توفيت استنكر على وجوه الناس ، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته . . . الخ " وبيعة علي هذه هي الثانية بعد بيعته الأولى في سقيفة بني ساعدة . وأضاف الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/249) أن علياً لم ينقطع عن صلاة من الصلوات خلف الصديق ، وخرج مع إلى ذي القصة لما خرج الصديق شاهراً سيفه يريد قتال أهل الردة .
... ويحتمل أن يكون مراد المؤلف باستخفاء علي ما كان منه ومن الزبير قبيل الاجتماع في سقيفة بني ساعدة ، وقد أشار عمر بن الخطاب إلى ذلك في خطبته الكبرى التي خطبها في المدنية في عقب ذي الحجة بعد آخر حجة حجها عمر ، وهذه الخطبة في مسند الإمام أحمد (1:55الطبعة الأولى ـ ج1رقم 391الطبعة الثانية ) من حديث ابن عباس .

... وأما عمر فأهجر وقال :" ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما واعده الله كما واعد موسى (1) ، وليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي الناس وأرجلهم (2)
__________
(1) ـ إشارة إلى قوله تعالى في سورة البقرة :51{ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة } ، وقوله سبحانه في سورة الأعراف :142{ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة و أتمنناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة }
(2) ـ في مسند أحمد (3/196الطبعة الأولى) حديث أنس بن مالك عن يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه :" ثم أرخى الستر ، فقبض في يومه ذلك ، فقام عمر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت ، ولكن ربه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى فمكث عن قومه أربعين ليلة . وإني لأرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقطع أيدي رجال من المنافقين وألسنتهم يزعمون ( أو قال : يقولون ) إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات ". وفي كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري (ك62 ب5) عن عائشة " …. فقام عمر يقول : " والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم .. والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك ، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ". ونقل أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال : قام عمر بن الخطاب يخطب الناس ويتوعد من قال " مات " بالقتل والقطع ، ويقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غشية لو قد قام قتل وقطع . وفي (5:241) من البداية والنهاية من حديث عائشة وهي تذكر الساعة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا ، فأذنت لهما . . . ثم قاما ، فلما دنوا من الباب قال المغيرة : يا عمر ، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : كذبت ، بل أنت رجل تحوسك ( أي تخالطك ) فتنة ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين ، ثم جاء أبو بكر . . وخرج إلى المسجد وعمر يخطب الناس ويقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفنى الله المنافقين .
... ومعنى أهجر : خلط في كلامه ، وهذى ، وأكثر من الكلام فيما لا ينبغي ، وذلك من هول ما وقع في نفس عمر من هذا الحديث العظيم ، فهو لا يكاد يصدقه .

.
... وتعلق بال العباس وعليٌ بأمر أنفسهما في مرض النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال العباس لعلي : " إني أرى الموت في وجوب بني عبدالمطلب ، فتعال حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كان هذا الأمر فينا علمناه(1).
... وتعلق بال العباس وعليٌ بميراثهما فيما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من فدك وبني النضير وخيبر(2).
__________
(1) ـ فأجابه علي رضي الله عنه ( إنا والله لئن سألنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطينها الناس بعده ، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم ". رواه البخاري في كتاب المغازي من صحيحه (ك64ب83ج5ص140ـ141) .
ونقله ابن كثير في البداية والنهاية (5:227و251) من حديث الزهري عن عبدالله بن كعب بن مالك عن ابن عباس . ورواه الإمام أحمد في مسنده ( 1:263و325الطبعة الأولى وج4رقم 2374وج5رقم 2999الطبعة الثانية ) .

(2) ـ سيأتي تفصيله في ص 48 عند الكلام على حديث " لا نورث ما تركناه صدقة ".

... واضطرب أمر الأنصار يطلبون الأمر لأنفسهم ، أو الشركة فيه مع المهاجرين(1).
__________
(1) ـ فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ، وبين ظهرانيهم سعد بن عبادة ، وهم يرون أن الأمر لهم ، لأن البلد بلدهم وهم أنصار الله وكتيبة الإسلام ، أما قريش فإن دافة منهم دفت ، فلا ينبغي أن تختزل الأمر من دون الأنصار ، وقال خطيب منهم ـ وهو الحباب بن المنذر ـ " أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب . منا أمير ومنكم أمير ". ( وجذيلها المحكك : هو أصل شجرتها الذي تتحكك به الإبل ، وعذيقها المرجب : نخلتها التي دعمت ببناء أو خشب لكثرة حملها ( ومع ذلك فقد كان رجل من الأنصار ـ وهو بشير بن سعد الخزرجي والد النعمان بن بشير ـ يسابق عمر إلى مبايعة أبي بكر ، وقبيل ذلك كان في السقيفة الرجلان الصالحان عويم بن ساعدة الأوسي ومعن بن عدي حليف الأنصار ولم تعجبهما هذه النزعة من الأنصار فخرجا وهما يريان أن يقضي المهاجرون أمرهم غير ملتفتين إلى أحد ، لكن حكمة أبي بكر ونور الإيمان الذي ملأ قلبه كان أبعد مدى وأحكم تدبيراً لهذه الملة في أعظم نوازلها .

... وانقطعت قلوب الجيش الذي كان قد برز مع أسامة بن زيد بالجرف (1).

... ... ... ... عاصمة
... فتدارك الله الإسلام والأنام ـ وانجابت [ الغمة ] انجياب الغمام ، ونفذ وعد الله باستئثار رسول الله (2) وإقامة دينه على التمام ، وإن كان قد أصاب ما أصاب من الرزية الإسلام ـ بأبي بكر الصديق رضي الله عنه(3).
__________
(1) ـ كان هذا الجيش سبعمائة ، والأمير عليهم أسامة بن زيد ، وكان قد ندبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسير إلى تخوم البلقاء ( شرق الأردن ) حيث قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وابن رواحة ، ولما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى أشار كثير من الصحابة ـ ومنهم عمر ـ أن لا ينفذ الصديق هذا الجيش لما وقع من الاضطراب في الناس ولا سيما في القبائل . نقل ابن كثير في البداية والنهاية (6:304ـ 305) حديث القاسم بن محمد بن أبي بكر وعمرة بنت سعيد الأنصارية عن عائشة قالت : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب قاطبة وأشربت النفاق ، والله لقد نزل بي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها ، وصار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كأنهم معزى مطيرة في حش بأرض مسبعة ، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بخطلها وعنانها وفصلها .
(2) ـ استأثر الله بفلان : إذا مات .
(3) ـ أي فتدراك الله الإسلام والأنام بأبي بكر .

... وكان ـ إذ مات النبي صلى الله عليه وسلم ـ غائباً في ماله بالسنح(1) ، فجاء إلى منزل ابنته عائشة رضي الله عنها ـ وفيه مات النبي صلى الله عليه وسلم ـ فكشف عن وجهه ، وأكب عليه يقبله وقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، طبت حياً وميتاً ـ والله لا يجمع الله عليك الموتتين، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها ، ثم خرج إلى المسجد ـ والناس فيه ، وعمر يأتي بهجر من القول كما قدمنا ـ فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :" أما بعد أيها الناس ، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ـ ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ". ثم قرأ { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل إفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين } " آل عمران :144" فخرج الناس يتلونها في سكك المدينة
__________
(1) ـ في البداية والنهاية للحافظ ابن كثير (5:244) كان الصديق قد صلى بالمسلمين صلاة الصبح ، وكان إذ ذاك قد أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم من غمرة ما كان فيه من الوجع ، وكشف سترة الحجرة ونظر إلى المسلمين وهم صفوف في الصلاة خلف أبي بكر ، فأعجبه ذلك وتبسم صلى الله عليه وسلم حتى هم المسلمون أن يتركوا ما هم فيه من الصلاة لفرحهم به ، وحتى أراد أبو بكر أن يتأخر ليصل الصف ، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن يمكثوا كما هم ، وأرخى الستارة ، وكان آخر العهد به صلى الله عليه وسلم إلا قد أقلع عنه الوجع ، وهذا يوم بنت خارجة ـ يعني إحدى زوجتيه وكان ساكنة بالسنح شرقي المدينة ـ فركب الفرس وذهب إلى = = منزله ، وتوفي صلى الله عليه وسلم حين اشتد الصحى . . . فذهب سالم بن عبيد وراء الصديق فأعلمه بموت النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الصديق حين بلغه الخبر ، وكان منه ما سيذكره المؤلف والسنح منازل بني الحارث بن الخزرج في عوالي المدينة ، بينها وبين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ميل واحد .

كأنها لم تنزل إلا ذلك اليوم (1).
__________
(1) ـ رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة من صحيحه من حديث عائشة وفي سنن الدارقطني (3:406) والبداية والنهاية للحافظ ابن كثير (5/242) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد أعلام المسلمين عن عائشة أم المؤمنين التي وقعت هذه الحوادث في بيتها وفي المسجد النبوي الذي يطل بيتها عليه ، وجميع دواوين السنة سجلت هذا الموقف العظيم للصديق الأكر بأصح الأحاديث ، وألفاظها قريب بعضها من بعض .

... واجمعت الأنصار في سقيفة بين ساعدة يتشاورون ، ولا يدرون ما يفعلون ، [و بلغ ذلك المهاجرين ] فقالوا : نرسل إليهم يأتوننا ، فقال أبو بكر ، بل نمشي إليهم ، فسار إليهم المهاجرون ، منهم أبو بكر وعمر أبو عبيدة ، فتراجعوا الكلام ، فقال بعض الإنصار : منا أمير ومنكم أمير (1). فقال أبو بكر كلاماً كثيرا مصيباً ، يكثر ويصيب ، منه : نحن الأمراء وأنتم الوزراء ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الأئمة من قريش " (2) وقال :" أوصيكم بالأنصار خيراً : أن تقبلوا من محسنهم ، وتتجاوزوا عن مسيئهم(3)
__________
(1) ـ الذي قال ذلك من خطباء الأنصار الحباب بن المنذر .
(2) ـ الحديث في مسند الطيالسي رقم 926 عن أبي برزة ، وبرقم 2133منه عن أنس وفي كتاب الإحكام من صحيح البخاري عن معاوية أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين " وعن عبدالله بن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان " وفي مسند الإمام أحمد (3/129 الطبعة الأولى ) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام باب البيت ونحن فيه فقال " الأئمة من قريش إن لهم عليكم حقاً . . . الخ " ورواه الإمام أحمد أيضاً من المسند [3/183) عن أنس قال : كنا في بيت رجل من الأنصار فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقف فأخذ بعضادة الباب فقال : " الإئمة من قريش ، ولهم عليكم حق ، ولكم مثل ذلك . . . الخ " ورواه الإمام أحمد كذلك (4:421) عن أبي برزة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الإئمة من قريش : إذا استرحموا رحموا ، وإذا عاهدوا وفوا ، وإذا حكموا عدلوا ، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
(3) ـ في كتاب مناقب الأنصار من صحيح البخاري من حديث هشام بن زيد بن أنس قال : سمعت أنس بن مالك يقول : مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار يبكون ( والظاهر أن ذلك كان في مرض النبي صلى الله عليه وسلم الذي مات فيه ) فقال : ما يبكيكم ؟ قالوا ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد . قال فصعد المنبر ـ ولم يصعده بعد ذلك اليوم ـ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :" أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشى وعيبتي ، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم ، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ". وبعده في صحيح البخاري حديث لعكرمة عن ابن عباس ، وحديث قتادة عن أنس بمعنى ذلك ، وقريب من ذلك في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ، وفي سنن الترمذي عن ابن عباس .

". إن الله سمانا ( الصادقين وسماكم ( المفلحين (1) وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنا فقال : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } ( التوبة :119) إلى غير ذلك من الأقوال المصيبة والأدلة القوية ، فتذكر الأنصار ذلك وانقادت إليه ، وبايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه (2).
__________
(1) ـ في سورة الحشر للفقراء الذين إخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله ، أولئك هم ( الصادقون ) والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدروهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم ( المفلحون ) .
(2) ـ نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/247) من حديث الإمام أحمد عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف الزهري ( ابن أخت أمير المؤمنين عثمان ) خطبة أبي بكر في سقيفة بن ساعدة ، ومنها قوله : لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لو سلك الأنصار وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار " ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد " قريش ولاة هذا الأمر : فبرُّ الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم " ، فقال له سعد : " صدقت " نحن الوزراء وأنتم الأمراء ".

... وقال أبوبكر لأسامة : انفذ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : كيف ترسل هذا الجيش والعرب قد اضطربت عليك !؟ فقال : لو لعبت الكلاب بخلاخيل نساء المدينة ، ما رددت جيش أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
__________
(1) ـ نقل الحافظ ابن كثير في البداية (6/305) عن الحافظ أبي بكر البيهقي حديث محمد بن يوسف الفريابي الحافظ (قال البخاري : كان أفضل أهل زمانه ـ أي الفريابي ) عن عباد بن كثير الرملي أحد شيوخه ( قال ابن المديني ـ كان ثقة لا بأس به أي شيخ الفريابي ) عن عبدالرحمن بن هرمز الأعرج [ أحد التابعين ، توفي بالأسكندرية ) عن أبي هريرة قال :" والله الذي لا إله إلا هو ، لولا أبو بكر استخلف ما عبد الله ، " ثم قال الثانية ، ثم قال الثالثة ، فقيل له : مه يا أبا هريرة . فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام ، فلما نزل بذي خشب قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وارتدت العرب حول المدينة ، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا بكر رد هؤلاء ، توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة !؟ فقال " والذي لا إله غيره ، لو جرّت الكلاب بأرجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا حللت لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم " فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا : أن لهؤلاء قوة ما خرجوا مثل هؤلاء من عندهم ، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم ، فلقوا الروم ، فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين ، فتثبتوا على الإسلام .

... وقال له عمر وغيره : إذا منعك العرب الزكاة فاصبر عليهم . فقال : " والله لو منعوني عقالا بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه . والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة "(1)
__________
(1) ـ لما مضى جيش أسامة في طريقه إلى شرق الأردن جعلت وفود القبائل تقدم المدينة ، يقرون بالصلاة ويمتنعون عن أداء الزكاة . قال ابن كثير (6/311) ومنهم من احتج بقوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } قالوا : فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا ، وقد تكلم الصحابة مع الصديق في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة ويتألفهم حتى روى الجماعة في كتبهم ـ سوى ابن ماجة ـ عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر : علام تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوأ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا قالوها فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها " فقال أبو بكر :" والله لو منعوني عناقاً ( وفي رواية عقالا ) كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعها " إن الزكاة حق المال ، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " قال عمر : فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال ، فعرفت أنه الحق . وهذا الحديث في مسند أحمد (1و11 و19و35ـ36) من حديث عبيد الله ابن عبدالله بن عتبة عن أبي هريرة . وفي البداية والنهاية (6/312) قال القاسم بن محمد (ابن أبي بكر الصديق وهو أحد الفقهاء السبعة ) اجتمعت أسد وغطفان وطئ على طليحة الأسدي ، وبعثوا وفوداً إلى المدينة فنزلوا على وجوه الناس ، فأنلوهم إلا العباس ، فحملوهم إلى أبي بكر الصديق على أن يقيموا ولا يؤتوا الزكاة فعزم الله لأبي بكر على الحق وقال " لو معنوني عقالا لجاهدتهم " .

... قيل ومع من نتقاتلهم ؟ قال : " وحدي ، حتى تنفرد سالِفَتي (1) "
... وقدَّم الأمراء على الأجناد والعمال في البلاد مختاراً لهم ، مرتئياً فيهم ، فكان ذلك من أسد عمله ، وأفضل ما قدمه للإسلام (2).
__________
(1) ـ السالفة ، صفحة العنق ، وهما سالفتان من جانبيه ، ولا تنفرد إحداهما عما يليها إلا بالموت .
(2) ـ وفي طليعة هؤلاء القواد : أبو عبيدة عامر بن عبدالله بن الجراح الفهري ، وعمرو بن العاص السهمي ، وخالد بن الوليد المخزومي ، وخالد بن سعيد بن العاص الأموي ، ويزيد بن أبي سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، والمهاجر بن أبي أمية شقيق أم المؤمنين أم سلمة ، وشرحبيل بن حسنة ، ومعاوية بن أبي سفيان وعرفجة بن هرثمة البارقي ، والعلاء بن الحضرمي حليف بني أمية ، والمثنى بن حارثة الشيباني ، وحذيفة بن محصن الغطفاني ، وفي طليعة ولاته : عتاب بن أسد الأموي ، وعثمان بن العاص الثقفي ، وزياد بن لبيد الأنصاري وأبو موسى الأشعري ، ومعاذ بن جبل ، ويعلى بن منبه ، وجرير بن عبدالله البجلي ، وعياض بن غنم ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وعبدالله بن ثور أحد بني غوث ، وسويد بن مقرن المزني .

وقال لفاطمة وعلي والعباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نورث ما تركناه صدقة ". فذكر الصحابة ذلك (1)
__________
(1) ـ في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري حديث الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نورث ، ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد من هذا المال ـ يعني مال الله ـ ليس لهم أن يزيدوا على المأكل " وإني والله لا أغير شيئا من صدقات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأعملن فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتشهد عليٌ ثم قال : إنا عرفنا يا أبا بكر فضيلتك ( وذكر قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم ) فتكلم أبو بكر فقال : والذي نفسي بيده ، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ أن أصل من قرابتي . وأوسع منه في كتاب المغازي بباب غزوة خيبر من صحيح البخاري .

... وفي كتاب الوصايا من صحيح البخاري وكتاب فرض الخمس من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يقتسم ورثتي ديناراً " ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة " قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2/158) قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا نورث ، ما تركناه صدقة " رواه عنه صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمن بن عوف ، والعباس بن عبد المطلب ، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو هريرة والرواية عن هؤلاء ثابتة في الصحاح والمسانيد ، وقال قبل ذلك (2/167) : إن الله تعالى صان الأنبياء أن يورثوا دنيا ، لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وورثوها لورثتهم ثم إن من وراثة النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه ومنهم عائشة بنت أبي بكر الصديق وقد حرمت نصيبها بهذا الحديث النبوي ، ولو جرى أبو بكر مع ميله للفطرة لأحب أن ترث ابنته .
... وفي كتاب فرض الخمس من صحيح البخاري حديث ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن عائشة أم المؤمنين أخبرت أن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نورث ، ما تركناه صدقة " . . . ، فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال :" لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به . فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ " .
... وفي الباب نفسه من صحيح البخاري من حديث الإمام مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس عن الحدثان النصري أنه قال : بينا أنا جالس في أهل حين متع النهاري ، إذا رسول عمر بن الخطاب ، فقال : أجب أمير المؤمنين ، فانطلقت معه . فبينا أنا جالس عنده أتاه حاجبه يرفأ فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص يستأذنون ؟ قال : نعم ، فأذن لهم . . . ثم جلس يرفأ يسيراً ثم قال : هل لك في علي وعباس ؟ قال نعم . فأذن لهما ، فدخلا فسلما فجلسا فقال عباس := = يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ـ وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من بين النضير ـ فقال الرهط ، عثمان وأصحابه : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الاخر ، قال عمر : تَيدكم . أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا نورث ، ما تركناه صدقة " يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ؟ قال الرهط : قد قال ذلك ، فأقبل عمر على علي وعباس فقال : أنشدكما الله ، أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك ؟ قالا : قد قال ذلك : ( وبعد أن ذكر أنه صلى الله عليه وسلم كان ينفق على أهل سنتهم من هذا المال ثم يجعل ما بقي مال الله ، واستشهد على ذلك فشهدوا ، قال ) ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضها ، فعمل بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله يعلم أنه فيها لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم توفي الله أبا بكر ، فكنت أنا ولي أبي بكر ، فقبضها سنتين من إمارتي ، أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما عمل فيها أبو بكر والله يعلم أني فيها لصادق بار راشد تابع للحق . ثم جئتماني تكلماني وكلمتكما واحدة وأمركما واحد ، جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وجائني هذا ـ يريد علياً ـ يريد نصيب امرأته من أبيها ، فقلت لكما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا نورث ، ماتركناه صدقة ". فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت : إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما عمل فيها أبو بكر ، وبما عملتُ فيها منذ وليتها . فقلتما : ادفعها إلينا . فبذلك دفعتها إليكما فأنشدكم بالله ، هل دفعتها إليكما بذلك ؟ قال : نعم . قال : أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك ! فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، لا أقضي فيها بقضاء غير ذلك ، فإن عجزتما عنها فادفعها إليّ فإني أكفيكماها .
... وأورد البخاري حديث مالك بن أوس هذا في كتاب المغازي من صحيحه من حديث شعيب عن الزهري عن مالك بن أوس وفي كتاب النفقات من صحيحه وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيحه . وانظر كتاب الفرائض من صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد (1: 13الطبعة الأولى )
... وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3:231) وقد تولى عليٌّ بعد ذلك ، وصارت فدك وغيرها تحت حكمه ، ولم يعط لأولاد فاطمة ولا زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولا ولد العباس شيئاً من ميراثه . . . الخ

وقال سمعته صلى الله عليه وسلم يقول :" لا يدفن نبي إلا حيث يموت (1)" وهو في ذلك كله رابط الجأش ، ثابت العلم والقدم في الدين ثم استخلف عمر ، فظهرت بركة الإسلام ، ونفذ الوعد الصادق في الخليفتين (2)
__________
(1) ـ في كتاب الجنائز من موطأ مالك أن مالكاً بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم الإثنين ودفن يوم الثلاثاء وصلى الناس أفذاذاً لا يؤمهم أحد : فقال ناس : يدفن عند المنبر . وقال آخرون : يدفن بالبقيع فجاء أبو بكر الصديق فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه ". قال الحافظ ابن عبدالبر : صحيح من وجوه مختلفة وأحاديث شتى جمعها مالك . وفي كتاب الجنائز من جامع الترمذي حديث عائشة : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه ، فقال أبو بكر : إني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ما نسيته قال " ما قبض نبياً إلا في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه " ادفنوه في موضع فراشه . وفي تاب الجنائز من سنن ابن ماجة عن ابن عباس لقد اختلف المسلمون في المكان الذي يحفر له فقال قائلون : يدفن في مسجده وقال قائلون : " يدفن مع أصحابه ، فقال أبو بكر : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض " ورواه ابن إسحاق ( في السيرة لابن هاشم 3:103) من حديث عكرمة عن ابن عباس : وانظر البداية والنهاية (5/266ـ268) .
(2) ـ وهو وعد الله عز وجل في سورة النور : 55{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } ولقد كان المجتمع الإسلامي ـ بتوجيه هذين الخليفتين ـ أسعد مجتمع إنساني عرفه التاريخ ، لأن الناس ـ من ولاة ورعية ـ كانوا يتعاملون بالإيثار ، وكان الواحد منهم من جهد يكتفيب بما يفي حاجته ويبذل من ذات نفسه أقصى ما يستطيع أن يتسخرج منها من جهد لإقامة الحق في الإرض وتعميم الخير بين الناس ، ويلقى الرجل الخير منهم رجلا لا تزال تنزع به نزعات الشر ، فلا == =يزال به حتى يخدر عنصر الشر المتوثبة في نفسه ، ويوقظ ما كمن فيها من عناصر الخير إلى أن يكون من أهل الخير المنتسبين إلى الإسلام حتى يومنا هذا طوائف امتلآت قلوبهم بالضغن حتى على أبي بكر وعمر فضلا عمن استعان بهم أبو بكر وعمر من أ÷ل الفضل والإحسان ، فصنعوا لهم من الأخبار الكاذبة شخصيات أخرى غير شخصياتهم التي كانوا عليها في نفس الأمر ليقنعوا أنفسهم بأنهم إنما أبغضوا أناسا يستحقون منهم هذه البغضاء ولهذا امتلأ التاريخ الإسلامي بالأكاذيب ، ولن تتجدد للمسلمين نهضة إلا إذا عرفوا سلفهم على حقيقته واتخذوا منه قدوة لهم ولن يعرفوا سلفهم على حقيقته إلا بتطهير التاريخ الإسلامي مما لصق به .

ثم جعلها عمر شورى ، . . .
فأخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه من الأمر حتى ينظر ويتحرى فيمن يقدم(1) قدم عثمان ، فكان عند الظن به : ما خالف له عهداً ، ولا نكث عقداً ، ولا اقتحم مكروهاً ولا خالف سنة (2)
__________
(1) ـ في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري حديث عمرو بن ميمون أحد تلاميذ معاذ وابن مسعود ومن شيوخ الشعبي وسيعد ابن جبير وطبقتهما ، وقد اشتمل هذا الحديث على خبر مقتل أمير المؤمنين عمر ، وكيف جعل عمر الخلافة شورى بين الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ، وكيف اخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه منها ، ثم انتهى إلى تقديم عثمان وهذا الحديث من أصح ما ثبت في هذا الموضوع وأجوده . واقراء بعد ذلك ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية عن موقف عمر في جعله الأمر شورى ( منهاج السنة 3:168ـ172) وفيه إرشاد دقيق إلى ما كان عليه بنو هاشم وبنو أمية من الاتفاق والمحبة والتعاون في أيام النبي صلى الله عليه وسلم و[بي بكر وعمر ، وأن عثمان وعلياً كان أحدهما أقرب إلى صاحبه من سائر الأربعة إليهما ونقل ابن تيمية (3/223ـ234) قول الإمام أحمد : لم يتفق الناس على بيعة كما اتفقوا على بيعة عثمان : ولاه المسلمون بعد تشاورهم ثلاثة أيام وهم مؤتلفون متحابون متوادون معتصمون بحبل الله جميعاً وقد أظهرهم الله وأظهر الناس بهم ما بعث به نبيه من الهدى ودين الحق ، ونصرهم على الكفار ففتح بهم بلاد للشام والعراق وبعض خراسان . . الخ .
(2) ـ وكيف لا يكون عثمان عند الظن به وقد شهد له بطهارة السيرة وحسن الخاتمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى قال الحافظ ابن حجر في ترجمة عثمان من ( الإصابة ) جاء من أوجه " متواترة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر عثمان بالجنة ، وعده من أهل الجنة وشهد له بالشهادة والحديث الذي يتواتر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرتاب فيه ولا يجنح إلى غير مدلوله إلا الذي يرضى لنفسه بأن يقتحم أبوب جهنم ، وروى الترمذي من طريق الحارث بن عبدالرحمن عن طلحة أحد العشرة المبشرين بالجن ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لكل نبي رفيق ، ورفيقي بالجنة عثمان " وقال الحافظ ابن عبد البر في ترجمة عثمان من كتاب ( الإستيعاب ) ثتب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " سألت ربي عزوجل أن لا يدخل النار أحدا صاهر إلى أو صاهرت إليه ". وشهادة أخرى من النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الإنسان الفاضل بتمنى ملها أبو بكر وعمر وعلي فقد روى الإمام مسلم في كتاب فضائل الصحابة من صحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عثمان : ألا أستحيي من رجل تستحي منه الملائكة ؟". وفي صحيح البخاري عن نافع عن عبدالله بن عمر بن الخطاب قال : كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم ، وقيل للمهلب بن أبي صفرة : لم قيل عثمان ذا النورين ؟ قال : لأنه لم يعلم أنه أحداً ارسل ستراً على ابنتي نبي غيره ، وروى خيثمة في فضائل الصحابة عن النزال بن سبرة العامري ( أحد الذين أخذوا عن أبي بكر وعثمان وعلي وهو من شيوخ الشعبي والضحاك وطبقتهما ) قال : قلنا لعلي حدثنا عن عثمان " فقال " ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين " وقال ابن مسعود حين بويع عثمان بالخلافة " بايعنا خيرنا ، ولم نأل " ووصفه علي بن أبي طالب بعد انقضاء أجله فقال " كان عثمان أوصلنا للرحم ، وكان من الذين آمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، والله يحب المحسنين " وروى سالم عن عبدالله بن عمر بن الخطاب أن أباه قال " لقد عتبوا على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما عتبوا عليه " وعبد الله بن عمر كان شاهد عيان لخلافة عثمان من أولها إلى آخرها ، وكان أشد الناس في التزام السنة المحمدية ، ومع ذلك فإنه يشهد لعثمان بأن كل ما عتبوا به عليه كان يحتمل أن يكون من عمر ـ وهو أبوه ـ ولك كان ذلك من عمر لما عتب عليه أحد به ، وقال مبارك بن فضالة مولى زيد بن الخطاب ، سمعت عثمان يخطب وهو يقول " يا أيها الناس ما تنقمون علي ، وما من يوم إلا وأنتم تقسمون فيه خيراً " وقال الحسن البصري : شهدت منادي عثمان ينادي : يا أيها الناس= =اغدوا على أعطياتكم ، فيغدون ويأخذونها وافية . يا أيها الناس اغدوا على أرزاقكم فيغدون ويأخذونها وافية حتى ـ والله ـ سمعته أذناي يقول : اغدوا على كسوتكم فيأخذون الحلل ، واغدوا على السمن والعسل ، قال الحسن : أرزاق دارًّة ، وخير كثير وذات بين حسن ، ما على الأرض مؤمن يخاف مؤمناً ، إلا يوده وينصره ويألفه فلو صبر الأنصار على الأثرة لو سعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق ، ولكنهم لم يصبروا وسلوا السيف مع من سل ، فصار عن الكفار مغمداً ، وعلى المسلمين مسلولاً ـ روى ذلك عنه الحافظ ابن عبدالبر ) وقال ابن سيرين ـ صنو الحسن البصري وزميله وهو أيضا كان معاصراً لعثمان ـ :" كثر المال في زمن عثمان حتى بيعت الجارية بوزنها وفرس بمائة ألف درهم ، ونخلة بألف درهم " وسئل عبدالله بن عمر بن الخطاب عن علي وعثمان فقال للسائل :" قبحك الله ! تسألني عن رجلين ـ كلاهما خير مني ـ تريد أغض من أحدهما وأرفع من الآخر !؟"

.
... وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن عمر شهيد ، وبأن عثمان شهيد ، وبأن له الجنة على بلوى تصيبه (1).
__________
(1) ـ في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري حديث أبي موسى الأشعري قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً (أي بستاناً ) وأمرني بحفظ باب الحائط ، فجاء رجل يستأذن ، فقال صلى الله عليه وسلم :" إئذن له وبشره بالجنة " فإذا أبو بكر ، ثم جاء آخر يستأذن ، فقال :" ائذن له وبشره بالجنة " فإذا عمر ، ثم جاء آخر يستأذن ، فسكت هنيهة ثم قال : " ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه " فإذا عثمان بن عفان .
... ومثله في كتاب فضل الصحابة من صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أيضاً ، وروى ابن ماجة في الباب 11 رقم 111 من مقدمة السنن عن محمد بن سيرين (من أئمة التابعين ) عن كعب بن عجرة البلوي حليف الأنصار وأحد الذين شهدوا عمرة الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت فيه آية الفدية 195من سورة البقرة ، قال كعب بن عجرة : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقّر بها ، فمر رجل مقنع رأسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا يومئذ على الهدى " فوثبت فأخذت بضبعي عثمان ، ثم استقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : هذا ؟ قال : هذا . ومن مسند الإمام أحمد (1/85) عن أبي سهلة مولى عثمان ـ وهو تابعي ثقة ـ أن عثمان قال يوم الدار حين حضر : " أن رسول الله صلى الله علهي وسلم عهد إلى عهداً ، فأنا صابر عليه " والحديث عند الترمذي (4/324) من طريق وكيع ، وقال : حديث حسن صحيح ، وعند ابن ماجة (1/41و42رقم 112و113) حديثان أحدهما لأبي سهلة مولى عثمان والاخر لعائشة ، وأوردهما الحاكم في المستدرك على الصحيحن (1/99) عن عائشة .

وهو وزوجه رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مهاجر بعد إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ، دخل به في باب " أول من . . . (1) وهو علم كبير جمعه الناس .
ولما صحت إمامته قتل مظلوماً(2) ، وليقضي الله أمراً كان مفعولاً .
ما نصب حرباً (3) ، ولا جيش عسكراً(4) ولا سعى إلى فتنة (5) ، ولا دعا إلى بيعة (6)
__________
(1) ـ للجلال السيوطي وغيره من العلماء قبله وبعده كتب ألفوها في تسمية الأشخاص الذين سبقوا غيرهم إلى شئ من الأعمال المحمودة وغيرها ، فيقولون (مثلاً) كان عثمان أول من هاجر في سبيل الله الهجرة الأولى إلى الحبشة .
(2) ـ روى الإمام أحمد في مسنده (2/115) عن عبدالله بن عمر بن الخطاب قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يقتل فيها هذا المقنع يومئذ مظلوما " قال ( عبدالله بن عمر : فنظرت ، فإذا هو عثمان بن عفان . قال الشيخ أحمد شاكر والحديث رواه الترمذي (4/323) ونقل شارحه عن الحافظ ابن حجر أنه قال : إسناده صحيح . وروى الحاكم في المستدرك (3/102) نحوه من حديث مرة ابن كعب وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي .
(3) ـ أي لقتال أهل القبلة . أما حروبه لإعلاء كلمة الله ونشر دعوة الحق فكانت من أنشط ما عرفه التاريخ الإسلامي .
(4) ـ أي للدفاع عن نفسه ، وكبح جماح البغاة عليه .
(5) ـ بل كان أشد خلق الله كرهاً لها وحرصاً على تضييق دائرتها ، حقناً لدماء المسلمين ، ولو أدى ذلك به إلى أن يكون هو ضحية لغيره .
(6) ـ وإنما أتته منقادة على غير تشوف منها إليها قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3/164) :" إن الصحابة اجتمعوا على=
= عثمان رضي الله عنه لأن ولايته كانت أعظم مصلحة وأقل مفسدة من ولاية غيره ـ ثم قال في الصفحة التالية ـ : ولا ريب أن
للستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ـ أي الذين عينهم عمر ـ لا يوجد أفضل منهم ، وإن كان في كل منهم ما كرهه فإن غيرهم يكون فيه من المكروه أعظم ، ولهذا لم يتول بعد عثمان خير منه ولا أحسن سيرة .
1ـ أضراب أمير المؤمنين عثمان وأشكاله هو أخواله الذين أشركهم أمير المؤمنين عمر في الشورى ، أما الذين استطاع عبدالله بن سبأ وتلاميذه أن يوقعوهم في حبائل الفتنة فبينهم وبين مستوى أهل الشورى أبعد مما بين الحضيض والقمة ، بل أبعد مما بين الشر والخير ، وإن الشر الذي أقحموه على تاريخ الإسلام بحماقاتهم وقصر أنظارهم لو لم يكن من نتائجه إلا وقوف حركة الجهاد الإسلامي فيما وراء حدود الإسلام سنين طويلة لكفى به إثماً وجناية قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2/186) : إن خيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم عثمان لا قتل ولا أمر بقتله وإنما قتله طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل وأهل الفتن ، وكان علي رضي الله عنه يقول " اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل "
2ـ الذين شاركوا في الجناية على الإسلام يوم الدار طوائف على مراتب ، فيهم الذين غلب عليهم الغلو في الدين ، فأكبروا الهنات ، وارتكبوا في إنكارها الموبقات . وفيهم الذين ينزعون إلى عصيبة يمنية على شيوخ الصحابة من قريش ، ولم تكن لهم في الإسلام سابقة ، فحسدوا أهل السابقة من قريش على ما أصابوا من مغانم شرعية جزاء جهادهم وفتوحهم ، فأرادوا أن يكون لهم مثلها بلا سابقة ولا جهاد وفيهم الموتورون من حدود شرعية أقيمت على بعض ذويهم ، فاضطغنوا في قلوبهم الإحنة والغل لأجلها وفيهم الحمقى الذين استغل السبئيون ضعف قلوبهم فدفعوهم إلى الفتنة والفساد والعقائد الضالة ، وفيهم من أثقل كاهله خير عثمان ومعروفه نحوه ، فكر معروف عثمان عندما طمع منه بما لا يستحقه من الرئاسة والتقدم بسبب نشأته في أحضانه ، وفيهم من أصابهم من عثمان شئ من التعزير لبوادر بدرت منهم تخالف أدب الإسلام ، فأغضبهم التعزير الشرعي من عثمان ، ولو أنهم قد نالهم من عمر أشد منه لرضوا به طائعين ، وفيهم المتعجلون بالرياسة قبل أن يتأهلوا لها اغتراراً بما لهم من ذكاء خلاب أو فصاحة لا تغذيها الحكمة فتاروا متعجلين بالأمر قبل إبانة ، وبالإجمال فإن الرحمة التي جبل عليها عثمان وامتلأ بها قبله أطمعت الكثير فيه ، وأردوا أن يتخذوا من رحمته مطية لأهوائهم ، ولعلي إذا اتسع لي الوقت أتفرغ لدراسة نفسيات هؤلاء الخوراج على عثمان ، وتنظيم المعلومات الصحيحة التي بقيت لنا عنهم ، ليكون ذلك من درس عبرة لطلاب التاريخ الإسلامي .

ولا حاربه ولا نازعه من هو من أضرابه ولا أشكاله (1) ولا كان يرجوها لنفسه ، ولا خلاف أنه ليس لأحد أن يفعل ذلك في غير عثمان ، فكيف بعثمان رضي الله عنه ! .
وقد سموا من قام عليه ، فوجدناهم أهل أغراض سوء حيل بينهم وبينها (2) فوعظوا وزجروا (3) ، وأقاموا عند عبد الرحمن بن خالد ابن الوليد (4) ، وتوعدهم حتى تابوا(5) ، فأرسل بهم إلى عثمان فتابوا (6) وخيرهم فاختاروا التفرق في البلاد ، فأرسلهم : فلما سار كل إلى ما اختار أنشأوا الفتنة ، وألبوا الجماعة ، وجاءوا إليه(7) بجملتهم ، فاطلع عليهم من حائط داره
__________
(1) ـ وقد وعظهم وزجرهم أهل العافية والحكمة والرضا من أعيان أمصارهم وعلمائهم في الكوفة والبصرة والفسطاط ، ثم وعظهم وزجرهم معاوية في مجالس له معهم عندما سيرهم عثمان إلى الشام كما سيجئ عند كلام المؤلف على سطوهم على المدينة ـ بحجة الحج ـ فحولوا حجهم الكاذب إلى البغي على خليفتهم وسفك دمه الحرام في الشهر الحرام بجوار قبر المصطفى عليه الصلاة والسلام
(2) ـ وكان عبدالرحمن بن خالد بن الوليد والياً لمعاوية على حمص وما يليها من شمال الشام إلى أطراف جزيرة ابن عمر ، وسيأتي الحديث عن أحوالهم عندما قبض عليهم هذا الشبل المخزومي بمثل مخالب أبيه .
(3) ـ بل تظاهروا بأنهم تابوا ، ( وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم )
(4) ـ أي إلى أمير المؤمنين عثمان .
(5) ـ خيرهم عبدالرحمن بن خالد في أن يذهبوا إلى عثمان ، فذهب كبيرهم الأشتر النخعي ، وله قصة نذكرها في موضعها من هذا الكتاب .

وذكرهم ، وورعهم عن دمه (1) ، وخرج طلحة يبكي ويورع الناس ، وأرسل عليّ ولديه (2) ، وقال الناس لهم (3) : إنكم أرسلتم إلينا " أقبلوا إلى من غير سنة الله (4) " ، فلما جئنا قعد هذا في بيته ـ يعنون علياً ـ وخرجت أنت (5) ، تفيض عينيك ، والله لا برحنا حتى نريق دمه (6)
وهذا قهر عظيم ، وافتئات على الصحابة ، وكذب في وجوههم وبهت لهم ، ولو أراد عثمان لكان مستنصراً بالصحابة ، ولنصروه في لحظة (7)، وإنما جاء القوم مستجيرين متظلمين (8) ، فوعظوهم ، فاستشاطوا فأراد الصحابة ألهم (9)، فأوعزهم إليهم عثمان ألا يقاتل أحد بسببه أبداً ، فاستسلم ، وأسلموه برضاه .
__________
(1) ـ ورعهم عن الشئ ، كفهم ومنعهم بالحجة والحق المنير .
(2) ـ ليكونا في حرس أمير المؤمنين عثمان ، ويدافعها عنه .
(3) ـ أي قال البغاة يخاطبون علياً وطلحة والزبير .
(4) ـ زعم البغاة أنهم تلقوا من علي وطلحة والزبير ، يدعونهم بها للثورة على عثمان بدعوى أنه غير سنة الله . وسيأتي إنكار علي وطلحة والزبير أنهم كتبوا بذلك ، والظاهر أن الفريقين صادقان ، وأن منظمي الفتنة من السبأيين زوروا الرسائل التي ذكرها البغاة الثائرون .
(5) ـ الخطاب لطلحة بن عبيد الله
(6) ـ ولقد راودوه في ذلك مراراً ، وعرض عليه معاوية أن ينقل دار الخلافة إلى الشام ، أو يمده بجند من الشام لا يعرف له التاريخ إلا التقدم والظفر .
(8) ـأي أن البغاة ظهروا بمظهر المتظلم وهو يدعي أمرواً يشكوها ، فكان عثمان يرى لهم حقاً أن يبين لهم وللناس حجته فيما ادعوا ، ووجهة نظره في الأمور التي زعموا أنهم جاءوا يتظلمون منها
(9) ـ ألّه : طعنه بالألة ، وهي الحربة العريضة النصل .

... وهي مسألة من الفقه كبيرة : هل يجوز للرجل أن يستسلم ، أم يجب عليه أن يدافع عن نفسه ؟وإذا استسلم وحرَّم على أحد أن يدافع عنه بالقتل ، هل يجوز لغيره أن يدافع عنه ولايلتفت إلى رضاه ؟ اختلف العلماء فيها .فلم يأت عثمان منكراً لا في أول الأمر ، ولا في آخره ، ولا جاء الصحابة بمنكر ، وكل ما سمعت من خبر باطل إياكَ أن تلفت إليه (1).
... ... ... ... قاصمة
... قالوا متعدين ، متعلقين برواية كذابين : جاء عثمان في ولايته بمظالم ومناكير ، منها :
... ... 1ـ ضربه لعمار حتى فتق أمعاءه
... ... 2ـ ولا بن مسعود حتى كسر أضلاعه ومنعه عطاءه .
... ... 3ـ وابتدع في جمع القرآن وتأليفه ، وفي حرق المصاحف .
... ... 4ـ وحمى الحمى .
__________
(1) ـومعيار الأخبار في تاريخ كل أمة الوثوق من مصادرها ،والنظر في ملاءمتها لسجايا الأشخاص المنسوبة ==
=إليهم وأخبار التاريخ الإسلامي نقلت عن شهود عيان ذكروها لمن جاءوا بعدهم وهؤلاء لمن بعدهم وقد اندس في هؤلاء الرواة أناس من أصحاب الأغراض زوروا أخباراً على لسان آخرين وروجوها في الكتب ، إما تقرباً لبعض أهل الدنيا ، أو تعصباً لنزعة يحسونها من الدين ، ومن مزايا التاريخ الإسلامي ـ تبعاً لما جرى للصادقين منهم عن الكذبة ، حتى صار ذلك علما محترماً له قواعد ، وألفت فيه الكتب ، ونظمت للرواة معاجم حافلة بالتراجم ، فيها للتنبيه على مبلغ كل راو بالصدق والتثبت والأمانة في النقل ، وإذا كان لبعضهم نزعات حزبية أو مذهبية قد يجنح معها الهوى ذكروا ذلك في ترجمته ليكون دارس أخبارهم ملما بنواحي القوة والضعف من هذه الأخبار والذين يتهجمون على الكتابة في تاريخ الإسلام وتصنيف الكتب فيه قبل أن يستكملوا العدة لذلك ـ ولا سيما في نقد الرواة ومعرفة ما حققه العلماء في عدالتهم أو تجريحهم ـ يقعون في أخطاء كان في إمكانهم أن لا يقعوا فيها لو أنهم استكملوا وسائل العلم بهذه النواحي .

... ... 5ـ وأجلى أبا ذر إلى الربذة .
... ... 6ـ وأخرج من الشام أبا الدرداء .
... ... 7ـ ورد الحكم بعد أن نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
... ... 8ـ وأبطل سنة القصر في الصلوات في السفر .
... ... 9ـ 12ـ وولى معاوية ، [ وعبدالله بن عامر بن كريز(1)] ومروان ، وولى الوليد بن عقبة وهو فاسق ليس من أهل الولاية .
... ... 13ـ وأعطى ، مروان خمس أفريقية .
... ... 14ـ وكان عمر يضرب بالدرة وضرب هو بالعصا(2)
... ... 15ـ وعلا على درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد انحط عنها
أبو بكر وعمر .
... ... 16ـ ولم يحضر بدراً ، وانهزم يوم أحد ، وغاب عن بيعة الرضوان .
... ... 17ـ ولم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان ( الذي أعطى السكين إلى أبي لؤلؤة،
وحرضه على عمر حتى قتله ).
... ... 18ـ وكتب مع عبده على جمله كتاباً إلى ابن أبي سرح في قتل من ذكر فيه .

... ... ... عاصمة
... هذا كله باطل سنداً ومتناً ، أما قولهم " جاء عثمان بمظالم ومناكير" فباطل (3).
__________
(1) ـسقط اسم ابن كريز من الأصل سهواً من الناسخ أو من الطابع في مطبوعة الجزائر ، مع أنه ذكر في الدفاع الآتي بعد ، ومطبوعة الجزائر طبعت على أصل سقيم بخط ناسخ غير متمكن ، وقد وقع تقديم وتأخير في ترتيب التهم وأجوبتها ، ويلوح لنا أن مجلد الأصل المخطوط الذي طبعت عليه مطبوعة الجزائر وضع بعض الورق في غير مواضعه من التجليد ، فأعدنا ترتيب التهم وأجوبتها على نسق ، ولم نزد عن الأصل كلمة ولم ننقص منه كلمة ، وبذلك تلافينا الاضطراب الذي كان بادياً للقارئ في الطبوعة الجزائرية
(2) ـ الدرة عصا صغيرة يحملها السلطان يزع بها .
(3) ـ كما ترى من الأدلة التي سيوردها المؤلف في نقض هذه التهم واحدة بعد واحدة حتى يأتي على آخرها .

... 1ـ 2 ـ وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور(1) ، وضربه لعمار إفك مثله ، ولو فتق أمعاءه ما عاش أبداً(2)
__________
(1) ـ تقدم في هامش سابق قول عبد الله بن مسعود لما بويع عثمان :" بايعوا خيرنا ولم نأل " ويروى " ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل " وعند ولاية عثمان كان ابن مسعود والياً لعمر على أموال الكوفة ، وسعد بن أبي وقاص والياً على صلاتها وحربها ، فاختلف سعد وابن مسعود .
وإلى هنا لا يوجد بين ابن مسعود وخليفته إلا الصفو ، فلما عزم عثمان على تعميم مصحف واحد في العالم الإسلامي يُجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه هو المصحف الكامل الموافق لآخر عرضة عرض بها كتاب الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته ، كان ابن مسعود يود لو أن كتابة المصحف نيطت به ، وكان يود أيضاً لو يبقى مصحفه الذي كان يكتبه لنفسه فيما مضى ، فجاء عمل عثمان على خلاف ما كان يوده ابن مسعود في الحالتين : أما في اختيار عثمان زيد بن ثابت لكتابة المصحف الموحد فلأن أبا بكر وعمر اختاراه قبل ذلك لهذا العمل في خلافة أبي بكر ، بل إن أبا بكر وعمر اختارا زيد بن ثابت في البداية لأنه هو الذي حفظ العرضة الأخيرة لكتاب الله على الرسول صلوات الله عليه قبيل وفاته ، فكان عثمان على حق في هذا ، وهو يعلم ـ كما يعلم سائر الصحابة ـ مكانة ابن مسعود وعلمه وصدق إيمانه ، ثم إن عثمان كان على حق أيضاً في غسل المصاحف الأخرى ومنها مصحف ابن مسعود ، لأن توحيد كتابة المصحف على أكمل ما كان في استطاعة البشر هو من أعظم أعمال عثمان بإجماع الصحابة ، وكان جمهور الصحابة في كل ذلك مع عثمان على ابن مسعود ( انظر منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/191ـ192) وعلى كل حال فإن عثمان لم يضرب ابن مسعود ولم يمنعه من عطاءه وبقي يعرف له قدره كما بقي ابن مسعود على طاعته لإمامه الذي بايع له وهو يعتقد أنه خير المسلمين وقت البيعة .
(2) ـ روى الطبري (5/99) عن سعيد بن المسيب أنه كان بين عمار وعباس ابن عتبة بن أبي لهب خلاف حمل عثمان على أن يؤدبهما عليه بالضرب ، قلت وهذا مما يفعله ولي الأمر في مثل هذه الأحوال قبل عثمان وبعده ، وكم فعل عمر مثل ذلك بأمثال عمار ومنه هم خير من عمار بما له من حق الولاية على المسلمين ، ولما نظم السبئيون حركة الاشاعات ، وصاروا يرسلون الكتب من كل مصر إلى الإمصار حتى يرجعوا إليه بالأخبار الكاذبة فأشار الصحابة على عثمان بأن يبعث رجالا ممن يثق بهم إلى الإمصار لكيون موضع ثقته في كشف حالها ، فأبطأ عمار في مصر ، والتف به السبئيون ليستميلوه إليهم ، فتدارك عثمان وعامله على مصر هذا الأمر ، وجئ بعمار إلى المدينة مكرماً ، وعاتبه لما قدم عليه فقال له ـ على مارواه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق (7/429) ـ :" يا أبا اليقظان قذفت ابن أبي لهب أن قذفك . . . وغضبت علي أن أخذت لك بحقك وله بحقه اللهم قد وهبت ما بيني وبين أمتي من مظلمة ، اللهم إني متقرب إليك بإقامة حدودك في كل أحد ولا أبالي : اخرج عني يا عمار " فكان إذا لقي العوام نضح عن نفسه وانتفى من ذلك ، وإذا لقي من يأمنه بذلك أظهر الندم ، فلامه الناس وهجروه وكرهوه قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3/193) : وعثمان أفضل من كل من تكلم فيه ، هو أفضل من ابن مسعود ، وعمار ، وأبي ذر ، ومن غيرهم من وجوه كثيرة كما ثبت ذلك بالدلائل فليس جعل كلام المفضول قادحاً في الفاضل بأولى من العكس ، وكذلك ما نقل من تكلم عمار في عثمان ، وقول الحسن فيه ( أي في عمار ) نقل أن عمار قال : لقد كفر عثمان كفرة صلعاء ، فأنكر الحسن بن علي ذلك عليه ، وكذلك علي وقال له : يا عمار ، أتكفر برب آمن به عثمان ؟ قال ابن تيمية : وقد تبين من ذلك أن الرجل المؤمن الذي هو ولي الله قد يعتقد كفر الرجل المؤمن الذي هو ولي الله ، ويكون مخطئا في هذا الاعتقاد ولا يقدح هذا في إيمان واحد منهما وولايته ، كما ثبت في الصحيح أن أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم : إنك منافق تجادل عن المنافقين ، كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال صلى الله عليه وسلم :" إن قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " فعمر أفضل من عمار ، وعثمان أفضل من حاطب بن أبي بلتعة بدرجات كثيرة = =وحجة عمر فيما قال لحاطب أظهر من حجة عمار ، ومع هذا فكلاهما من أهل الجنة ، فكيف لا يكون عثمان وعمال من أهل الجنة وإن قال أحدهما للأخر ما قال ؟ مع أن طائفة من العلماء أنكروا أن يكون عمار قال ذلك . . . ثم قال شيخ الإسلام : وفي الجملة ، فإذا قيل إن عثمان ضرب ابن مسعود أو عمار فهذا لا يقدح في أحد منهم ، فإنا نشهد أن الثلاثة في الجنة ، وأنهم من أكابر أولياء الله المتقين ، وأن ولي الله قد يصدر عنه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية ، فكيف بالتعزير ، وقد ضرب عمر بن الخطاب أبي بن كعب بالدرة لما رأى الناس يمشون خلفه وقال :" هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع " فإن كان عثمان أدب هؤلاء ، فإما أن يكون عثمان مصيبا في تعزيرهم لاستحقاقهم ذلك ، ويكون ذلك الذي عزروا عليه تابوا منه وكفر عنهم بالتعزير وغيره من المصائب أو بحسناتهم العظيمة أو بغير ذلك ، وإما أن يقال كانوا مظلمون مطلقا ، فالقول في عثمان كالقول فيهم وزيادة ، فإنه أفضل منهم ، وأحق بالمغفرة .

... وقد اعتذر عن ذلك العلماء بوجوه لا ينبغي أن يشتغل بها لأنها مبنية على باطل (1) ، ولا يبنى حق على باطل ، ولا نذهب الزمان في مماشاة الجهال ، فإن ذلك لا آخر له .
...
... 3ـ وأما جمع القرآن ، فتلك حسنته العظمى ، وخصلته الكبرى ، وإن كان وجدها كاملة ، لكنه أظهرها ورد الناس إليها ، وحسم مادة الخلاف فيها . وكان نفوذ وعد الله بحفظ القرآن على يديه حسبما بيناه في كتب القرآن وغيرها (2)
__________
(1) ـ أي على ادعاء الكاذبين أعداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمير المؤمنين ضرب عماراً حتى فتق أمعاءه ، وضرب ابن مسعود حتى كسر أضلاعه منعه عطاءه !
(2) ـ أي في مؤلفات ابن العربي المتعلفة بعلوم القران.

... روى الأئمة بأجمعهم (1) أن زيداً بن ثابت قال : أرسل إلى أبو بكر مقتل أهل اليمامة(2) فإذا عمر بن
__________
(1) ـ وفي مقدمتهم الإمام أحمد في مسنده (1/13) والإمام البخاري في صحيحه كتاب التفسير وفضائل القران والأحكام والتوحيد .
(2) ـ وذلك لما ارتدت بنو حنيفة برئاسة مسيلمة الكذاب وبتحريض عدو الله الرجال ابن عنفوة بن نهشل الحفني ، وكانت قيادة المسلمين لسيف الله خالد بن الوليد ، واستشهد في هذه الملحمة زيد بن الخطاب أخو عمر ، وكان حفظة للقرآن من الصحابة يتواصون بينهم ويقولون : يا أصحاب سورة البقرة بطل السحر اليوم ، وتحنط خطيب الأنصار وحامل لواثهم ثابت بن قيس ولبس كفنه وحفر لقدمه في الأرض إلى أنصاف ساقيه ولم يزل يقاتل وهو ثابت الراية في موضعه حتى استشهد . وقال المهاجرين لسالم مولى أبي حذيفة : أتخشى أن نؤتى من قبلك ؟ ؟ فأجاب : بئس حامل القرآن أنا إذن ، وقاتل حتى استشهد . وقال أبو حذيفة : زينوا القرآن بالفعال ، وما زال يقاتل حتى أصيب وممن استشهد يومئذ حزن بن أبي وهب المخزومي جد سعيد بن المسيب ، وكان شعار الصحابة يومئذ : ومحمداه ! وصبروا يومئذ صبراً لم يعهد مثله حتى ألجأوا المرتدين إلى حديقة الموت فاعتصم فيها مسيلمة ورجاله ، فقال البراء بن مالك : يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في داخل الحديقة أفتح لكم بابها فاحتملوه فوق الجحف ورفعوه بالرماح وألقوه في الحديقة من فوق سورها ، فما زال يقاتل المرتدين دون بابها حتى فتحه ودخل المسلمون وكان النصر ، وممن اقتحم الحديقة أبو دجانة من مجاهدي بدر حتى وصل إلى مسيلمة وعلاه بالسيف فقتله ، وكسرت رجله رضي الله عنه في تلك الوقعة ثم نال الشهادة وفي البداية والنهاية ( 6/334ـ340) أسماء كثيرين من الشهداء في هذا اليوم العظيم في الإسلام ، ومنهم حفظة كتاب الله ، والشيعة يذمون موقف الصحابة من مسيلمة وقومه ويدافعون عن المرتدين انظر ( المنتقى من منهاج الاعتدال ص270ـ272)

الخطاب عنده ، فقال أبو بكر : " إن عمر أتانا فقال : إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تجمع القرآن قلت لعمر : كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر : هذا والله خير . فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر " . قال زيد : قال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فتتبع القرآن فاجمعه " . فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علىّ مما أمروني به من جمع القرآن . قلت : كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله علهي وسلم ؟ قال عمر :" هذا والله خير " . فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال(1) ، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } حتى خاتمة براءة .
__________
(1) ـ العسب ( جمع عسيب ) أي جريدة النخل ، وهي السعفة التي لا ينبت عليها الخوص . واللخاف ( جمع لخفة ) وهي حجارة بيض رقاق . كانوا يكتبون علهيا إذا تعذر الورق .

... فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر ، حتى قدم حذيفة بن اليمان على عثمان (1) ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية مع أهل العراق فحدثه حذيفة عن اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى : فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ، ثم نردها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف (2) وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : " إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القران فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم " ففعلوا .
... حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق
... قال ابن شهاب(3) : " وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت قال :" فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها ، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة الأنصاري { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } فألحقناها في سورتها من المصحف "
__________
(1) ـ وحديثه عن ذلك في صحيح البخاري عن ابن شهاب الزهري عن أنس بن مالك .
(2) ـ هو أبو أمية الجعفي الكوفي ، قدم المدينة حين نفضت الأيدي من دفنه صلى الله عليه وسلم وشهد اليرموك ، يروي عن أبي بكر وعمر وعلي وعثمان ، ويروي عنه النخعي والشعبي وعبدة بن أبي لبابة : ثقة مات سنة 80 وقيل 81عن مائة وثلاثين سنة .
(3) ـ فيما رواه عنه البخاري في صحيحه

... وأما ماروى أنه حرقها أو خرقها ـ بالحاء المهملة أو الخاء المعجمة وكلاهما جائز ـ إذا كان في بقائها فساد ، أو كان فيها ما ليس من القرآن ، أو ما نسخ منه ، أو على غير نظمه ، فقد سلّم في ذلك الصحابة كلهم : إلا أنه روي عن ابن مسعود أنه خطب بالكوفة فقال : " أما بعد ، فإن الله قال { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } وإني غال مصحفي ، فمن استطاع منكم أ، يغل مصحفه فليفعل " . وأراد ابن مسعود أن يؤخذ بمصحفه ، وأن يثبت ما يعلم فيه ، فلما لم يفعل ذلك قال له ما قال ، فأكرهه عثمان على رفع مصحفه ، ومحا رسومه لم تثبت له قراءة أبداً ، ونصر الله عثمان والحق بمحوها من الأرض (1) .
__________
(1) ـ عبد الله بن مسعود من كبار علماء الصحابة ومن أجودهم قراءة لكتاب الله ، وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة على حسن تلاوة ابن مسعود للقرآن ، فتسارع أبو بكر وعمر ليوصلا إليه البشرى بهذا الثناء النبوي ( انظر مسند أحمد 1ـ25ـ26) إلا أن ابن مسعود كان يكتب ما يوحى من القرآن في مصحفه كلما بلغه نزول آيات منه ، فهو يختلف في ترتيب هذه الآيات عما امتازت به= =مصاحف عثمان من الترتيب بحسب العرض الأخير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر ما أدى إليه اجتهاد الصحابة المؤيد بإجماعهم ، ويحتمل أن يكون ابن مسعود فاته بعض ما استقصاه زيد بن ثابت وزملاءه من الآيات التي كانت عند آخرين من قراء الصحابة . زد على ذلك أن ابن مسعود كانت تغلب عليه لهجة قومة من هذيل ، والنبي صلى الله عليه وسلم رخص لمثل ابن مسعود أن يقرأوا بلهجاتهم ، ولكن ليس لابن مسعود أن يحمل الأمة في زمنه والأزمان بعده على لهجته الخاصة ، فكان من الخير توحيد الأمة على قراءة كتاب ربها باللهجة المضرية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

... 4ـ وأما الحمى ، فكان قديماً(1)
__________
(1) ـ كان الشريف في الجاهلية إذا نزل أرضاً في حيه استوى كلباً ، فحمى لخيله وإبله وسوائمه مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره . فلما جاء الإسلام نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، واختص الحمى إبل الزكاة المرصدة للجهاد والمصالح العامة ، فقال صلى الله عليه وسلم " لا حمى إلا لله ولرسوله " رواه البخاري من حديث الصعب ابن جثامة في كتاب المساقاة وكتاب الجهاد من صحيحه ورواه أحمد في مسنده (4/71و73) من حديث الصعب بن جثامة أيضاً ، وقد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكاناً يسمى ( النقيع ) وهو " نقيع الخصمات " كما في مسند أحمد (2/19و155و157) من حديث أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم النقيع للخيل .
قال حماد بن خالد رواي هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري : يا أبا عبد الرحمن خيله ؟ قال خيل المسلمين ( أي المرصودة للجهاد ، أو ما يملكه بيت المال ) والنقيع هذا في المدينة على عشرين فرسخاً منها ومساحته في ثمانية أميال كما في موطأ مالك برواية ابن وهب ، ومعلوم أن الحال استمر في خلافة أبي بكر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن أبا بكر لم يخرج عن شئ كان عليه الحال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا سيما وأن حاجة الجهاد إلى الخيل والإبل زادت عن قبل . وفي زمن عمر اتسع الحمى فشمل ( سرف ) و ( والربذة ) ، وكان لعمر عامل على الحمى هو مولى له يدعى هنياً ، وفي كتاب الجهاد من صحيح البخاري من حديث زيد بن أسلم عن أبيه نص وصية أمير المؤمنين عمر لعامله هذا على الحمى بأن يمنع نعم الأثرياء كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان ، وأن يستامح مع رب الغنيمة ورب الصريمة لئلا تهلك ما شيتهما ، وكما اتسع عمر في الحمى عما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لزيادة سوائم بيت المال في زمنه ، اتسع عثمان بعد ذلك لاتساع الدولة وازدياد التفوح . فالذي أجازه النبي صلى الله عليه وسلم لسوائم بيت المال ، ومضى على مثله أبو بكر وعمر ، يجوزمثله لبيت المال في زمن عثمان ، ويكون الاعتراض عليه اعتراضاً على أمر داخل في التشريع الإسلامي ، و لما أجاب عثمان على مسألة الحمى عندما دافع عن نفسه على ملأ من الصحابة أعلن أن الذين يلون له الحمى اقتصروا فيه على صدقات المسلمين يحمونها لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع ، وأنهم ما منعوا ولا نحواً منها أحداً . . . وذكر عن نفسه أن قبل أن يلي الخلافة كان أكثر العرب بعيراً وشاة ، ثم أمسى وليس له غير بعيرين لحجه ، وسأل من يعرف ذلك من الصحابة : أكذلك ؟ قالوا : اللهم نعم .

، فيقال إن عثمان زاد فيه لما زادت الرعية وإذا جاز أصله للحاجة جازت الزيادة لزيادة الحاجة .
... 5ـ وأما نفيه أبا ذر إلى الربذة فلم يفعل (1) ، كان أبو ذر زاهداً ، وكان يقرع عمال عثمان ، ويتلو عليهم { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } [ التوبة 34] ، ويراهم يتسعون في المراكب والملابس حين وجدوا ، فينكر ذلك عليهم ، ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم ، وهو غير لازم . قال ابن عمر وغيره من الصحابة : إن ما أديت زكاته فليس بكنز(2) ، فوقع بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام (3)
__________
(1) ـ وإنما اختار أبو ذر رضي الله عنه أن يعتزل في الربذة ، فوافقه عثمان على ذلك كما صح في حديث عبد الله بن الصامت عند ابن حبان (1549موارد الضمان ) ، وصح في ص 76 ، فأكرمه عثمان وجهزه بما فيه راحلته .
(2) ـ انظر البيان الفقهي والتفصيل الشرعي لهذه المسألة في منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/198و199) ومقالتنا في مجلة الأزهر (شوال 1374)
(3) ـ نقل الطبري (5/66) وأكثر المصادر الإسلامية أنه لما ورد ابن السوداء ( عبد الله بن سبأ ) الشام لقي أبا ذر فقال : يا أباذر ألا تعجب إلى معاوية يقول " المال مال الله ، ألا إن كل شئ لله " كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين ، ويمحو اسم المسلمين فأتاه أبو ذر= =فقال : ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين " مال الله " ؟ قال معاوية : يرحمك الله يا أبا ذر ، ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق والأمر امره ؟ قال أبو ذر فلا تقله قال معاوية : فإني لا أقول إنه ليس لله ، ولكن سأقول " مال المسلمين " : وأتى ابن السوداء ( عبد الله بن سبأ ) أبا الدراداء ، فقال له ( أبو الدرداء ) : من أنت أظنك والله يهودياً ، فأتى ( ابن سبأ ) عبادة بن الصامت ، فتعلق به ( ابن الصامت ) فأتى به معاوية فقال : هذا والله بعث عليك أبا ذر .

، فخرج إلى المدينة ، فاجتمع إليه الناس ، فجعل يسلك تلك الطرق ، فقال له عثمان : " لو اعتزلت " . معناه أنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس ، فإن للخلطة شروطاً وللعزلة مثلها (1) ، ومن كان على طريقة أبي ذر فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه ، أو يخالط ويسلم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة ، فخرج إلى الربذة زاهداً فاضلاً ، وترك جلة فضلاء ، وكل على خير وبركة وفضل ، وحال أبي ذر أفضل ، ولا تمكن لجميع الخلق ، فلو كانوا عليها لهلكوا (2)
__________
(1) ـ وقد أحسن الكلام على ذلك أبو سليمان الخطابي في كتاب ( العزلة ) .
(2) ـ الذي تحصل عندي من تتبع نصوص الشريعة في أمر المال ، ومراقبتي لتطبيق هذه النصوص في سيرة السلف وعملهم بها ، أن المسلم له في نفسه وذويه من المال الذي يملكه ما يكفيه ويكفيهم بالمعروف كأمثاله وأمثالهم من أهل العفة والقناعة والدين ، وما زاد عن ذلك فعليه أولا أن يؤدي زكاته الشرعية مباشرة بحسب اجتهاده إن لم يكن أداها للحكومة الإسلامية العاملة بأحكام الشرع وبعد أداء زكاته يكون صاحب المال في امتحان من الله كيف يحسن التصرف فيه بما يرضي الله ويزيد المسلمين قوة وسعادة وعزاً ، فإن كان تاجراً فمن طريق التجارة أو مزارعاً فمن طريق الزراعة ، أو صاحب مصنع فمن طريق الصناعة ، والإسلام في دور قيامة استفاد من ثروة أغنياء الصحابة عوناً ويسراً وقوة . وتجارة التجار المسلم إذا أغنت المسلمين من متاجر أعدائهم تعتبر قوة لهم بقدر ما يصدق صاحبها في هذه النية ، وكلك مصنع الصانع المسلم ، وزراعة الزارع المسلم والنية في هذه الأمور أمرها عظيم ، وميزانها العمل عندما تمس الحاجة إليه . وبالجملة فإن للمسلم أن يكون غنياً بلا تحديد ، بشرط أن يكون ذلك من حله ، وأن يكتفي منه بما يكفيه بالمعروف ، محاولا دائماً أن يحرر نفسه من العبودية والانقياد للكماليات فضلاً عن توافه الحضارة وسفاسفها ، وبعد أن يؤدي زكاة ما يملك يعتبر ما زاد عن حاجته كالآمانة لله تحت يده ، فيتصرف فيهما يما يزيد المسلمين ثروة وقوة ويسراً وعزاً وسعادة ، أما طريقة أبي ذر في أن لا يبيت المسلم وعنده مال فليست الآن من مصلحة المسلمين ، وطريقة أغنياء المسلمين الآن ـ في أن يعيشوا لأنفسهم ومتعهم غير مبالين بعزة الإسلام وقوة دولته وحاجة أهله ـ فليست من الإسلام ، والإسلام لا يعرف الذين لا يعرفونه [ انظر مقالتنا ( المال في نظام الإسلام ] في أول جزء شوال 1374هـ من مجلة الأزهر .

فسبحان مرتب المنازل .
... ومن العجب أن يؤخد عليه في أمر فعله عمر ، فقد روي أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه سجن ابن مسعود في نفر من الصحابة بالمدينة حين استشهد ، فأطلقهم عثمان ، وكان سجنهم لأن القوم أكثروا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
__________
(1) ـ في كتاب الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (2/139) خبر مرسل رواه شعبة عن سعد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف عن أبيه ( إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ) قال : قال عمر لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر " ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ". قال : وأحسبه لم يدعهم أن يخرجوا من المدينة حتى مات . وقد نبه ابن حزم على أن هذا الخبر مرسل ولا يجوز الاحتجاج به ، وعلق عليه الشيخ أحمد شاكر بأن البيهقي وافق ابن حزم على أن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف (66هـ أو 65أو 75) لم يسمع من عمر ولست أدري هل اعتمد ابن العربي في هذه الفقرة على هذا الخبر المرسل أم على خبر لم نطلع عليه وليس في الخبر على ضعفه ذكر السجن .

... ووقع بين أبي ذر ومعاوية كلام ، وكان أبو ذر يطلق من الكلام ما لم يكن في زمان عمر ، فأعلم معاوية بذلك عثمان ، وخشي من العامة أن تثور منهم فتنة ، فإن أبا ذر كان يحملهم على التزهد وأمور لا يحتملها الناس كلهم ، وإنما هي مخصوصة ببعضهم ، فكتب إليه عثمان ـ كما قدمنا ـ أن يقدم المدينة ، فلما قدم اجتمع إليه الناس ، فقال لعثمان : أريد الربذة . فقال له : افعل . فاعتزل . ولم يكن يصلح له إلا ذلك لطريقته (1)
__________
(1) ـ وقد صح من حديث عبد الله بن الصامت عند ابن حبان ( برقم 1549موارد الضمان ) أن أبا ذر هو الذي أستأذن عند عثمان أن يقيم في الربذة ، وذكر القاضي ولي الدين بن خلدون في العبر ( بقية 2:139) أن أبا ذر استأذن عثمان في الخروج من المدينة وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعاً " فأذن له ، ونزل الربذة وبنى بها مسجداً ، وأقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين ، وأجرى عليه رزقاً ، وكان يتعاهد المدينة ، وبين المدينة والربذة ثلاثة أميال ، قال ياقوت : وكانت من أحسن منزل في طريق مكة .

... 6ـ ووقع بين أبي الدرداء ومعاوية كلام وكان أبو الدرداء زاهداً فاضلاً قاضياً لهم (1) فلما اشتد في الحق ، وأخرج طريقة عمر في قوم لم يحتملوها عزلوه (2) ، فخرج إلى المدينة .
... وهذه كلها مصالح لا تقدح في الدين ، ولا تؤثر في منزلة أحد من المسلمين بحال و أبو الدرداء وأبو ذر بريئان من عاب ، وعثمان برئ أعظم براءة وأكثر نزاهة ، فمن روى أنه نفي وروى سبباً فهو كله باطل .
... 7ـ وأما رد الحكم فلم يصح (3).
__________
(1) ـ أي في دمشق
(2) ـ بل إن معاوية نفسه حاول السير على طريقة عمر ، كما نقل ذلك الحافظ ابن كثير (8/131) عن محمد بن سيرين قال : حدثنا عارم ، حدثنا حماد بن زيد ، عن معمر ، عن الزهري " أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه ثم إنه بعد عن ذلك " وقد يظن من لا نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون ، وهذا خطاء فللبيئة من التأثير في الحاكم وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة ، وهذا من معاني قول الله عز وجل { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } الرعد 11.
(3) ـ أي لم يصح زعم البغاة على عثمان أن عثمان خالف بذلك ما يقتضيه الشرع .

... وقال علماؤنا في جوابه . قد كان أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال [ أي عثمان ] لأبي بكر وعمر ، فقالا له : إن كان معك شهيد رددناه ، فلما ولي قضى بعلمه في رده ، وما كان عثمان ليصل مهجور رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان أباه ، ولا لينقض حكمه (1)
__________
(1) ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة [ 3/196] : وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه ( أي في نفي النبي صلى الله عليه وسلم الحكم ) وقالوا " ذهب باختياره وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح ، ولا لها سند يعرف به أمرها " ثم قال " لم تكن الطلقاء تسكن المدينة ، فإن كان طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة ، وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه كما تقدم وقالوا : هو ذهب باختياره . . . وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزر رجلاً بالنفي لم يلزم أن يبقى منفياً طول الزمن ، فإن هذا لا يعرف في شئ من الذنوب ، ولم تأت الشريعة بذنب يبقي صاحبه منفياً دائماً . . . وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقبل صلى الله عليه وسلم شفاعته فيه وبايعه ، فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم ، وقد رووا أن عثمان سأله أن يرده فأذن له في ذلك ، ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب عبد الله بن سعد بن أبي سرح وقصة عبد الله ثابتة معروفة الإسناد ، وأما قصة الحكم فإنما ذكرت مرسلة ، وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه ، فلم يكن هناك نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان ، والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له وثنائه عليه وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة ومبايعته له عنه وتقديم الصحابة له في الخلافة وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، فلا =يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا تعرف حقيقته . . . الخ ) وانظر أيضا 3/253ـ236من منهاج السنة . ونقل الإمام أبو محمد بن حزم في كتاب ( الإمامة والمفاضلة ) المدرج في الجزء الرابع من كتابه " الفصل " ص 154قول من احتج لعثمان على من أنكروا ذلك عليه :" ونفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن حداً واجباً ، ولا شريعة على التأبيد ، وإنما كان عقوبة على ذنب استحق به النفي ، والتوبة مبسوطة ، فإذا تاب سقطت عنه تلك العقوبة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام ، وصارت الأرض كلها مباحة ".
... ونقل مجتهد الزيدية السيد محمد بن إبراهيم اليمني ( المتوفى سنة 840هـ) في كتابه الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم ( 1:141ـ142) قول الحاكم المحسن بن كرامة المعتزلي الشيعي في كتابه سرح العيون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في ذلك لعثمان ، قال ابن الوزير : إن المتعزلة والشيعة من الزيدية يلزمهم قبول هذا الحديث وترك الاعتراض على عثمان بذلك ، لأن راوي الحديث عندهم من المشاهير بالثقة والعلم وصحة العقيدة ، ثم بسط ابن الوزير الكلام على هذا الموضوع بحجج واستدلالات ـ استغرقت ثلاث صفحات ـ دفاعاً عن أمير المؤمنين عثمان في رده الحكم ، وهذه الحجج من أحد أئمة الزيدية ومجتهديهم ـ بعد روايته ذلك الحديثق عن الإمام المتعزلي المتشيع ـ لها دلالتها الخاصة ، مع الذي سمعته من إمامي أهل السنة شيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي ابن العربي ، ومن إمام أهل الظاهر أبي محمد بن حزم .

.
... 8ـ وأما ترك القصر فاجتهاد ، إذ سمع أن الناس افتتنوا بالقصر ، وفعلوا ذلك في منازلهم ، فرأى أن السنة ربما أدت إلى إسقاط الفريضة ، فتركها مصلحة خوف الذريعة (1)مع أن جماعة من العلماء : قالوا إن المسافر مخيّر بين القصر والإتمام ، واختلف في ذلك الصحابة (2)
__________
(1) ـ كان ذلك في منى في موسم الحج سنة 29هـ وقد عاتب عبد الرحمن بن عوف عثمان في إتمامه الصلاة وهم في منى ، فاعتذر له عثمان بأن بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس قالوا في العام الماضي : إن الصلاة للمقيم ركعتان ، وهذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين : ثم قال عثمان لعبد الرحمن بن عوف : وقد اتخذت بمكة أهلاً ( أي أنه صار في حكم المقيم ، لا المسافر ) فرأيت أن أصلي أربعاً لخوف ما أخاف على الناس ، ثم خرج عبد الرحمن بن عوف من عند عثمان فلقي عبد الله بن مسعود وخاطبه في ذلك فقال ابن مسعود :" الخلاف شر ، قد بلغني أنه صلى أربعاً فصليت بأصحابي أربعاً ". فقال عبد الرحمن بن عوف :" قد بلغني أنه صلى أربعاً فصليت بأصحابي ركعتين وأما الآن فسوف يكون الذي تقول " يعني : نصلي معه أربعاً [ الطبري 5:56ـ57)
(2) ـ نقل محمد بن يحيى الأشعري المالكي المعروف بأبن بكر ( 674ـ 741) في كتابه ( التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان ) وهو من مخطوطات دار الكتب المصرية ( برقم 22/تاريخ ) أنه روى عن جماعة من الصحابة إتمام الصلاة في السفر ، منهم عائشة وسلمان وأربعة عشر من الصحابة . وفي أبواب التقصير من صحيح البخاري حديث الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت :" الصلاة أول ما فرضت ركعتان ـ فأقرت صلاة السفر ـ وأتمت صلاة الحضر " قال الزهري فقلت لعروة : ما بال عائشة تتم ؟ قال : تأولت ما تأول عثمان . وفي مسند أحمد 4:94) عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال : لما قدم علينا معاوية حاجاً قدمنا معه مكة ؛ فصلى بنا الظهر ركعتين ، ثم انصرف إلى دار الندوة . وكان عثمان حين أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء الاخرة أربعاً أربعاً . فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة ، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة حتى يخرج من مكة . فلما صلى بنا ( أي معاوية ) الظهر ركعتين نهض إليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا له : ما عاب أحد ابن عمك بأقبح مما عبته ، قال لهما : وما ذاك ؟ فقالا له : ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة ( فذكر لهما أنه صلاهما مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ) قالا : فإن ابن عمك أتمها ( والظاهر أن معاوية رأي أن القصر رخصة ، وأن المسافر على التخيير ، فصلى العصر أربعاً ) .

.
... 9ـ وأما معاوية فعمر ولاّه ، وجمع له الشامات كلها ، وأقره عثمان بل إنما ولاّه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، لأنه ولى أخاه يزيد ، واستخلفه يزيد ، فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له ، فتعلق عثمان بعمر وأقره . فانظروا إلى هذه السلسلة ما أوثق عراها ولن يأتي أحد مثلها أبداً بعدها (1)
__________
(1) ـ إنما بلغت دولة الإسلام في خلافة أبي بكر وعمر الذروة في العزة ، وكانت مضرب الأمثال في الفلاح الإنساني وسعادة المجتمع ، لأن أبا بكر وعمر كانا يكتشفان بنور الله عز وجل كوامن السجايا في أهلها وعناصر الرجولة في الرجال ، فيوليانهم للقيادة ، ويبوئانهم مقاعدة السيادة ، ويأمنانهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما يعلمان أنهما مسئولان عن ذلك بين يدي الله عز وجل ، وقد رأيت في هامش ص 47 أن يزيد بن أبي سفيان وأخاه معاوية كانا من رجال دولة أبي بكر الصديق الذين اختارهم لحمل أعباء الأمة في حربها وسلمها فأحسن بذلك كل الإحسان ، ولما ولي يزيد قيادة أحد جيوشه خرج معه أبو بكر يشيعه ماشياً ( الطبري 4 : 30) ومعاوية مذكور في التاريخ بعد أخيه يزيد لأنه أصغر منه سناً ، لا لأنه أقل منه في استكمال صفات القيادة والسيادة ن وقبل أن يكون معاوية من رجال الدولتين البكرية والعمرية كان أحد الذين استعملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعان بهم ، وكان يدعوه لذلك في بعض الأحيان ـ ومعاوية يأكل ـ ويلح في دعوته ويرسل إليه المرة بعد المرة يستعجله المجي إليه ، فالنبي صلى الله عليه وسلم ولي معاوية شيئاً من عمله قبل أن يوليه أبو بكر وعمر ، وولى يزيد بن أبي سفيان أيضا كما في فتوح البلدان للبلاذري ( ص 48 طبع في مصر سنة 1350هـ ) والذين يضطغنون البغضاء والحقد لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ولا سيما بني أمية منهم ـ لم يستطيعوا أن ينكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل معاوية في الكتابة له فقالوا إنه كان يكتب ولكنه لم يكن يكتب الوحي ، وهم يقولون هذا بوحي أوحي إليهم من الشيطان ، وليس في يدهم نص تاريخي أو دليل شرعي يرجعون إليه ، فميزوا بين أمور لا حجة لهم في التمييز بينها ، والنبي صلى الله عليه وسلم لو كان يميز بين كتبته في أمور دون أمور لتواتر ذلك عنه ولنقله الناقلون كما وقع فيما هو أقل من هذا شأناً ، سألني مرة أحد شباب المسلمين ممن يحسن الظن برأيي في الرجال : ما تقول في معاوية ؟ فقلت له : ومن أنا حتى تسألني عن عظيم من عظماء هذه الأمة وصاحب من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؟ إن مصباح من مصابيح الإسلام ، لكن هذا المصباح سطع إلى جانب أربع شموس ملأت الدنيا بأنوارها فغلبت أنوارها نوره ، نقل الحافظ ابن كثير في ( البداية والنهاية 8: 133) عن الليث بن سعد ( وهو إمام مصر وعالمها ورئيسها المتوفى سنة 175) قال : حدثنا بكير ( وهو ابن عبد الله بن الأشج المدني ثم المصري المتوفى سنة 127هـ قال عن الإمام النسائي : ثقة ثبت ) عن بسر بن سعيد المدني ( المتوفى سنة 100هـ قال عنه ابن معين : ثقة ، وقال عنه الليث بن سعد : كان من العباد المنقطعين أهل الزهد في الدنيا والورع ) أن سعد بن أبي وقاص ( أحد العشرة المبشرين بالجنةى ) قال : " ( ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب ) يعني معاوية وروى ابن كثير أيضاً ( 8 :153) عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني أحد الأئمة الأعلام الحفاظ ( وكان ينسب إلى التشيع ) ، عن معمر بن راشد أبي عروة البصري ثم اليمني وكان أحد الأعلام ، عن همام بن بن منبه الصنعاني وكان ثقة قال : سمعت ابن عباس يقول : " ما رأيت رجلاً أخلق بالملك من معاوية ". وهل يكون الرجل أخلق الناس بالملك إلا أن يكون عادلاً حكيماً ، يحسن الدفاع عن ملكه ، ويستعين الله في نشر دعوة الناس في الممالك الأخرى ، ويقوم بالأمانة في الأمة التي ائتمنه الله عليها ؟ والذي يكون أخلق الناس بالملك هل يلام عثمان على توليته ؟ ويا عجباً كيف يلام عثمان على توليته وقد ولاه من قبله عمر ، وتولى لأبي بكر من قبل عمر ، وتولى بعض عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تصير الخلافة إلى أبي بكر وعمر وعثمان ، إن المخ الذي يعبث به الشيطان فيسول له مثل هذه الوساوس لا شك أنه مخ فاسد ، يفسد على الناس عقولهم ، ومنقطهم قبل أن يفسد عليهم دينهم وتاريخهم ، فمن الواجب على محبي الحق والخير أن يتحاموا كل من يحمل في رأسه مثل هذا المخ الفاسد كما يتحامون المجذوم .
روى الترمذي عن أبي إدريس الخولاني من كبار علماء التابعين ـ وأعلم أهل الشام بعد أبي الدرداء أن عمر ابن الخطاب لما عزل عمير بن سعد الأنصاري الأوسي عن حمص وولى معاوية ـ قال الناس : عزل عميراً وولى معاوية ( قال البغوي في معجم الصحابة : وكان عمير يقال له " نسيج وحده " . قال ابن سيرين : ( إن عمراً كان يسميه بذلك لإعجابه به وكان عميراً من الزهاد ) فقال عمير : لا تذكروا معاوية إلا بخير فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" اللهم اهد به " ويروى أن الذي شهد هذه الشهادة لمعاوية أمير المؤمنين عمر ، فإن كان هو الذي شهدها له وروى دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بأن يهدي الله به فذلك أمر عظيم لعظم مكانة عمر ، وإن كان الذي شهد بذلك عمير بن سعد الأنصاري ـ مع أنه هو المعزول بمعاوية عن ولاية حمص ـ فإن ذلك لا يقل عظمة عما لو كانت الشهادة لمعاوية من عمر ، وقد علمت أن عميراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه = من زهاد الأنصار . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 3 :189) وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سيرة الولاة ، وكان رعيته يحبونه ، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم " ولم يتسع المقام هنا لأكثر من هذا ، وسنكمل الصورة الحقيقية لمعاوية عند ذكر خلافته ، لتعلم إلى أي حد كنا مخدوعين بأكاذيب أعداء الصدر الأول للإسلام .

.
... 10ـ وأما عبد الله بن [ عامر بن ] كريز فولاه ـ كما قال ـ لأنه كريم العمّات والخالات(1)
__________
(1) ـ هو عبشمي الآباؤ ، هاشمي الخئولة . فإن أم أبيه أروى بنت كريز أمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم عمة النبي صلى الله عليه وسلم . ولما ولد أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لبني عبد شمس :" هذا أشبه به منه منكم " ثم تقل في فيه فازدرده ، فقال صلى الله عليه وسلم :" أرجو أن يكون مسقياً " ؟ فكان لا يعالج أرضاً إلا ظهر منها الماء ونشأ سخياً كريماً شجاعاً ميمون النقيبة كثير المناقب . أفتتح خراسان كلها ، وأطراف فارس ، وسجستان ، وكرمان حتى بلغ أعمال غزنة ، وقضى على يزدجرد ابن شهريار آخر ملوك فارس ، ويعتقد الإيرانيون أن سلسلة ملوكهم بدأت بآدمهم الذي يسمونه ( جيومرت ) فلم يزل ملك أولاده منتظماً على سياق إلى أن كان القضاء الأخير عليه بسلطان الإسلام في خلافة أمير المؤمنين عثمان بجهاد هذا العبشمي الآباء الهاشمي الخئولة عبد الله بن عامر بن كريز ، وهي حرقة في قلوب أهل النزعة المجوسية على الإسلام والبغض والدسائس ، وعلى عثمان ، وابن كريز ، فهم يحقدون على هؤلاء ويحاربونهم إلى اليوم بسلاح الكذب ، والبغض الدسائس ، وسيستمر ذلك إلى يوم القيامة ، أما صادقوا الإسلام ممن أنجبت إيران أيام كانت شافعية المذهب ، ولما كان ينبغ منها علماء السنة المحمدية قبل ذلك ، وفيهم كبار الأئمة والمحدثون والفقهاء ، فقد نزهوا قلوبهم عن أن يكون فيها غل للذين آمنوا وجهادوا بأموالهم وأنفسهم حتى فتح الله الأقطار على أيديهم ، وهدى الأمم بسببهم ، فهم يحبونهم ويجلونهم على أقدارهم ، ونحن لا ندعي العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتوقع الخطاء من كل إنسان ، صحابياً كان أو من التابعين أو الذين يتبعونهم بإحسان ، ولكن الذين ملأوا الدنيا بالحسنات كأنها الجبال ، فإن الذي يعمي عنها ، ويدس أنفه في مرمى القاذورات ليستخرج منها ما يذم العظماء به ، وإن لم يجد يختلق ويكذب ، فإن كرامة المسلم على نفسه أن يترفع عن الإصغاء لأمثال هؤلاء والانخداع لهم . ودع عنك فتوح عبد الله بن عامر بن كريز التي وصلت إلى أٌقصى المشارق ، وتقويضه أخر للإمبراطورية المجوسية ، فإن حسناته الإنسانية أيضاً جديرة بالتسجيل ، قال ابن كثير في البداية ( 8 :88) إنه " أول من اتخذ الحياض بعرفة لحجاج بيت الله الحرام وأجرى إليها الماء المعين ". وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 3: 189ـ 190) : " إن له من الحسنات والمحبة في قلوب الناس ما لا ينكر " ومثل هؤلاء الرجال لو كانوا من سلف الإنكليز أو الفرنسيين لخلدوا عظمتهم في كتب الدراسة والثقافة والتهذيب ، فتهافت وزارت معارفنا على نقل ذلك عن كتبهم إلى كتبنا المدرسية ، ليؤمن جلينا بعظمة أسلاف المستعمرين . أما عظمة أسلافنا نحن فقد سلط الشيطان عليها قلوباً فاسدة تفيض بالسوء ، وصدّق أكاذيبها الأكثرون منا فأمسينا كالامة التي لا مجد لها ، بينما هي نائمة على تراث من المجد لا تحلم الإنسانية بمثله .
...

... 11 ـ وأما تولية الوليد بن عقبة فإن الناس ـ على فساد النيات ـ أسرعوا إلي السيئات قبل الحسنات. فذكر الإفترائيون انه إنما ولاه للمعنى الذي تكلم به قال عثمان ما وليت الوليد لأنه أخي (1)، وإنما وليته لأنه ابن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوأمة أبيه . وسيأتي بيانه إن شاء الله (2)
__________
(1) ـ هو أخوه لأمه أروى بنت كريز ، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم .
(2) ـ قد يظن من لا يعرف صدر هذه الأمة أن أمير المؤمنين عثمان جاء بالوليد ابن عقبة من عرض الطريق فولاه الكوفة ، أما الذين أنعم الله عليهم بنعمة الأنس بأحوال ذلك العصر وأهله فيعلمون أن دولة الإسلام الأولى في خلافة أبي بكر تلفقت هذا الشاب الماضي العزيمة الرضيّ الخلق الصادق الإيمان فاستعملت مواهبه في سبيل الله إلى أن توفي أبو بكر ، وأول علمل له في خلافة أبي بكر أنه كان في موضع السر في الرسائل الحربية التي دارت بين الخليفة وقائده خالد بن الوليد في وقعة المذار مع الفرس سنة 12هـ( الطبري 4 : 7 ) ، ثم وجه مدداً إلى قائده عياض غنم الفهري ( الطبري 4 :22) وفي سنة 13هـ كان الوليد يلي لأبي بكر صدقات = قضاعة ، ثم لما عزم الصديق على فتح الشام كان الوليد عنه بمنزلة عمرو بن العاص في الحرمة والثقة والكرامة ، فكتب إلى عمرو ابن العاص وإلى الوليد بن عقبة يدعوهما لقيادة فيالق الجهاد ، فسار ابن العاص بلواء الإسلام نحو فلسطين ، وسار الوليد بن عقبة قائداً إلى شرق الأردن ( الطبري 4 : 29ـ 30) ، ثم رأينا الوليد في سنة 15هـ أميراً على بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة (4: 155) يحمي ظهور المجاهدين في شمال الشام لئلا يؤتوا من خلفهم ن فكانت تحت قيادته ربيعة وتنوخ مسلمهم وكافرهم ، وانتهز الوليد بن عقبة فرصة ولا يته وقيادته على هذه الجهة التي كانت لا تزال مليئة بنصارى القبائل العربية فكان ـ مع جهاده الحربي وعمله الإداري ـ داعياً إلى الله يستعمل جميع أساليب الحكمة والموعظة الحسنة لحمل نصارى إياد وتغلب على أن يكونوا مسلمين كسائر العرب ، وهربت منه أياد إلى الأنضول وهو تحت حكم البيزنطيين ، فحمل الوليد خليفته عمر على كتابة كتاب تهديد إلى فيصر قسطنطينية بأن يردهم إلى حدود الدولة الإسلامية ، وحاولت تغلب أن تتمرد على الوليد في نشره الدعوة الإسلامية بين شبابها وأطفالها ، فغضب غضبته المضرية المؤيدة بالإيمان الإسلامي وقال فيهم كلمته المشهورة :
إذا ما عصبت الرأس مني بمشوذ فغيّك منى تغلب ابنة وائل
وبلغت هذه الكلمة عمر ، فخاف أن يبطش قائده الشاب بنصارى تغلب فيفلت من يده زمانهم في الوقت الذي يحاربون فيه مع المسلمين حمية للعروبة ، فكف عنهم يد الوليد ونحاه عن منطقتهم ، وبهذا الماضي المجيد جاء الوليد في خلافة عثمان فتولى الكوفة له وكان من خير ولاتها عدلاً ورفقاً وإحساناً ، وكانت جيوشه مدة ولايته على الكوفة تسير في آفاق المشرق فاتحة ظافرة موفقة على ما سنذكره فيما بعد .

.
والولاية اجتهاد (1)
__________
(1) ـ للمؤلف في أواخر هذا الكتاب ص 243فصل عنوانه ( نكتة ) أشار فيه إلى المعاني والحقائق التي يلاحظها ولي المر عند " اجتهاده " في تولية الولاة وعزلهم ، وذلك لفقه عظيم ومعارف بديعة بينها أئمة الإسلام وعلماؤه في الفصول التي عقدوها لفمامة وسياسة الدولة وفي كتبهم المصنفة في أصول الدين ، وقد زعم طاغية الشيعة ومدلسهم الحسن بن المطهر الحلي في كتابه منهاج الكرامة أن عثمان ولي أمر المسلمين من لا يصلح للولاية ، فأجابه شيخ الإسلام ابن تيمية في ( منهاج السنة 3 : 173ـ176) والمنتفى منه للذهبي ( 382ـ383) أن علياً رضي الله عنه ولي زياد بن أبي سفيان وولي الأشتر النخعي وولى محمد بن أبي بكر وأمثال هؤلاء ، ولا يشك عاقل أن معاوية بن أبي سفيان كان خيراً من هؤلاء كلهم . قال : ومن العجب أن الشيعة ينكرون على عثمان أنه ولى أقاربه من بني أمية ، ومعلوم أن علياً ولى أقاربه من قبل أبيه وأمه ، فولى عبد الله عباس على اليمن ، وولى على مكة والطائف قثم بن العباس ، وأما المدينة فقيل إنه ولى عليها سهل بن حنيف وقيل ثمامة بن العباس ، وأما البصرة فولى عليها عبيد الله ابن عباس ، وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره ( لأنه تزوج أمه بعد وفاة أبي بكر وكان محمد صغيراً ) . ثم إن الإمامية تدعي أن علياً نص على أولاده في الخلافة ـ أو على ولده ، وولده على ولده الآخر وهلم جرا ـ ومن المعلوم إن كان تولية الأقربين منكراً ، فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال . . . وإذا قال القائل : لعلي حجة فيما فعله ـ قيل له : وحجة عثمان فيما فعله أعظم وإذا ادعى لعلي العصمة ونحو مما يقطع عنه ألسنة الطاعنين ، كان ما يدعى لعثمان من " الإجتهاد " الذي يقطع ألسنة الطاعنين أقرب إلى المعقول والمنقول . . . ثم قال : إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملهم في حياته ، واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم : أبو بكر وعمر ، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال الرسول صلى الله عليه وسلم اكثر من بني عبد شمس ، لأنهم كانوا كثيرين ، وكان فيهم شرف وسؤدد ، فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم في عزة الإسلام على أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية ، واستعمل على نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية ، واستعمل خالد بن سيعد بن العاص على صدقات بني مذحج وعلى صنعاء واليمن حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستعمل عثمان ابن سعيد بن العاص على تيما وعلى خيبر وقرى عرينة ، واستعل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا ثم استعمله على البحرين فلم يزل عليها بعد العلاء بن الحضرمي ( حليف بني أمية ) حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول عثمان : أنا لا أستعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومن جنسهم ومن قبيلتهم ، وكذلك أبو بكر وعمر بعده . . . فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من= بني هاشم بالنص لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل ، وذلك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل ( وانظر أيضا منهاج السنة 3 : 236ـ237) والذي يستعرض حياة عمال عثمان وجهادهم وفضائلهم يراهم في الذروة العليا من رجال الدولة ، ولا يتردد في أنهم من بناة الأساس الأقوم في مجد الإسلام الإداري والعسكري ، ولهم ثواب نتائجه في الفتوح وانتشار دعوة الإسلام بما يعده التاريخ من معجزاته الخارقة للعادات .

وقد عزل عمر سعد بن أبي وقاص . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقدم أقل منه درجة.(1)
... 12ـ وأما قول القائلين في مروان والوليد فشديد عليهم وحكمهم عليهما بالفسق
فسق منهم
مروان رجل عدل ، من كبار الأمة عند الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين أما الصحابة فإن سهل بن سعد الساعدي روى عنه(2) وأما التابعون فأصحابه في السن وان كان جازهم باسم الصحبة في أحد القولين(3)
__________
(1) ـ كان ذلك سنة 21هـ والذين تولوا بعد سعد : عبد الله بن عبد الله بن عتبان ( وفي زمانه كانت وقعة نهاوند ) ثم زياد بن حنظلة ( وألح في الاستعفاء فأعفي وولى بعدهما عمار بن ياسر 4 : 246وما قبلها )
(2) ـ وروايته عنه في صحيح البخاري وغيره .
(3) ـ وفي طليعة من ورى عنه من كبار التابعين زين العابدين علي بن الحسين السبط ، نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2 :123) والحافظ بن حجر في الإصابة ، وترى تفصيله في طبقات الشافعية الكبرى للتاج السبكي في ترجمة اللغوي الشهير أبي منصور محمد بن أحمد بن الأزهر صاحب تهذيب اللغة ( 282ـ370) و ممن نص الحافظ ابن حجر على روايتهم عن مروان : سعيد بن المسيب رأس علماء التابعين وإخوانه من الفقهاء السبعة أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وعروة بن الزبير ، وأضرابهم كعراك بن مالك الغفاري المدني فقيه أهل دهلك وكان يصوم الدهر ، وكعبد الله بن شداد بن الهاد أحد الرواة عن عمر وعلي ومعاذ ، وأن رواية عروة بن الزبير عن مروان في كتاب الوكالة من صحيح البخاري وفي مسند الإمام أحمد (4: 321و323و326و328و 5 ـ189) ورواية عراك عن مروان نقلها إمام أهل مصر الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب في مسند أحمد ( 7 :317و323) والذي يتأمل الأحاديث المروية عن مروان يجد جملتها من الأئمة الثقات تتسلسل روايتهم عنه مدة جيلين وأكثر وكلهم أعلى مرتبة في الإسلام من الذين يبردون الغل الذي في قلوبهم بالطعن في مروان ومن هو خير من مروان ، بل في رواة أحاديث مروان عبد الرزاق إمام أهل اليمن وكانت فيه نزعة تشيع ، وفي مسند أحمد ( 6: 212) حديث عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنه كان رسول مروان إلى أم المؤمنين أم سلمة في تحقيق بعض الأحكام الشرعية وفي 6: 299 من مسند أحمد نموذج لعظيم عناية مروان بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى ما يمكن أن يصدر عن أئمة المسلمين وأمرائهم .

وأما فقهاء الأمصار فكلهم على تعظيمه واعتبار خلافته والتلفت إلى فتواه والانقياد إلى روايته وأما السفهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون
على أقدارهم .
وأما الوليد فقد روى بعض المفسرين ان الله سماه فاسقا في قوله {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة } [ ا لحجرات 6] فإنها ـ في قولهم ـ نزلت فيه أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق فاخبر عنهم انهم ارتدوا فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم خالد بن الوليد فتثبت في أمرهم فبين بطلان قوله وقد اختلف فيه فقيل نزلت في ذلك (1)
__________
(1) ـ كنت في ما مضى أعجب كيف تكون هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة ويسميه الله فاسقاً ، ثم تبقى له في نفس خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر المكانة التي سجلها له التاريخ وأوردنا الأمثلة عليها في هامش سابق عند استعراضنا ماضيه في بضعة عشر عاماً قبل أن يوليه عثمان الكوفة ، إن هذا التناقض ـ بين ثقة أبي بكر و عمر بالوليد بن عقبة ، وبين ما كان ينبغي أن يعامل به لو أن الله سماه قاسقاً ـ حملني على الشك في أن تكون الآية نزلت فيه ، لا استبعاداً لوقوع أمر من الوليد يعد به فاسقاً ولكن استبعاداً لأن يكون الموصوم بالفسق في صريح القرآن محل الثقة من رجلين لا نعرف في أولياء الله عز وجل بعد رسوله صلى الله عليه وسلم من هو أقرب إلى الله منهما وبعد أن ساورني هذا الشك أعدت النظر في الأخبار التي وردت عن سبب نزول الآية { إن جاءكم فاسق بنبأ . . . } فلما عكفت على دراستها وجدتها موقوفة على مجاهد ، أو قتادة أو ابن أبي ليلى ، أو يزيد بن رومان ، ولم يذكر أحد منهما أسماء رواة هذه الأخبار في مدة مائة سنة أو أكثر مرت بين أيامهم وزمن الحادث ، وهذه المائة من السنين حافلة بالرواة من مشارب مختلفة وإن الذين لهم هوى في تشويه سمعة مثل الوليد ومن هم أعظم مقاماً من الوليد قد ملأوا الدنيا أخباراً مريبة لها قيمة علمية ، وما دام رواة تلك الأخبار في سبب نزول الآية مجهولين من علماء الجرح والتعديل بعد الرجال الموقوفة هذه الأخبار عليهم وعلماء الجرح والتعديل لا يعرفون من أمرهم حتى ، حتى ولا أسمائهم [ شيئاً ] ، فمن غير الجائز شرعاً وتاريخاً الحكم بصحة هذه الأخبار المنقطعة التي لا نسب لها وترتيب الأحكام عليها وهنالك خبران موصولان أحدهما عن أم سلمة زعم موسى بن عبيدة أنه سمعه من ثابت مولى أم سلمة وموسى بن عبيدة ضعفه النسائي وابن المديني وابن عدي وجماعة ، وثابت المزعوم أنه مولى أم سلمة ليس له ذكر في كل ما رجعت إليه من كتب العلم ن فلم يذكر في تهذيب التهذيب ولا في تقريب التهذيب ولا في خلاصة تذهيب الكمال ، بل لم أجده وفي قفصي الاتهام أعني ( ميزان الاعتدال ) و( لسان الميزان ) وذهبت إلى مجموعة أحاديث أم سلمة في مسند الإمام أحمد فقرأتها واحداً واحداً فلم أجد فيها هذا الخير بل لم أجد لأم سلمة أي خبر ذكر فيه اسم مولى لها يدعى ثابت ، زد على كل هذا أن أم سلمة لم تقل في هذا الخبر ـ إن صح عنها ـ ولا سبيل إلى أن يصح عنها ـ إن الآية نزلت في الوليد بل قالت ـ أي قيل على لسانها ـ " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رجلا ) في صدقات بين المصطلق " . والخبر الثاني الموصول رواه الطبري في التفسير عن ابن سعد عن أبيه عن عمه عن أبيه عن أبيه عن ابن عباس والطبري لم يلق ابن سعد ولم يأخذ عنه لأن ابن سعد لما توفي بغداد سنة 23هـ كان الطبري طفلا في نحو السادسة من عمره ولم يخرج إلى ذلك الحين من بلده آمل في طبرستان لا إلى بغداد ولا لغيرها وابن سعد وإن كان في نفسه من أهل العدالة في الدين والجلالة في العلم ، إلا أن هذه السلسة من سلفه يجهل علماء الجرح والتعديل أسماء أكثرهم فضلا عن أن يعرفوا شيئا من أحوالهم ( وبعد كتابة ما تقدم للطبعة الأولى من كتابنا تبين لي أن ابن سعد الذي ورى عنه الطبري هو محمد بن سعد العوفي ن وقد وصف الشيخ أحمد شاكر سنده بأنه ( سند مسلسل بالضعفاء من أسرة واحدة ) انظر تفسير الطبري طبعة دار المعارف 1 :263) فكل هذه الأخبار من أولها إلى آخرها لا يجوز أن يؤاخذ بها مجاهد كان موقع ثقة أبي بكر وعمر وقام بخدمات للإسلام يرجى له بها أعظم المثوبة إن شاء الله أضف إلى كل ما تقدم أنه في الوقت الذي حدث فيه لبني المصطلق الحادثة التي نزلت فيها الآية كان الوليد صغير السن كما سيأتي في الفقرة التالية .

وقيل في علي والوليد في قصة أخرى وقيل إن الوليد سيق يوم الفتح في جملة الصبيان إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح رؤوسهم وبرك عليهم إلا هو فقال انه كان على رأسي خلوق فامتنع صلى الله عليه وآله وسلم من مسه فمن يكون في مثل هذه السن يرسل مصدقا؟!(1)
__________
(1) ـ هذا الخبر عن سن الوليد بن عقبة يوم فتح مكة رواه الإمام في مسنده ( 4 : 32 الطبعة الأولى ) عن شيخ له هو فياض بن محمد الرقي عن جعفر بن برقان الرقي عن ثابت بن الحجاج الكلابي الرقي عن عبد الله الهمداني هو ( عبد الله بن مالك بن الحارث ) عن الوليد بن عقبة ، والظاهر أن الوليد بن عقبة تحدث بهذا الحديث عندما اعتزل الناس في السنين الأخيرة من حياته واختار الإقامة في قرية له من أعمال الرقة ، فتسلسلت رواية الخبر في الروااة الرقيين وأخذه الإمام أحمد عن شيخ له منهم وعبد الله الهمداني ثقة لكن التبس اسمه في غر هذه الرواية بهمداني آخر يكنى أبا موسى واسمه مالك بن الحارث ( أي على اسم والد عبد الله الهمداني ) وهو مجهول عند أهل الجرح والتعديل أما عبد الله الهمداني الذي ينتهي إليه الخبر في رواية الإمام أحمد فمعروف وموثوق به وعلى روايته وأمثالها اعتمد القاضي ابن العربي في الحكم على سن الوليد بن عقبة بأنه كان صبياً عند فتح مكة وأن الذي نزلت فيه آية ( إن جاءكم فاسق بنبأ ) هو شخص آخر ومن عجيب أمر الذين كان لهم هوى في تشويه سمعة هذا الصحابي الشاب المجاهد الطيب النفس الحسن السيرة في الناس أنهم حاولوا إدحاض حجة صغر سنه في ذلك الوقت بخر آخر روي عن قدومه مع أخيه عمارة إلى المدينة في السنة السابعة للهجرة ليطلبا من النبي صلى الله عليه وسلم رد أختهما أم كلثوم إلى مكة وأصل هذا الخبر ـ إن صح ـ مقدم فيه اسم عمارة على اسم الوليد وهذا مما يستأنس به في أن عمارة هو الأصل في هذه الرحلة وأن الوليد جاء في صحبته وأي مانع يمنع قدوم الوليد= =صبياً بصحبة أخيه الكبير كما يقع مثل ذلك في كل زمان ومكان ؟ فقول الوليد إنه كان في سنة الفتح صبياً ليس في خبر قدومه مع أخيه الكبير إلى المدينة في السنة السابعة ما يمنعه أو يناقضه فإذا تقرر عندك أن جميع الأخبار الواردة بشأن الوليد بن عقبة في سبب نزول آية { إن جاءكم فاسق بنبأ } لا يجوز علمياً أن يبنى عليها حكم شرعي أو تاريخي ، وإذا أضفت إلى ذلك حديث مسند الإمام أحمد عن سن الوليد في سنة الفتح ، يتبين لك بعد ذلك حكمة استعمال أبي بكر وعمر للوليد وثقتهما به واعتمادهما عليه مع أنه كان لا يزال في صدر شبابه .

وبهذا الاختلاف يسقط العلماء الأحاديث القوية وكيف يفسق رجل يتمثل هذا الكلام ؟ فكيف برجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
... وأما حده في الخمر ، فقد حد عمر قدامة بن مظعون على الخمر وهو أمير وعزله
ثم قيل إنه صالحه(1) وليست الذنوب مسقطة للعدالة إذا وقعت منها التوبة(2)
__________
(1) ـ قدامة بن مضعون الجمحي أحد السابقين الأولين ، هاجر الهجرتين وشهد بدراً وكان صهر أمير المؤمنين عمر على أخته ، وقيل بل هو خال أم المؤمنين حفصة بنت عمر وأخيها عبيد الله ، وفي إمارة قدامة على البحرين في خلافة عمر قدم الجارود سيد بني عبد القيس على عمر من البحرين وادعى أن قدامة شرب فسكر ، فقال له عمر : من يشهد معك ؟ قال : أبو هريرة فاستشهد أبا هريرة فقال : لم أره شرب ، ولكني رأيته سكران يقئ فقال له عمر : لقد تنطعت في الشهادة واستقدم قدامة من البحرين فقال الجارود لعمر : أقم على هذا كتاب الله فقال له عمر : أخصم أنت أم شهيد ؟ فقال شهيد فقال عمر : قد أديت شهادتك فصمت الجارود ، ثم غدا على عمر فقال : أقم على هذا حد الله ، فقال عمر : لتمسكن لسانك أو لأسوأنك . فقال : يا عمر ، ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك وتسوؤني ثم جئ بزوجة قدامة فأقامت الشهادة على زوجها ، وأراد عمر أن يقيم عليه الحد فقال له الصحابة : لا نرى أن تحده ما دام مريضاً ثم عادوه فقالوا له كما قالوا من قبل فقال عمر : لأن يلقى الله تحت السياط احب إلى من أن ألقاه وهو في عنقي ، وجلده فغاضبه قدامة وعند قفولهما من الحج جئ به إلى عمر فكلمه عمر واستغفر له ، ومن حسن حظ قدامة بن مضعون انه قرشي من بني مذحج ولو أنه كان قرشياً من بني عبد شمس لانطلقت ألسنة السوء بالبذاءة عليه واختراع الأكاذيب فيه ما دام في الدنيا كذب .
(2) ـ هذا حق ، ولكن في مثل ما تقدم عن قدامة بن مضعون ، وفي مثل ما هو مشهود عند الناس عن أبي محجن الثقفي الشاعر الفارسي الذي كان له يوم أغر في حرب القادسية أما الوليد بن عقبة المجاهد الفاتح العادل المظلوم ( الذي كان منه لأمته كل ما استطاع من عمل طيب ، ثم رأى بعينه كيف يبغي المبطلون على الصالحين وينفذ باطلهم فيهم ، فاعتزل الناس بعد مقتل عثمان في ضيعة له منقطعة عن صخب المجتمع ، وهي تبعد خمسة عشر ميلاً عن بلدة الرقة من أرض الجزيرة التي كان يجاهد فيها ويدعو نصاراها إلى الإسلام في خلافة عمر ) فقد آن لدسائس الكذابين فيه أن ينكشف عنها عوارها ولا يضير هذا الرجل أن يتأخر انكشاف الحق فيه ثلاثة عشر قرناً فإن الحق قديم ولا يؤثر في قدمه احتجاجه أراد الوليد بن عقبة ـ منذ ولي الكوفة لأمير المؤمنين عثمان ـ أن يكون الحاكم المثالي في العدل والنبل والسيرة الطيبة مع الناس كما كان المحارب المثالي في جهاده وقيامة للإسلام بما يليق بالذائدين عن دعوته ، الحاملين لرايته الناشرين لرسالته وقد لبث في إمارته على الكوفة خمس سنوات وداره ـ إلى اليوم الذي زايل فيه الكوفة ـ ليس لها باب يحول بينه وبين الناس ممن يعرف أولا يعرف ، فكان يغشاها كل من شاء متى شاء من ليل أو نهار ولم يكن بالوليد حاجة لأن يستتر عن الناس .
... ... ... فالستر دون الفاحشات ولا يلقاك دون الخير من ستر
... وكان ينبغي أن يكون الناس كلهم محبين لأميرهم الطيب لأنه أقام لغربائهم دور الضيافة وأدخل على الناس خيراً حتى جعل يقسم المال للولائد والعبيد ، ورد على كل مملوك من فضول الأموال في كل شهر ما يتسعون به من غير ان ينقص مواليهم من أرزاقهم وبالفعل كانت جماهير الشعب متعلقة بحب هذا الأمير المثالي طول مدة حكمه إلا أن فريقاً من الأشرار وأهل الفساد أصاب نبيهم سوط الشريعة بالعقاب على يد الوليد فقفوا حياتهم على ترصد الأذى له ومن هؤلاء رجال يسمى أحدهم أبا زينب بن عوف الأزدي وآخر يسمى أبا مورع وثالث اسمه جندب أو زهير ، فبضت السلطات على أبنائهم في ليلة نقبوا فيها على ابن الحيسمان داره وقتلوه وكان نازلاً بجواره رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل السابقة وهو أبو شريح الخزاعي حامل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش خزاعة يوم فتح مكة فجاء هو وابنه من المدينة ليسيرا مع أحد جيوش الوليد بن عقبة التي كان يواصل توجيهها نحو المشرق للفتوح ونشر دعوة الإسلام ، فشهد هذا الصحابي وابنه في تلك الليلة سطو هؤلاء الأشرار على منزل ابن الحيسمان ، وأدى شهادته هو وابنه على هؤلاء القتلة السفاحين فأنفذ الوليد فيهم حكم الشريعة على باب القصر في الرحبة ، فكتب آباؤهم العهد على أنفسهم للشيطان بأن يكيدوا لهذا الأمير الطيب الرحيم وبثوا عليه العيون والجواسيس ليترقبوا حركاته ، وكان بيته مفتوحاً دائماً وبينما كان عنده ذات يوم ضيف له من شعراء الشمال كان نصرانياً في أخواله من بني تغلب بأرض الجزيرة وأسلم على يد الوليد فظن جواسيس الموتورين أن هذا الشاعر الذي كان نصرانياً لا بد أن يكون يشرب الخمر ولعل الوليد أن يكرمه بذلك فنادوا أبا زينب وأبا المورع وأصحابهما ، فاقتحموا الدار على الوليد من ناحية المسجد ولم يكن لداره باب فلما فوجئ بهم نحى شيئاً أدخله تحت السرير ، فأدخل بعضهم يده فأخرجه بلا إذن من صاحب الدار ، فلما أخرج ذلك الشئ من تحت السرير إذا هو طبق عليه تفاريق عنب فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون من الخجل ، وسمع الناس بالحكاية فأقبلوا يسبونهم ويلعنونهم ، وقد ستر الوليد عليهم ذلك وطواه عن عثمان وسكت عن ذلك وصبر ، ثم تكررت مكايد جندب وأبي زينب وأبي المورع وكانوا يغتنمون كل حادث فيسيئون تأويله ويفترون الكذب وذهب بعض الذين كانوا عمالا في الحكومة ونحاهم الوليد عن أعمالهم لسوء سيرتهم فقصدوا المدينة وجعلوا يشكون الوليد لأمير المؤمنين عثمان ويطلبون منه عزله عن الكوفة وفيما كان هؤلاء في المدينة دخل أبو زينب وأبو المورع دار الإمارة بالكوفة مع من يدخلها من غمار الناس وبقيا فيها إلى أن تنحى الوليد ليستريح فخرج بقية القوم ، وثبت أبو زينب وأبو المورع إلى أن تكنا من سرقة خاتم الوليد من داره وخرجا فلما استيقظ الوليد لم يجد خاتمه فسأل عنه زوجتيه ـ وكانتا في مخدع تريان منه زوار الوليد من وراء ستر ـ فقالتا إن آخر من بقي في الدار رجلان ، وذكرنا صفتيهما وحيلتهما للوليد ، فعرف أنهما أبو زينب وأبو المورع ، وأدرك أنهما لم يسرقا الخاتم إلا لمكيدة بيتاها فأرسل في طلبهما فلم يوجدا في الكوفة ، وكان قد سافرا تواً إلى المدينة ، وتقدما شاهدين على الوليد بشرب الخمر ( واكبر ظني أنهما استلهما شهادتهما المزورة من تفاصيل الحادث الذي سبق وقوعه لقدامة بن مضعون في خلافة عمر ( فقال كنا من غاشيته فدخلنا عليه وهو يقئ الخمر فقال عثمان ما يقئ الخمر إلا شاربها فجئ بالوليد من الكوفة فحلق لعثمان وأخبره خبرهم ، فقال عثمان : " نقيم الحدود ويبوء شاهد الزور بالنار " .
... هذه قصة اتهام الوليد بالخمر كما في حوادث سنة 30 هـ من تاريخ الطبري وليس فيها ـ على تعدد مصادرها ـ شئ غير ذلك وعناصر الخبر عند الطبري أن الشهود على الوليد اثنان من الموتورين الذين تعادت شواهد غلهم عليه ، ولم يرد في الشهادة ذكر الصلاة من أصلها فضلا عن أن تكون اثنتين أو أربعاً ، وزيادة ذكر الصلاة هي الأخرى أمرها عجيب ، فقد نقل خبرها عن الحضين بن المنذر ( أحد أتباع علي ) أنه كان مع علي عند عثمان ساعة أقيم الحد على الوليد ، وتناقل الناس عنه هذا الخبر فسجله مسلم في صحيحه ( كتاب الحدود ) بلفظ " شهدت عثمان ابن عفان وأتي بالوليد قد صلى الصبح ( ركعتين ) ثم قال : أزيدكم ؟ فشهد عليه رجلان بأنه تقياً أحدهما حمران أنه شرب الخمر وشهد اخر أنه أنه راه يتقيأ ) فالشاهدان لم يشهدا بأن الوليد صلى الصبح ركعتين وقال أزيدكم بل شهد أحدهما بأنه شرب الخمر وشهد الآخر بأنه تقيأ أما صلاة الصبح ركعتين وكلمة أزيدكم فهي من كلام حضين ، ولم يكن حضين من الشهود ، ولا كان في الكوفة في وقت الحادث المزعوم ، ثم إنه لم يسند هذا العنصر من عناصر الاتهام إلى إنسان معروف ومن العجيب أن نفس الخبر الذي في صحيح مسلم وارد في ثلاثة مواضع من مسند أحمد مروياً عن حضين ، والذي سمعه من حضين في صحيح مسلم هو الذي سمعه منه في مسند احمد بمواضعه الثلاثة ، فالموضعان الأول والثاني ( ج1 ص82 و140 ) ليس فيهما ذكر الصلاة عن لسان حضين فضلاً عن غيره ، فلعل أحد الرواة من بعده أدرك أن الكلام عن الصلاة ليس من كلام الشهود فاقتصر على ذكر الحد ، وأما في الموضع الثالث من مسند أحمد ( ج1ص 144 ) فقد جاء على لسان حضين " أن الوليد صلى بالناس الصبح أربعاً ، وهو يعارض ما جاء على لسان حضين نفسه في صحيح مسلم ، ففي إحدى الروايتين تحريف [ و ] الله أعلم بسببه.
وفي الحالتين لا يخرج ذكر الصلاة عنه أنه كلام حضين وحضين ليس بشاهد ، ولم يرو عن شاهد ، فلا عبرة بهذا الجزء من كلامه ، وبعد أن علمت بأمر الموتورين فيما نقله الطبري عن شيوخه ، أزيدك علماً بأمر حمران [ المذكور في الرواية ] وهو عبد من عبيد عثمان كنا قد عصى الله قبل شهادته على الوليد فتزوج في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم امرأة مطلقة ودخل بها وهي في عدتها من زوجها الأول ، فغضب عليه عثمان لهذا ولأمور أخرى قبله فطرده من رحابه وأخرجه من المدينة ، فجاء الكوفة يعيث فيها فساداً ، ودخل على العبد الصالح عامر بن عبد القيس فافترى عليه الكذب عند رجال الدولة وكان سبب تسييره إلى الشام وأنا أترك أمر هذا الشاهد والشاهدين الآخرين قبله إلى ضمير القارئ يحكم عليهم بما يشاء ، وفي اجتهادي أن مثل هؤلاء الشهود لا يقام بهم حد الله على ظنين من السوقة والرعاع ، فكيف بصحابي مجاهد وضع الخليفة في يده أمانة قطر وقيادة جيوش فكان عند الظن به من حسن السيرة في الناس وصدق الرعاية لأمانات الله ، وكان موضع الثقة عند ثلاثة من اكمل خلفاء الإسلام ابي بكر وعمر وعثمان ، وإن قرابة الوليد من عثمان التي يزعم الكذبة أنها سبب المحاباة منه لهم إنما كانت سبب التسامح من عثمان في عزلهم يتسلون بأعراض الناس يتفكهون بأبيات ستة منسوبة إلى ماجن خسيس النفس وردت في ص85 من ديوانه ولا تحملهم سليقة النقد على الشعور بما في هذه الأبيات من التضارب والتعارض فأين مدحه فيها للوليد بقوله :
... ... ورأوا شمائل ماجد أنف بعطي على الميسور والعسر
... ... فنزعت مكذوباً عليك ولم تردد إلى عوز ولا فقر
من بقية الأبيات التي فيها :
... ... نادى وقد تمت صلاتهم أأزيدكم ثملا وما يدري
... فالذي يقول البيت الأخير لا يعقل أن يقول معه البيتين الأولين فيكون مادحاً وذاماً في قطعة واحدة لا تزيد على ستة أبيات : وقد كانت لي مقالة مطولة عن ( التخليط في الشعر ) ضربت فيها الأمثلة على دس الأبيات غريبة في قصائد من وزنها ورويها لغير ناظمها .
وعلى كل حال فالشهود الذين شهدوا بين يدي عثمان لم يدّعوا حكاية الصلاة مع أنهم لم يكونوا ممن يخاف الله واليوم الاخر والآن أقولها لوجه الله صريحة ومدوية إن الوليد لو كان من رجال التاريخ الأوربي كالقديس لويس الذي أسرناه في دار ابن لقمان بالمنصورة لعدوه قديساً لأن لويس التاسع لم يحسن إلى فرنسا كإحسان الوليد بن عقبة إلى أمته ولم يفتح للنصرانية كفتح الوليد للإسلام ، والعجب لأمة تسئ إلى أبطالها وتشوه جمال تاريخها وتهدم أمجادها كما يفعل الأشرار منا ، ثم ينتشر كيد هؤلاء الأشرار حتى يظن الأخيار أنه هو الحق .

وقد قيل لعثمان إنك وليت الوليد لأنه أخوك لأمك أروى بنت كريز ابن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس فقال بل لأنه ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حكيم البيضاء جدة عثمان وجدة الوليد لأمهما أروى المذكورة أم حكيم توأمة عبد الله أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي حرج على المرء ان يولي أخاه أو قريبه ؟
13ـ وأما إعطاؤه خمس أفريقية لواحد فلم يصح (1)على أنه
__________
(1) ـ والذي صح هو إعطاؤه خمس الخمس لعبد الله بن أبي سرح جزاء جهاده المشكور ، ثم عاد فاسترده منه .
... جاء في حوادث سنة 27هـ من تاريخ الطبري أن عثمان لما أمر عبد الله بن سعد بن بي سرح بالزحف من مصر على تونس لفتحها قال له: " إن فتح الله عليك غداً إفريقية فلك مما أفاء الله على المسلمين من الغنيمة نفلاً " فخرج بجيشه حتى قطعوا أرض مصر وأوغلوا في أرض أفريقية وفتحوها سهلها وجبلها ، وقسم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم وأخذ الخمس وبعث أربعة أخماسه إلى عثمان مع وثيمة النصري ، فشكا وفد ممن معه ما أخذه عبد الله بن سعد ، فقال لهم عثمان : أنا أمرت له بذلك ، فإن سخطتم فهو رد ، قالوا : إنا نسخطه ، فامر عثمان عبد الله بن سعد بأن يرده فرده ، ورجع عبد الله بن سعد إلى مصر وقد فتح إفريقية وقد ثبت في السنة تنفيل أهل الغناء والبأس في الجهاد ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مكافأة سلمة بن الأكوع في إغارة عبد الرحمن الفزاري على سرح النبي صلى الله عليه وسلم [ أنظر المنتقى للمجد ابن تيمية 4314 وفي غزوات أخرى 4319، 4321)

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نور الدغاء

  قلت المدون سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القديرالمقتدرالملك القدوس السلام المؤمن ال...